مترو بغداد… فانتازيا عراقية
في جولته الأوروبية الأخيرة، ومن محطتها الأولى باريس، صرح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي قبل أيام، بأن الفرنسيين سيدعمون العراق سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وركّز على الجزء الأخير، مبينا الدعم الذي ستقدمه فرنسا في مشروع مترو بغداد، وقد أصدرت الرئاسة الفرنسية بيانا عقب انتهاء الزيارة أكدت فيه تصريحات الرئيس الكاظمي.
الظاهر أن مترو بغداد ليس مجرد قطار أنفاق، أو أحد حلول أزمة المرور الخانقة التي تعيشها بغداد بعد أن اكتظت شوارعها بأكثر من ثلاثة ملايين سيارة، وفقا لتصريحات مديرية المرور العامة. مترو بغداد هو مشروع يظهر بين حين وآخر منذ أربعين عاما، مشروع مؤجل يتم التلويح به للعراقي، وكأنه حلم بجنة مقبلة، ستنفذها الحكومات المتعاقبة، لكن على مدى أربعة عقود كانت كل الوعود كاذبة. فكيف ابتدأت القصة؟ وما هي مراحل تطورها؟ ولماذا باتت تمثل معضلة عصية على الحل في بلد ثري كالعراق، بينما واقع الحال يقول إنها عبارة عن خطي سكك حديد مجموع طوليهما 40 كيلومترا فقط لا غير؟
ابتدأت فكرة إقامة قطار أنفاق، أو ما يعرف بالمترو في العاصمة العراقية، نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، ومع الوفرة المالية التي كان يتمتع بها العراق نتيجة فائض تصدير البترول حينذاك، شرعت الجهات المسؤولة بالاتصال بجهات أوروبية متخصصة في هذا المجال، وكانت الحكومة العراقية تفضل التعامل مع الفرنسيين، نتيجة المواقف السياسية التي كانت توجه القرارات الاقتصادية والتنموية. وتم تنفيذ تصاميم المشروع، وتم حصر البنى التحتية اللازم توفرها، إلا أن اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في خريف 1980، اوقف عجلة كل المشاريع في العراق، وبضمنها مترو بغداد، وباتت جهود الدولة مركزة على الجانب العسكري فقط، وعلى مدى ثماني سنوات عجاف، رُكنت مخططات المشروع، ثم دخل البلد في دوامة احتلال الكويت، وتداعياتها من عقوبات اقتصادية، كل ذلك جعل مشروع مترو بغداد عبارة عن حلم وردي بعيد المنال بالنسبة للعراقي على مدى ربع قرن. كان من بين المفارقات المضحكة في هذا الملف، استخدام اسم (مترو بغداد) في بروبغاندا التصريحات العسكرية، إبان الحرب الأمريكية على العراق، التي أطاحت نظام صدام حسين ربيع 2003، إذ صرّح عدد من الخبراء العسكريين بأن أنفاق مشروع (مترو بغداد) التي تم تنفيذها في عقد الثمانينيات، يتم استخدامها لاختباء وتنقل القيادة العراقية، وعلى رأسها الرئيس صدام حسين، وقد نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن خبير نووي عراقي، غادر العراق خلال حرب تحرير الكويت قوله «إن لدى النظام العراقي قنوات سرية وشبكات طرق يبلغ طولها مئات الكيلومترات تحت الارض» مشيرا إلى أن «كل قصور صدام حسين الرئاسية، تتضمن مثل هذه القنوات والشبكات» وطبعا نحن في غنى عن القول إن كل ذلك محض هراء.
مترو بغداد مشروع يظهر بين حين وآخر منذ أربعين عاما، مشروع مؤجل يتم التلويح به للعراقي، وكأنه حلم بجنة مقبلة
بعد التغيير الذي حصل في إبريل/نيسان 2003، سارعت الحكومات الجديدة إلى فتح ملفات الأحلام العراقية، وقدّمت باقة من الوعود للشارع العراقي، واضعة جدولا زمنيا لتنفيذ هذه الوعود، التي لم ينفذ منها شيء حتى الآن. وبالطبع كان أحد أهم الملفات هو ملف مترو بغداد. المفارقة أن من يتابع التصريحات عن تفاصيل المشروع، ومواعيد الإنجاز، وكلف التنفيذ سيقف فاغرا فمه أمام تضارب المعلومات وخلطها وعدم دقتها. ففي مطلع عام 2007 صرح أمين بغداد صابر العيساوي بأن «العراق سيشهد انطلاق مشروع مترو بغداد». أما في مطلع عام 2008 فقد أوضح العيساوي أن «مبلغ مليار دولار قد تم تخصيصه فعلا لتنفيذ مشروع مترو بغداد». لكن الكلفة تضاعفت ثلاث مرات في نهاية العام، إذ خصص مجلس الوزراء العراقي في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 مبلغ ثلاثة مليارات دولار لإنشاء مترو بغداد. وإثر ذلك تم استحداث شعبة متخصصة في أمانة بغداد لمشروع مترو بغداد، بناء على توصية لجنة الشؤون الاقتصادية التابعة لمجلس الوزراء، بهدف إيلاء هذا المشروع الأهمية القصوى.
في مارس/آذار 2009 نظمت جمعية الكندي للمهندسين في لندن ندوة حضرها وكيل أمين بغداد نعيم الكعبي، ومدير عام المشاريع والتصاميم في أمانة العاصمة مهند مانويل، ومستشار أمين العاصمة سعد موحي، وقد أكدوا في هذه الندوة على أن مشروع مترو بغداد من أكبر المشاريع التي بدأت أمانة العاصمة العراقية بإعداد مخططاته التصميمية، وتمت إحالته إلى شركات عالمية، وبلغت كلفته 3 مليارات دولار. كما أعلنت أمانة بغداد عام 2013 عن قيام شركة سيستر الفرنسية بتطوير التصاميم القديمة لمشروع المترو، لكن المفارقة أن كلفة المشروع قفزت هذه المرة لتصل إلى 7.5 مليار دولار، مع إشارة إلى بدء تنفيذ المشروع، إذ اختارت دائرة المشاريع في أمانة بغداد، سبع شركات عالمية من دول مختلفة لتقديم عروض وتصاميم لمشروع مترو بغداد. تراجع الاهتمام بالمشروع حتى كاد ينسى مع تداعيات الحرب على تنظيم الدولة (داعش) وانهيار أسعار البترول العالمية، التي أدت إلى تراجع وارادات العراق، ودفعت حكومة العبادي إلى إعلان حالة تقشف حادة عام 2014. لكن في السنة الأخيرة من ولاية هذه الحكومة عاد الحديث عن المشروع إلى الواجهة مرة أخرى، إذ صرح المتحدث باسم أمانة بغداد حكيم عبد الزهرة في ديسمبر/كانون الأول 2017 قائلا إن «جميع متطلبات مشروع مترو بغداد اكتملت، سواء على مستوى التصاميم، أو مفاتحة الجهات المختصة، إلا أن الأمانة تنتظر الموافقات الرسمية من الجهات العليا للمباشرة بتنفيذ المشروع». لكن هذه المرة حدث تحول جديد في القصة، إذ ظهرت الإشارات الأولى إلى «القطار المعلق» مرادفة لمترو بغداد في تشوش واضح، إذ اعتبر البعض أن المترو والقطار المعلق مشروعان منفصلان، بينما تحدث بعض المسؤولين عن التسميتين، باعتبارهما شيئا واحدا. فقد صرح عضو لجنة الخدمات في مجلس محافظة بغداد حسون الربيعي عام 2018 بأن «هناك أسبابا عديدة تحول دون تنفيذ مشروع مترو بغداد، والقطار المعلق، رغم أن المشروعين مهمين للعاصمة، لكونهما سيحدان من الزحامات المرورية، ويجعلان حركة النقل بانسيابية عالية». بينما أكد محافظ بغداد محمد جابر العطا مطلع عام 2020، على أن «مشروع القطار المعلق أو مترو بغداد في مرحلة تجهيز العقود الخاصة لبدء التفاوض مع شركتي الستوم الفرنسية وهيونداي الكورية».
المفارقة المضحكة المبكية في ما كشف عنه من تقديرات كلفة المشروع وجهات التمويل، التي بدأ الحديث عنها عام 2019 أبان حكومة عادل عبد المهدي، إذ أعلنت إدارة مصرف الرافدين العراقي نهاية عام 2019، عن رصد 5 ترليونات دينار (حوالي 4 مليارات دولار) لتمويل المشاريع الاستثمارية الخدمية في البلاد، ومن ضمنها مشروعي «مترو بغداد والقطار المُعلّق» مؤكدة على أن المصرفَ جادٌ بتنفيذِ هذا المشروع، وتم الاتفاق على الشروع به، لاسيما أن التكلفة الأولية لإنجاز المترو تبلغ 5 ترليونات دينار» هذا يعني أن تقديرات كلفة تنفيذ المشروع قد هبطت من 7.5 مليار دولار إلى اربعة مليارات دولار فقط.
ولا تكتمل النكتة السوداء في الفانتازيا العراقية، إلا بمزيد من الفضائح، إذ كشف عضو لجنة الخدمات والاعمار النيابية جاسم البخاتي، في يوليو/تموز 2020، عن وجود خلل في ترجمة العقد بين أمانة بغداد وشركة الستوم الفرنسية، أدى إلى تعطيل مشروع مترو بغداد، وبيّن البخاتي «حدث خلاف بين الشركة الفرنسية وامانة بغداد، نتيجة مشكلة في الترجمة، ومحور الخلاف أن شركة (الستوم) كانت حسب العقد مسؤولة عن تعديل وتطوير تصاميم مشروع مترو بغداد، مقابل مبلغ 40 مليون دولار، وإنها غير ملزمة بالتنفيذ، بينما كان خبراء أمانة بغداد يعتقدون أن العقد أحيل على شركة الستوم للتنفيذ» والنتيجة بعد التحكيم الدولي حسب جاسم البخاتي «أن الخلاف انتهى واستلمت الشركة 40 مليون دولار حسب العقد».
الخلاصة، أن هنالك مليارات الدولارات خصصت للمشروع منذ أكثر من عشر سنوات، ولا أحد يعلم ماذا حلّ بها، وإن تعديلات تصاميم المشروع قائمة منذ أربعين سنة، ومستمرة حتى الآن، وفي النهاية تظهر فكرة جديدة مفادها تنفيذ قطار معلق، نتيجة صعوبات الحفر، وعدم إمكانية توفير مستلزمات البنية التحتية. والحمد لله فقد أتضح أن هذا القطار لا يكلف سوى 4 مليارات دولار فقط، تكفل بتوفيرها البنك المركزي العراقي، ليتضح أن شركة الستوم الفرنسية قد نصبت على أمانة بغداد بمبلغ 40 مليون دولار، استلمتها كأجور تعديل التصاميم القديمة. لكن من جانبه صرح قصر الإليزيه في معرض تغطيته لزيارة الكاظمي إلى باريس قبل أيام «بأن الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء العراقي شددا على أهمية مكافحة الإرهاب عقب اجتماع في باريس. وأن الزعيمين رحبا بخطط مجموعة الستوم الفرنسية للعمل في مشروع مترو بغداد» إنها الفانتازيا العراقية.
كاتب عراقي