هل من أمل قريب في بلزاك عربي؟
قد يقول قائل، كان نجيب محفوظ بلزاكاً عربياً بجهده الروائي المميز، لكنه لم يجد الأذرع التي ترفعه عالياً وتجعل منه علامة عالمية تعبر الأجيال، وتستمر أبداً في الذاكرة الجمعية. لم يكن حنا مينة، عبد الرحمن منيف، الطاهر وطار، نبيل سليمان، جمال الغيطاني، الطيب صالح، وغيرهم، أقل قيمة من بلزاك. هذا كله صحيح نسبياً، لكن القصد لا يتعلق بالمنجز الروائي الفردي فقط، ولكن بشيء أكبر منه، أي القدرة على إنتاج مجتمع مواز أدبياً للمجتمع المادي، يجسد انهيار قيم زمن بدأ ينسحب، ونشوء قيم بديلة، في ظل الانكسارات والحروب القاسية. انسحاب طبقة النبلاء، في المجتمع الفرنسي خاصة، والأوروبي عامة، فتح المجال أمام مجموعات أخرى، رأسمالية بامتياز، سيدها المال والمصلحة والاستغلال.
أي من الكتاب العرب خرج من دائرته الوطنية وكوّن رؤية شمولية تجسد، عبر قرن من الزمن، انهيار الأحلام القومية وقيم التحرر والاستقلالات الوطنية، وظهور مجموعات لا تاريخ لها، لا أحلام ولا تصورات لها، تتحرك بمنطق المافيا والفساد والمصالح الضيقة، وينتج لوحة واسعة تجسد حالة هذا العالم العربي المنهار كلياً الذي بدأ يعلن إفلاسه أمام مستعمر البارحة ويطلب نجدته؟ أصبحت أحلام بدايات القرن الماضي مجرد صور بالأسود والأبيض، مجردة من أي حلم أو تاريخ حي. لم يكن هونوري دو بلزاك، أبو الرواية الحديثة في فرنسا، كاتباً عادياً، فقد ذهب إلى أبعد من الظاهر، خلق مجتمعاً تخييلياً لغوياً، موازياً لمجتمع القرن التاسع عشر في فرنسا، من خلال أعماله الكثيرة التي شكلت ما سمّاه: الكوميديا الإنسانية La Comédie humaine التي استغرقت أكثر من تسعين عملاً روائياً، قصصياً، حكائياً، وحتى بعض تأملاته في مجتمع القرن التاسع عشر التي حولها إلى ميدان لدراسة تاريخية طبيعية كاليدوسكوبية بكل تنوعاتها. اختار لتجسيد الكوميديا الإنسانية ما كتبه بين 1829 و1850 أي أكثر من عشرين سنة، في عز منجزه الثقافي والإبداعي. أرخ للقرن التاسع عشر أدبياً، متعمقاً في المجموعات الاجتماعية وطبائعها وصراعاتها التاريخية، وقدم لنا لوحة واسعة une fresque ، لزمنه يمكن أن تصبح مرجعاً فنياً وثقافياً لكل من أراد أن يفهم جوهر العصر ليس تاريخياً فقط، ولكن إنسانياً أيضاً.
قسم مؤلفه الشمولي: الكوميديا الإنسانية، إلى ثلاثة أقسام: دراسة العادات، والدراسات الفلسفية والدراسات التحليلية. الأجزاء مترابطة بالتاريخ والوقائع وحتى الشخصيات التي تظهر هنا وهناك. وأدرج داخل كل قسم الأعمال التخيلية والتأملية المعبرة. ومن أجل ضمان وحدة الأجزاء، أعاد النظر في كثير من قصصه ورواياته، بل كتب وأضاف أجزاء كثيرة لم تكن موجودة في الأصل الأول لأعماله، لتسهيل عملية إدماجها في مشروعه الثقافي والأدبي الكبير والخارق. فقد نقل لنا ليس فقط أنماط العصر المعاشية ولكن أيضاً متخيله، وقصصه، وصراعاته غير المرئية التي تحكمها المصلحة المباشرة. عندما نقرأ مجمل الكوميديا الإنسانية نحس بشيء يخترقنا، يأتي من بعيد، لا يحمل جمود التاريخ ولكن الحياة المتحركة لزمن لم يعد اليوم موجوداً بيننا. فقد استطاع بقوته الأدبية والتأملية أن يخلق مجتمعاً تخييلياً موازياً عميقاً يحسسنا كأننا نعرفه بعمق، مع أن هذا المجتمع قد اندثر. الطبائع البشرية التي خلقها بلزاك والشخصيات النموذجية ليست في النهاية إلا الحقيقة الجوهرية التي يغيبها التاريخ. ونحن في عمق عالمه الواسع والغني، نكتشف كم أن هذه النماذج التي يفصل بيننا وبينها التاريخ، كم تشبهنا. فقد تمكن بلزاك أن يتمثل عصره بنماذجه التعبيرية الأكثر دلالة على المجموعات البشرية. واهتم بكل النماذج البشرية، بما فيها الهامشية، التي لا قيمة اعتبارية لها في مجتمع النبالة، التي أهملها الأدب أو سخر منها. كان بلزاك يريد صورة كاملة ومجملة عن مجتمع كبير في لحظات انهيار قيمه، من خلال التمثيل التخييلي الموازي. لهذا، عندما نقرأه اليوم، نشعر بنبض الحياة في غناها وفي تناقضها، داخل مجتمع أدبي وكأنه حقيقة حية، مع أننا ندرك سلفاً أنها أوضاع ونماذج بشرية لا وجود لها خارج نصوص بلزاك.
لقد قلب بلزاك البناء الهرمي للمجتمع، فأنتج نصاً مناقضاً للكوميديا الإلهية La divine comédie حيث التخييل فيها سماوي، لكن بلزاك أنزله من عليائه الديني، وربط المصائر البشرية بالأرض التي يعيشون عليها، والتخييل بالإنسان ومآسيه الكثيرة في مواجهة رأسمالية متوحشة صاعدة، وسلطة المال، التي أدت إلى انهيار طبقة النبلاء والعلاقات الاجتماعية القديمة، ونشوء علاقات جديدة مبنية على المصلحة، رافضاً في الوقت نفسه منطق الثنائية manichéen، التي تفترض الصالحين والجيدين من جهة، والسيئين من جهة ثانية. اختار التخييل المعقد الذي يأخذ الإنسان في كل تناقضاته العميقة. ليست المسألة مسألة خير وشر، ولكنها قضية الإنسان في صعوده العظيم، وسقوطه المريع، حيث يُسحق الفقير، ويتعملق الغني بلا وازع إنساني، ويكذب رجل الدين ويبرر جرائم المؤسسة، وتتضخم قائمة رجال المال والبنوك والأدعياء من السياسيين. بفضل دقة ملاحظاته، بنى بلزاك معماراً أدبياً عظيماً، تكفي اليوم قراءته للدخول في متخليه للتعرف على حياة قاسية وصعبة، مليئة بأطماع البشر وجشعهم، لم يبق منها الشيء الكثير اليوم على صورتها القديمة.
فقد تمكن من خلق شخصيات مرجعية في السياق الأدبي والاجتماعي تعيدنا في كل قراءة إلى أعماقنا التي كثيراً ما ننساها. حولها بدقته الأدبية والتأملية إلى شبيه بالحقيقة الموضوعية، مثل راستينياك، شاب المدن الصغيرة الحالم، وغراندي، البخيل المنحط والمستبد، والأب غوريو رمز الأبوة الجميلة والعالية، وغيرهم. كما خص رجال المال وأطماعهم بمساحة واسعة في تخييله الغني مثل شخصية فوتران، صاحب الهويات المتعددة. لم ينس المرأة في الكوميديا الإنسانية، فقد شكلت مادة حية في كل تناقضها وتعدد صورها.
فأنتج نصوصاً كانت بطلاتها سيدات المجتمع الجميلات الملكوتيات، والأنيقات الغارقات في القصص الرومانسية، لكنه لم ينس التطرق للوجه الآخر، نساء الضياع الاجتماعي اللواتي يملأن الطرقات، والمومسات، فتسلّل إلى أعماق حيواتهم بدون مسبقات أخلاقية، وصورهن بدقة، وهذا ما سمح له بملامسة شمولية للمجتمع الأدبي الذي أبدعه في أكثر من تسعين عملاً شكلت الكوميديا الإنسانية. وكان من الطبيعي أن تنتفض ضده الكنيسة بالإدانة والمتابعة ومحاولة المصادرة، لكنه كان قد تخطى عتبات المصادرة ليصبح صوتاً حراً، أكبر من الكنيسة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأكبر من المؤسسات الاجتماعية. بالكوميديا الإنسانية أصبح بلزاك المؤسسة المتعالية.
متى يصل بلزاك العربي ليجمع شتات الخيبات والهزائم والانتصارات والانهيارات والأفراح العربية، وينجز نصاً بهذا الحجم، يورث لأجيال عالماً اندثر، أو يكاد، لا تعرف عنه الشيء الكثير؟