من الأفغاني الى عبد الحسين شعبان ورضوان السيد
جمال الدين الافغاني
تراث النقاش الفكري اختفى من فضائنا العربي، وكان قد ازدهر بعد الحرب العظمى الأولى حتى ما بعد الثانية ثم تلاشى. شكراً للعسكر الذين قدموا من ثكناتهم الى الحكم، ثم أسكتوا الأصوات كلها حتى لم يبق مكان للحديث ومقارعة الأفكار بالأفكار إلا القديم الجديد (الفكر الديني) الذي لم تكن لديهم سلطة أو قدرة أو برنامج لمواجهته، فنما حتى سلّم المُجتمعات العربية الى ما هي عليه اليوم، في الغالب ينخر في كثير منها الفكر الخرافي الممزوج بالشعوذة السياسية.
العودة الى النقاش الفكري مطلوبة، لذلك اخترت أن أتحدث عن مفكرين صديقين نشرا الأسبوع الماضي مقالتين متقاربتين في الفكرة العامة وإن اختلفت المفردات، الأول هو عبد الحسين شعبان والثاني هو رضوان السيد (مع حفظ الألقاب). نشر الأول مقالة في جريدة “الخليج” الإماراتية، ثم نقل بتوسع في مواقع التواصل، تحت عنوان “الفلسفة والدين”، والثاني نشر مقالة في “الشرق الأوسط” نقل أيضاً في مواقع كثيرة تحت عنوان “ما المطلوب: ضبط الإسلام أم فهمه؟”. الهامش المشترك في المقالتين هو دور الدين في الحياة العامة. الأمر الذي تناوله قبل قرن ونصف بعض المريدين في الفكر العربي كمثل جمال الدين الأفغاني.
عبد الحسين شعبان ورضوان السيد يدعوان ـ في فهمي – الى التفكير العقلي المنتمي الى العصر، ولكن الأول يذهب في سرده الى القول بأن هناك (مصلحين) حاولوا ذلك، منهم جمال الدين الأفغاني. هنا أستأذن للقول إن الأفغاني كان مصلحاً بما يسمح به عصره، لكنه لم يكن مفكراً تنويرياً على طول جهده الفكري. نحترم جهده في ذلك العصر، إلا أنه كغيره من أصحاب المحاولات اللاحقة، لم يستطيع أن ينفكّ من السائد ويفهم القادم، بل انحنى الى القديم، ولنا في رسالته المشهورة “الرد على الدهريين” ما يبنئ بالطبيعة الثانية من تفكيره وهي المحافظة الشديدة، فقد أخذ موقفاً من تيار الإصلاح الفكري الذي انتشر في إطار نخبة الهند المسلمة والذين سمّاهم “النيشريين” أو الطبيعيين! ربما كان ذلك خلطاً للفهم الديني والفهم السياسي الذي احتدم بعد ثورة خمسينات القرن التاسع عشر في الهند، وكان من بين أسبابها، وليس الرئيسي، أن أفشي لدى المجندين المسلمين الهنود في القطاعات العسكرية البريطانية أن “دهن التزييت” الذي يستخدمونه لبنادقهم هو شحم خنازير!
لقد اختلط على الأفغاني الموقف تجاه الإميراطورية البريطانية كونها (مُستعمرة) وكونها مصدر التقدم في الوقت نفسه. يرى شعبان أن الأفغاني ومحمد عبده من الإصلاحيين، وهما كذلك في حدود عصرهما على ما شاب أفكارهما من خلط بين (السياسي والديني والخرافي). يعود شعبان الى الدعوة الى استخدام العقل، وهي دعوة صحيحة، كما يفعل السيد في محاولة تفكيك (الديني عن السياسي) وبخاصة مناقشة فكر رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون وتصريحاته الأخيرة حول (أزمة المسلمين)، بخاصة في الغرب، والتي أثارتها أيضاً أحداث سياسية وقعت أخيراً في فرنسا.
إلا أن ما أريد أن أصل اليه هدفان: الأول مباشر والثاني غير مباشر. المباشر هو أن فكرة النقاش الفكري العقلاني في ثقافتنا العربية قد اختفت، ما ساد هو (التخندق) في مكان يقال فيه (أنا على حق مطلق) و(أنت على باطل مطلق) في كل الأمور، وهي ظاهرة تنم عن قصور في فقه المنهج الإنساني الذي وصلت اليه البشرية بعد طول عناء وهو المواءمة والنسبية، والثاني، وهو ما يهمنا في هذه المنطقة، بقاء النقاش حول (الديني والمدني)، إن صح التعبير، منذ قرن ونصف قرن وحتى اليوم، محتدماً يسوده التسييس على العقلنة من دون أن يحسم بعد. وإذا كان الأفغاني الذي أخذ يفترق قليلاً عن الفهم العام لعصره، فاصطدم بأهل السلطة الدينية أولاً، ثم الدهرية ثانياً، قد مات مسموماً بعد ما نظر اليه بعض المتزمتين على أنه (زائد عن الحاجة)، فإن الكثير من المفكرين العرب في عصرنا ماتوا قتلى في سلسلة طويلة، من فرج فودة الى حسين مروة… الى آخرين مشردين ومكلومين في بلاد الغربة مثل العفيف الأخضر أو نصري أبو زيد. ولعلي هنا أذكر حديثاً مع المرحوم جورج طرابيشى الذي قال لي إنه يختزن الكثير من الآراء النقدية التي لا يستطيع البوح بها حتى وهو في الغرب (باريس)، كون الهجوم عليه سيكون سهلاً بسبب مسيحيته.
مفتاح الإشكالية التي نحن بصددها هو سياسي بامتياز، فقد جاء علينا زمن طويل ركب السياسي فيه على الجهل فقام بدوره بالتجهيل، وترك التعليم مساحة واسعة لمن قال له “سوف نطوّع القطيع لك عن طريق تجهيله وإغراقه بالخرافات) حتى لا يستطيع أن يستخدم عقله، فأصبح الشارع مهيأً وقابلاً للسماع لأشخاص وقوى تعده بالمنقذ وتعلقه بالشعائر وتبعده عن التفكير العقلاني. لذلك سوف يبقى شعبان والسيد وغيرهما، صوتين، مع الأسف، في البرية، يتفوق على صوتهما العقلاني الكثير من الزعيق الأجوف من جهة، والحفظ والتسميع في مدارج تعليمنا من جهة أخرى!!