العقل السّجين؟
ما حدث في فرنسا في الأسبوع الماضي يدفعنا إلى كثير من التأمل والتساؤل: وماذا بعد؟ لقد وصلت الجريمة إلى تجلياتها القصوى. جريمة كبيرة وثقيلة النتائج. لا يمكن أن يُقتل معلم ويقطع رأسه ببرودة دم مهما كانت المبررات والأسباب التي اعتمدها القاتل. في حالات الاختلاف القصوى، هناك وسائط ثقافية وقانونية يمكن اللجوء إليها، وإلا لكان الرسول وصحابته قد قتلوا كل من قال كلمة سيئة فيه، أو شوه سمعته، وما أكثرهم! ومع ذلك لم يفعل. ولنا في قصص الرسول الأكرم حكمة حقيقية، ولا أظن أن القاتل (18 سنة استفاد أهله من اللجوء السياسي في فرنسا) أو من أمره بفعل القتل، يدرك ذلك. كيف وصل هذا الشاب إلى ارتكاب جريمة بهذا الشكل المروع: الذبح ببرودة دم في شارع عام، وقطع الرأس، وإرسال الصورة عبر تويتر إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، ونشرها قبل أن يتم سحبها. لا أحد تخيل حدوث ذلك في فرنسا على الأقل.
أي شخص مسلم أو كبر في مناخ الثقافة الإسلامية سيرفض بقوة ما حدث. المشكل الكبير ومركز الاختلاف هو أنه في فرنسا، هناك ثقافة تبيح السخرية من الأديان؛ لتاريخ دموي عاشته أوروبا في فترة الظلام والحروب الدينية مع الكنيسة في القرون الوسطى قبل أن يتم فصل الديني عن الدنيوي. هو نفس القرن الذي كان عصراً لفكر الأنوار العربية، حيث نشطت الفلسفات وتطورت وكبرت واتسعت لدرجة أن أصبحت مرجعاً عالمياً.
الدين في أوروبا لم يعد اليوم ظاهرة اجتماعية مقدسة، ولكنه ارتبط بالمعتقد الفردي والشخصي، وتخلت الدولة نهائياً عن تدريسه، وتركت الأمر للمدارس الكاثوليكية الخاصة، المراقبة من طرف الدولة. لهذا، السخرية من المسيحية ومن سيدنا المسيح ومريم العذراء مباحة ثقافياً ومجتمعياً، ويستقبلها الناس عموماً، كونها لا حدث، لهذا وصلت شارلي هيبدو إلى حالة الإفلاس على الرغم من تركيزها على النقد الديني والسياسي، لولا قضية كاريكاتير الرسول الأكرم وما تبعها من إثارة إعلامية التي أعادتها إلى الواجهة، لماتت الجريدة. لا يعني أن التيارات الدينية الغربية لا تحتج من هذه السخرية. رواية نيكوس كزتنزاكي «غواية المسيح الأخيرة» التي حولها لاحقاً مارتين سكورسيز إلى فيلم بنفس العنوان، كانت سبباً في حرق قاعات سينما عرضت الفيلم.
في ليلة السبت 22 أكتوبر إلى الأحد 23، سنة 1988 تم وضع قنبلة حارقة من طرف كومندو يميني محافظ متطرف، تحت أحد الكراسي في واحدة من قاعات سينما سان ميشال، مما أدى إلى حرق القاعة كلياً وجرح 14 شخصاً تعرضوا للحروق والأدخنة، فتوقف عــــرض الفيلم. مونسينيور لوستيجيـــي وديكورتري Mgr Lustiger et Mgr Decourtray أدانا الفيلم منذ بداية عرضه، ورفضا الصورة التي ظهر بها سيدنا المسيح.
دان براون في روايته «شيفرة دافنشي» استعاد نفس فكرة كزانتزاكي حول زواج سيدنا المسيح من مريم المجدلية، مما أدى إلى احتجاجات كبيرة ضد الفيلم. الفاتيـــــكان من خــلال صوت مونسينيور أنجيلو آماتو Angelo Amato أدان رواية دان براون واعتبرها معادية للمسيحية، مليئة بالكذب والاتهامات الرخيصة، وتجب مقاطعتها «لو كانت هذه الإهانات قيلت في القرآن أو في الشوا لخلق ذلك زلزالاً عالمياً، لكن عندما تعلق الأمر بالكنيسة والمسيحيين، فلا عقاب»، لهذا من الطبيعي أن يشعر مسلمو فرنسا بأنهم مسوا في مشاعرهم العميقة من خلال الصور المهينة عن الرسول الأكرم، كما حدث في الفلمين اللذين ذكرت، مع إدانتهم الصارمة لجريمة القتل في ظل توفر الوسيط القانوني والعقلاني، ولا يريدون أن يمنحوا اليمين المتطرف الأصولي، الذي جعل من الهجرة موضوعاً وجودياً لأنه لا يملك أي مشروع آخر يمكن أن يقترحه على الفرنسيين، أية فرصة للصعود على أكتافهم انتخابياً.
فقد حمّل المسلمين جريمة قتل ارتكبها شخص لا نعرف عنه الشيء الكثير سوى كونه شيشانياً، تطرف منذ وقت قريب بتأثير من أصولي سوري. هو قنبلة موقوتة أكثر منه شخصاً يفكر. في الإسلام آيات أصبحت اليوم مقولات حية للعقل والسجال: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل 125). أيننا من ذلك كله اليوم؟ الأديان، كل الأديان، هي في جوهرها قيم إنسانية عامة بالقياس للظلام الذي سبقها، وترفض مثل هذه الممارسات التي تنتمي لعصر آخر، وتحبذ النقاش والسجال.
لا يمكن وضع ستة ملايين مسلم (وهم إما فرنسيون مولودون في فرنسا، وإما مغتربون) في دائرة الاتهام، بينما يعيشون دينهم بهدوء وسكينة كما بقية الأديان. أغلبهم يخرج نحو عمله فجراً ولا يعود إلا ليلاً، منغمس كلياً في هاجس يومياته الصعبة مع الحياة والبطالة والأمراض المحيطة به. من هنا، فتوجيه الأنظار نحو المسلمين La stigmatisation تخدم التطرف بالتفريق بين أبناء المجتمع الواحد في تعدده وغناه. ما يقدمه التطرف الإسلاماوي من خدمات جليلة للتيارات اليمينة المتطرفة في فرنسا وأوروبا، لا تحصى ولا تعد، بالخصوص في هذه الفترة التي بدأت فيها التحضيرات للانتخابات التشريعية أو الرئاسية القادمة؟ هناك إسلام آخر، إسلام الحضارة والتنوير، لا يريدون رؤيته، ويغطون عليه بتيارات أدمت المنطقة الإسلامية قبل أن تدمي غيرها، وكانت عرضة لمختلف المناورات، والاستعمالات التاريخية ضد أي تحرك حي وحضاري للخروج من دائرة التخلف. من خلق «القاعدة» ومن سلحه؟ من خلق «داعش» ومنحه كل وسائل التدمير الحديثة وحماه؟ من خرب كل ما تبقى من حداثة في المجتمعات العربية الإسلامية؟ من أجهض حلم ثوراتها؟ أسئلة يجب أن تطرح لأنها لا تقع خارج هذا السجال.
على أوروبا أن تغير من سياساتها الاستعمارية، وعلى المسلمين أن يكفوا عن التثبت الأصولي، وأن يستلموا دينهم بعقلهم، ويعملوا على ترهين خياراتهم السياسية والحضارية وفق معطيات العصر، وهذا يقتضي خيارات حقيقية كبرى، على رأسها حسم العلاقة بين الديني والدنيوي. لقد كان الإسلام سباقاً في هذه النقاشات بعد أن أدرك، في وقت مبكر، علماؤه ومثقفوه دور الفقيه المغلق في الهيمنة على الديني والسياسي والحياتي. هو نفس الفقيه الذي باسم حماية الإسلام، طارد العالم العظيم ابن رشد، حينما حاول بلورة مفهوم الخيارات الدينية والدنيوية وتحديد مساحاتها في فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.
وقف الخليفة أبو يوسف يعقوب ضده، وشرده وأحرق كتبه ورماه خارج أسوار قرطبة، وحضر الاشتغال كلياً بالفلسفة. وقتل الحلاج بتهمة الكفر. وأحرق ابن المقفع، واضطهد الإسلام التقليدي المنغلق نورانية الشيخ الأكبر ابن عربي، ولم يرحم عالماً إنسانياً كبيراً هو ابن خلدون الذي وضع بين أيدي البشرية وسائل منهجية اختبارية لتحليل حضاراتها وشرطياتها التاريخية. انهيار العقل أدى إلى الانهيار الكلي للإمبراطورية الإسلامية، وأفولها المأساوي. منذ تلك اللحظة تطورت وجهات نظر دينية ارتدادية إلى الوراء أصبح فيها العقل كفراً، والتنور شركاً، والاختلاف ردة، وما تزال مستمرة إلى اليوم، في غياب نخبة شجاعة ومثقفة.