منى سعيد. جمر وندى .
عبد الحميد برتو
باحث
صدر قبل أيام في بغداد كتاب للصحفية والمترجمة منى سعيد. وصفته بفصول من سيرة ذاتية. يضم العمل بين دفتيه 247 صفحة. شعرت من الأسطر الأولى بأنه أكثر من مجرد أحداث منفصلة في سيرة سيدة مثقفة عراقية. إنه تسجيل أمين لحال ويوميات العائلة العراقية، ولإنماط العيش في ومع هموم الآخرين والوطن ككل. نعم إنه سجل ذاتي، ولكنه في محيطه العام. لا مبالغة في القول: إن مجرد عبارة سيدة ومثقفة وعراقية تعني، في الغالب، الكثير من المرارات وحتى الأهوال، مع قليل أو لحظات من النَدى. تصبح في مثل تلك الأحوال حالات التمرد على القهر والخضوع للكثير من العاديات، الخاصة منها والعامة، ضرورة وقيمة ومحط فخر.
تكونت البنية الثقافية والفنية والمهنية الأولى لمنى سعيد في المدرسة الرحبة لإتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية وإتحاد الشبيبة الديمقراطي، ثم في الحزب الشيوعي العراقي، خاصة في جريدته المركزية ـ طريق الشعب. ظلت الكاتبة وفية للأركان الأساسية لتلك المدرسة. عَلَّمَت نفسها كيفية مواجهة المواقف الصعبة، حين تتعرض تلك البيئة أو المدرسة الى المصادرة أو القمع أو الغدر، أو حتى الإهمال الذاتي، وعلى مواجهة المتغيرات القاسية، وهي عزلاء ووحيدة.
جاءت لغة الكتاب سليمة وخالية، من أي تعقيد أو مط أو محاولات تجميل أو تزويق قسرية. فرض أسلوب الكتابة الصحفية نفسه على الجزء الأعظم من الكتاب، بتلقائية محببة، جميلة وواضحة. تدعمها روحية سمحة ومرنة ومعاندة أحياناً، خاصة في تناول وعرض: إشكاليات الواقع السياسي في مجرى منعطفاته الحادة، العلاقات والمسؤوليات العائلية، تصرفات زملاء وزميلات الدراسة والعمل، الأمثلة المؤثرة في المساندة والغدر وغيرها من العوامل والمؤثرات، التي تعج بها الحياة الطبيعية، ناهيك عن الحياة ذات الطبيعة العاثرة.
إن الصدق الذي إنطوى عليه الكتاب، وَلَّدَ لدي شعور بأني لا أقرأ كتاب سيرة بمختلف جوانبها، الخاصة منها والعامة، إنما في جلسة إستماع ودية مع زميلة، سعت الى إطلاق ذاكرتها وذكرياتها معاً، بثقة ودون تردد وعلى السجية. كما تجسد الصدق في تناول بعض المآسي والبطولات والمحن في مواجهة المظالم. طبعاً لا تنعدم في الوقت ذاته مصادفات أو مواجهات مع حالاتٍ من المكر والضعف الإنساني والغدر والوشايات، وحتى الكراهية دون مبرر، المتوقعة منها وغير المتوقعة.
تصف كل تلك الأوضاع والمواجهات بوضوح وصدق تامين، لا أجد حرجاً في القول: لا ريب فيهما. يأتي كل ذلك، لا على حساب قوة تشخيص أحداث ووقائع السيرة ومصداقيتها. أستطيع القول: إن كل الحالات التي جرى تناولها، مرت بتحقق من كل إجراءات التقدير النوعي والكمي للأحداث والحوار الذاتي بصددها، من خلال مصفاة الصدق. أما طبيعة السرد ونوعيته، فقد كانا علي هيئة أحداث تبدو مستقلة ومنتقاة. هذا خلق صعوبة في تتبع ورسم خطٍ عامٍ لسير تلك المحطات. أعني إعادة روايتها، أو إستذكارها ثانية، أو ترتيب مواقع الأحداث فيها، من حيث الزمان والمكان.
يُعَدُ نجاحاً غير مشكوك فيه، حين يُحقق أيُّ كتاب المقولة الشهيرة: “الكتاب يقرأ من عنوانه”. إن كتاب “جمر وندى” لمنى سعيد حقق إضافة الى الأبعاد الخاصة بتلك المقولة أموراً أخرى أبعد مسافة، هي: إمكانية العيش مع أحداث تلك الفصول، وفتح أبوابها للتصور وللتذكر، والمحاكاة مع الفترات التي تناولتها السيرة. يوحي تقديم الجمر على النَدى ببعض الدلالات عن المحيط العام، الذي إحتوى سير الوقائع. هذا فضلاً عن كونه يختصر أسرار رحلة العمر. يؤكد أن فترات الجمر هي التي شغلت المساحة الأوسع. كما إن العلاقة بين الجمر والندى فيها تنافر في الأدوار. يطفئ الندى الجمر، والجمر قد يبخر بلل الندى.
يظهر الجمر أشد حرارة أو دفئاً أو ضراوة حين يهدأ اللهب، ولكنه أبقى زمناً. ولا جمر دون المِجْمَرَة، وهي هنا البلاد كلها. تطفيء الأمطار النيران، ولكن الندى يمنع إتقادها أصلاً. تدخل كلمتا “جمر وندى” القارئ في دوامة الحقائق الطبيعية وإنعكاسات على الإنسان، حتى قبل أن يطالع السطر الأولى. تركت هاتان الكلمتان عندي تصوراً محتملاً عن سيرة، تشبه تضاريس الطبيعة وإنفعالاتها وجمالها وغضبها وعطاؤها وشح موادها في الزمان والمكان.
بعد أن يحملني عنوان السيرة الذاتية للكاتبة والصحفية والزميلة منى سعيد الى عوالم الكتاب المتوقعة. وجدت نفسي أمام إهداء يحمل قيماً إجتماعية تفخر بها شعوب الإرض، التي مازالت متمسكة بها، أو تلك التي تشكو فقدانها. إنها القيم العائلية التي يعبر عنها بالتماسك والتحاب والتعاون، وتبادل وتحمل حصيلة معطيات الأيام بصورة مشتركة. كتبت الإهداء على النحو التالي: (إلى أمي وأبي، وإلى الجيل الجديد من عائلتي ممن لا يعرفون ماذا حلَّ بنا. منى).
بدأت الكاتبة منى سعيد مقدمتها: “لئلا يداهمني النسيان، وينخرني العدم، نفضت سجادة أيامي، لملمت أطرافها، ناسجة ما تهرأ منها. نفخت رماد تفصيلات خمدت جمراتها ولم تزل توخزني .. تلسعني بلظى حرقة مستعرة لا تنطفئ .. أتصالح معها أحيانا، أرسم بظلال الكلمات زهور بساتين، وطرائف حكايا، وأقطف منها فاكهة الذكرى .. إذ يصبح التذكّر بلسماً حين تحل النكبات وتتربع الرزايا”.
توهمت في البدء أن الكاتبة إجتاحتها موجة كآبة عابرة أو طارئة. إذ طغت نسبة مشاهد الجمر على مشاهد النَدى. تبدد ذلك الوهم بعد التعرف على العواصف الصحية والسياسية والعائلية التي إجتاحت حياة الكاتبة. كسرت فقرتان قطنيتان لها أثناء حادثة هبوط إضطراري لطائرة إستقلتها في رحلة عمل، تعاني من نسبة روماتزم عالية جداً، وعانت من إصابة بسرطان الثدي.
لم أقف عند حد الإعجاب بوصف المشاهد الحزينة، بل كدت أعيشها فعلاً، وليس مجرد حالة تصور أو إقتراب. تناولت الكاتبة أدوار أجيال الأسرة ببراعة المنظر الإجتماعي، أليس ملاحظة الوقائع واحدة من أهم مراحل التتبع العلمي. تروي حياة جدتها أم سعيد التي ترملت، حين خطفت الكوليرا زوجها “أبو سعيد”. تعرض جوانب من الأحدث المؤلم في سجل الأمراض الفتاكة التي كانت تعصف بالأجيال. مات أبو الكاتبة بسرطان الدم في العام 1967. تفخر الكاتبة بموقف أمها، خاصة مساندتها للأب في عمله بتجارة التبوغ. تركت الأم العمل المضني بتنظيف التبغ ونخله، دعماً لتجارة الأب. لكنها لم تسلم من المرض، بل أصابها بمقتل. تواصل العمّة “أم سعيد” هيمنتها وقهرها ومناكداتها مع زوجة الإبن، على الرغم من أن الأخيرة مريضة شارفت على الموت. لم تجدِ معها وصفات أطباء الحلة وبغداد حلاً، ولكن الأب سعيد العاشق المتيَّم تخلي عن تجارته ومصالحه، وباع معمله ليرافق رحلة علاج حبيبته وأم عياله في بيروت.
حين نفضت الكاتبة سجادة أيامها، ولملمت أطرافها. وقف أمامها مشهد رحيل والدها. حفر الرحيل أخدوداً عميقاً في ذاكرة الطفلة. وصفت تلك اللحظات الموجعة ببراعة فنية عالية على أوتار آلة الحزن. ربما لو شاء أي متخصص إختيار أدق وصف لرد فعل العراقيين على الموت، خاصة عند النساء، لإنتخب الوصف الملحمي لمنى سعيد. إختصرت الملاية التي ألهبت نيران الحزن عند كل الحاضرت في الوداع الأخير لرب الأسرة ـ سعيد، بعبارة: “مظلومة مفيدة تريد واليها”. مفيدة هي الأخت الكبرى للكاتبة. تجسيد تلك الكلمات قسوة حالة اليتم ومتاعبها، تحمل معان تدركها وتفسرها القيم الإجتماعية ونظام العلاقات العائلية السائد في المجتمع كله.
تجاوزت الكاتبة منطوق المثل القائل: “كل فتاة بأبيها معجبة”. كتبت بعقلية المراقب المتبصر. بررت إعجابها بشخصية الوالد الحاج سعيد. بأنه كان يتعامل بروح صداقة حميمة مع كل درجات ذوي القربي. احترق قلبه حين اعتقلت إبنته الكبرى “مفيدة”، لأسباب سياسية، وهي طفلة لم يزد عمرها على 16 ربيعاً. عند شعوره بصعوبة مرض زوجته نقلها الى بيروت للترفيه والعلاج مخاطراً بمصير تجارته. يتعامل مع الأبناء بثقة وإحترام قبل المسؤولية الأبوية. إن خصال الحاج سعيد خلقت الحالة التي وصفتها الكاتبة عند رحليه: “خرجت النسوة إلى الشارع حاسرات الرؤوس، وقصت عمتي ضفيرتها ونثرتها على النعش، بينما لطخت أخريات رؤوسهن بالطين”. بجلَّت مواقف أمها التي واصلت عملها الدؤوب في مساندة تجارة زوجها، هذا الى جانب أشغال البيت الكثيرة والمنهكة، دون نسيان تكرار حالات الحمل والإسقاط.
عبرت عن أحلام طفلة عراقية، من خلال علاقاتها مع أختيها الكبرى مفيدة والصغرى سلوى. تناولت بالتحليل المفصل أمزجتهما. توقفت عند المحن التي مرت عليهما. إن سيرة كل من الأختين مفيدة وسلوى تحمل الكثير من الموجعات والعبر والمظالم والآلام والأفراح. كانت منى مدللة البيت، حيث توفي للأم أربعة من أطفالها، قبل أن تتجاوز أعمارهم عامين أو ثلاثة، بكت الطفلة المدللة بحرقة حين دُفنت أختها الرضيعة كفاح، أثر نزلة برد، ذلك الفقدان عزز مكانة الطفلة منى في البيت.
تورد صوراً عن التماسك العائلي، منها: إذا إمتلك أحد أفراد العائلة بيتاً في بغداد، يعني ذلك للأقارب في المحافظات الأخرى محطة للترفيه، ومستقراً لرحلات العلاج ومراجعات الأطباء في العاصمة، مستمتعين بكرم الضيافة وبشاشة الترحيب طيلة أيام السنة، وعلى امتداد العطلة الصيفية. تنال بغداد أهمية خاصة في قلوب كل العراقيين.
نجد ضمناً في الكتاب ما يعكس إسلوب حياة الأسر العراقية، مثل دور التلفزيزن والمسلسلات في حياتهم. وفيما يتعلق بعائلتها، تقول: “لم تغرنا برامج تلفاز الأبيض والأسود، ولم يشدنا سوى مسلسل “هارب من الأيام” المصري لحبكته البوليسية وبراعة تمثيل بطله، (أول مسلسل شهده جيل الستينات، وهو أقدم مسلسل مصرى تم إنتاجه وعرض للمرة الأولى عام 1962، وأثناء عرض حلقات المسلسل كانت الشوارع تخلو من المارة لمتابعته، من بطولة عبدالله غيث، ومشاركة توفيق الدقن وحسين رياض ومديحة سالم وكمال ياسين وإخراج نور الدمرداش).
لم تتقيد الكاتبة بالتسلسل الزمني للأحداث، ولا بمنطق الأهمية. إتبعت منهج دع الطير يحلق كما يشاء. سجلت جوانب عديدة من الحياة السياسية في العراق. أبرزت صنوف القمع الذي يتعرض له كل المهتمين بمصائر البلد ومستقبله من النساء والرجال وحتى الأطفال. من بين تلك الصور الموجعة والمؤلمة، ذكرت ظروف المعتقلات وصمودهم ضد العنف والقسوة. نقلت على سبيل المثال ما سجلته المعتقلة الدكتورة فريدة الماشطة: “ففي لحظات كارثية رأيت بأم عيني وأنا أتوجه إلى الطابق العلوي، مشهد تعذيب شاب تحت السلم ربط على سرير معدني مشبك أوقدت تحته صوبه نفطية، عقدت الدهشة لساني وكدت أختنق برائحة الشواء الآدمي وعطن المكان وعفونته، ركضت لاهثة صوب المعتقلات، تسلمت الوصفة الطبية وهبطت بسرعة”.
إستقر رأي الكاتبة بعد مداولات على ذكر الأسماء الحقيقية، لمن يرد ذكرهم في فصول سيرتها. بديهي أن ذكر الأسماء الحقيقية للمعنيين أكثر صميمية وجمالاً وإثارة للإهتمام، ويعزز ثقة القارئ بالنص. لكني وجدت حالات تجاهلت فيه الكاتبة قرارها. تركت بعض الحالات والحوادث دون أسماء أصحابها، مثل: المشرف الحزبي الذي أعجبت وتعلقت به. وفي حالة أخرى لجأت للتشفير والإكتفاء بأحرف، مثل الحديث عن زميلتها في العمل أ. م. التي جرى الضغط عليها من الجهات الأمنية في الدائرة لكتابة تقارير عنها.
يتبع …