عندما تكون مهمة الدولة التغطية على الجرائم!
في الأسبوع الماضي، دخلت قوة عسكرية رسمية، ومغطاة قانونيا وسياسيا، إلى قرية الفرحاتية في أطراف مدينة بلد في محافظة صلاح الدين، وقامت باعتقال 12 شخصا، أعدمت 8 منهم ميدانيا، ولايزال الأربعة الآخرون مختفين قسرا. والواقع أن هذه الجريمة ليست الأولى، والمفارقة أنها لن تكون الأخيرة! المتغير الوحيد في سلسلة الجرائم من هذا النوع هو اللغة التي استخدمتها ردود الفعل الرسمية على هذه الجريمة بالذات، والتي اتجهت نحو وصف دوافع الجريمة بأنها طائفية!
فرئيس مجلس النواب تحدث عن حماية «السلم الأهلي» والحيلولة دون انفراط الأمن في البلد والذهاب إلى المجهول، ودعا إلى «ملاحقة الجناة» الذين يعبثون بأمن البلاد وأرواح المواطنين، ويسعون للفوضى، و«إنزال القصاص بهم» و«فتح تحقيق» بملابسات الجريمة! وهو خطاب يكشف ضمنا أن من قام بهذه الجريمة ليس تنظيم داعش، سواء عبر الحديث عن السلم الأهلي، أو عبر «تجنب» مفردة «الإرهاب» لتوصيف الجريمة، وهو ما يعني اتهام مجموعة مسلحة أخرى ذات هوية مذهبية مختلفة عن الهوية المذهبية للضحايا! وهو توصيف لا ينطبق في هذه المنطقة سوى على الفصائل المسلحة العاملة تحت غطاء الحشد الشعبي.
أما رئيس مجلس الوزراء فقد غرد بالقول «لا عودة الى التناحر الطائفي» وان «جريمة بلد مرفوضة» وهكذا عبارات وإن مثلت سابقة، لكنها تمييع لما جرى؛ فالجريمة ليست تناحرا طائفيا، وإنما هي قتل طائفي مورِس بغطرسة بسبب القوة والحصانة التي توفرها «الدولة» للقتلة، كما أن مفردة «مرفوضة» تبدو أكثر حيادية مما يمكن فهمه في سياق الجريمة الموصوفة. ولكن الأهم هنا أن التغريدة تحمل اعترافا ضمنيا أيضا، بأن من قام بالجريمة ليس تنظيم «داعش» بدليل عدم إطلاق صفة الإرهابية عليها، وعبارة «ألتناحر الطائفي» التي تستبعدُ داعش!
أما رئاسة الجمهورية، فقد أرادت النأي بنفسها عن الخوض في هذه الجريمة! وقد أصدر موقع المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية، بيانا في يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر بيانا بعنوان «رئاسة الجمهورية تدين حادثة استهداف مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني وتؤكد ضرورة الحفاظ على السلم المجتمعي»! خصص الجزء الأعظم من الإدانة لاستهداف مقر الحزب، الذي حدث في يوم الجريمة نفسه (14 سطر) ثم ذكر البيان جريمة بلد في ثلاثة أسطر، وبخطاب يذكرنا بالخطابات الدبلوماسية.
وكالعادة كان لا بد من تشكيل لجان تحقيقية لأغراض الدعاية السياسية والتسويف، دون نتائج حتى اللحظة، إذ لم نر نتائج التحقيق في قضايا إشكالية طوال السبعة عشر عاما الماضية!
إن الجريمة السياسية في العراق، توصف حسب هوية فاعلها، وليس وفقا للتوصيف القانوني للفعل نفسه! وأن الملاحقة والمحاسبة يخضعان هما أيضا، لهوية الفاعل وليس لطبيعة الفعل
ودليل هذا العبث، إعلان رئيس مجلس النواب عن تشكيل لجنة تحقيقية في الحادث، مع معرفته بأن تشكيل هكذا لجان ليست من صلاحياته أصلا؛ فبموجب المادة 83 من النظام الداخلي لمجلس النواب، لا تشكل لجان التحقيق إلا باقتراح من «هيئة الرئاسة» الثلاثية، أو باقتراح من خمسين نائبا، وأن يوافق عليها بالأغلبية البسيطة! كما أصدر المكتب الإعلامي لرئاسة الوزراء بيانا بقرار السيد الكاظمي بوصفه القائد العام للقوات المسلحة إحالة المسؤولين عن القوات الماسكة للأرض إلى التحقيق، وأوامره بإرسال وفد أمني عالي المستوى لإعادة تقييم المنطقة أمنيا، والعمل على ملاحقة «المجرمين» (وليس الإرهابيين) وتقديم تقرير عن ذلك بشكل عاجل.
تكررت هذه الجرائم وبالطريقة نفسها التي حدثت بها جريمة الفرحاتية الأخيرة، وتشكلت لجان تحقيقية في بعضها، وليس جميعها، وانتهى الأمر عند هذا الحد، فلا نتائج تعلن، ولا إجراءات تتخذ، ليصبح الإفلات من العقاب منهجا يتواطأ عليه الجميع! وحتى في الحالات الاستثنائية جدا التي أعلنت فيها نتائج هكذا تحقيقات، وألقيَ القبض على متهمين، تكون النهاية في السياق ذاته أيضا.
ففي الجريمتين الوحيدتين التي أعرف حيثياتهما جيدا، والتي أعلنت فيها نتائج التحقيقات، وقُبض فيهما على المتهمين؛ لم توقع العقوبة على المتهمين في الجرائم (باعتبارها جرائم ذات طبيعة الطائفية لا سيما حين يكون المتهم أو المتهمون ينتمون إلى طائفة محددة تحتكر الدولة في العراق)! الأولى جريمة مسجد مصعب بن عمير في قرية إمام ويس في محافظة ديالى التي وقعت في آب/ أغسطس 2014، والتي قتل فيها 34 مصليا بدم بارد، والتي توصلت فيها لجنة التحقيق إلى نتائج، واعلنتها، و أُلقيَ القبض على المتهمين، وحكم على اثنين منهم بالإعدام ثم بالمؤبد، في حكمين متتاليين غريبين، بعد اعترافهما بالجريمة، ثم انتهى الحكم إلى قرارين «تمييزيين» متتاليين من القضاء العراقي، بتبرئتهما، وربما الاعتذار منهما! والجريمة الثانية كانت جريمة قتل 17 نازحا من مدينة الصقلاوية في محافظة الأنبار، في حزيران 2016، ودفنهم في مقبرة جماعية، وقد أثبتت لجنة تحقيقية وقوع الجريمة، واستخرجت بنفسها الجثث، بدلالة القاتل نفسه، ثم اختفى «المتهم» واختفت «القضية» على مرأى الجميع ومسمعهم!
قلنا مرارا إن الجريمة السياسية في العراق، توصف حسب هوية فاعلها، وليس وفقا للتوصيف القانوني للفعل نفسه! وأن الملاحقة والمحاسبة يخضعان هما أيضا، لهوية الفاعل وليس لطبيعة الفعل! وهذا ما سيحكم جريمة الفرحاتية الأخيرة، فنحن أمام أحد سيناريوهين؛ السيناريو الذي اعتمد في مجزرة الحويجة في العام 2013، (والتي وصل عدد ضحاياها إلى 50 ضحية) حيث عمدت الدولة إلى «رشوة» أهالي الضحايا، بمساعدة الفاعلين السياسيين السنة، بتصنيف أبناءهم ضمن «شهداء» وكأنها منحة غير مستحقة، وتعويضهم بوصفهم كذلك بموجب القانون، من دون ملاحقة أو معاقبة أحد! والسيناريو الثاني هو سيناريو مسجد مصعب بن عمير/الصقلاوية، أي القاء القبض على متهم او أكثر، وإحالتهم إلى القضاء، حتى يتم نسيان الجريمة، فتتم تبرئتهم لاحقا، أو إخفاؤهم هم والقضية معا!
كاتب عراقي