واسيني الاعرج .
قد لا تعني كلمة تسامح ما تعنيه في كل اللغات والثقافات الإنسانية. في الفرنسية مثلاً، تعني كلمة Tolérance، تحمّل الشيء، دون القبول به باقتناع، تحمّله ولو لمدة. أصلها فعل Tolérer أي تقبل الشيء على مضض.
في العربية المعنى ربما كان أوضح، ويختلف بشكل عميق. أن تتسامح معناه أن تقبل بمن يختلف معك كما هو ولا تفرض عليه منطقك، حتى ولو كنت تعرف أنك لا تتفق مع جانب فيه. التقبل والتحمل يختلفان جذرياً. التحمل محصور زمنياً، وقتي. عنصر الزمن فيه حاسم، وكأنه مجرد تكتكة تفرضها ظرفية تاريخية محددة عندما تزول، تندثر معها أسباب التسامح، وتعود ليلى على عادتها القديمة. ويسقط تلقائياً شيء اسمه التحمل. التقبل شيء آخر لأنه يرتكز على فلسفة لا علاقة لها بتصور التقبّل. المفهوم أكثر قابلية لاستيعاب المختلف، وليس فقط القبول به كما هو في ثقافته وفق شرطية الاحترام المتبادل، ولكن أن يدرج المختلف ضمن المنظومة الثقافية المتسامحة بحيث يصبح جزءاً منها، له مساحته ومكانه. في اللغات الأخرى كالإسبانية والإنكليزية، لا يخرج الأمر عن صيغ التحمل، لأن الجذر اللاتيني واحد، والمعنى يتكرر بنفس الدلالات. أعتقد أن منبع الخلافات يتأتى من هنا.
يجب أن نقيس تسامح العالم العربي بما عليه اليوم وهو يقاوم من أجل البقاء. المفهوم نشأ قديماً حينما دخلت مختلف الثقافات العالمية في عمق الثقافة العربية الإسلامية التي استوعبت إسحاق الموصلي، وابن ميمون، والغزالي، وسيبويه، والبخاري، وغيرهم من القادمين من الثقافات الفارسية، واليهودية، والهندية، وغيرها. اللاتسامح في مثل هذه الحالات سينسف حضارة بكاملها كانت تريد أن تكون في واجهة البشرية بمعطاها الثقافي الفلسفي الإنساني. التسامح لم يكن مناورة، ولكنه رهان. تقبل الآخر كان يعني الإيمان بالإضافة التي يمكن أن يأتي بها عندما يشعر بأنه جزء من النسيج العام.
لو تقبلته على مضض لن يصبح منك أبداً لأنه سيظل عرضة لكل الهزات والقلاقل. وربما هذا مصدر نجاح التنوير الإسلامي في لحظة من أكثر اللحظات التاريخية إنسانية واستنارة. في العالم الذي نعيش فيه اليوم، كل شيء تغير، وانسحب التسامح حتى عند النخب الثقافية التي يفترض أن تدافع عنه باستماتة لأن حياتها واستمرارها مشروطان به. كم تحتاج البشرية اليوم إلى تسامح حقيقي وليس ظرفياً، تمليه الهزات التاريخية. الحاجة الماسة إلى أن يتحول التسامح إلى لغة تنبع من الداخل، لأن جزءاً من سلامنا على هذه الأرض يرتكز اليوم على «التسامح». لنفترض أن كلمة تسامح خالية من أي محمول إيديولوجي للقوة، وتعني تقبل الآخر دينياً وثقافياً وحضارياً بلا مسبقات، لماذا لا نقبل إذن بالاختلاف، ونظن أننا الوحيدون الذين يملكون الحقيقة المطلقة؟ تسامح الظروف القلقة لا يذهب بعيداً، مسافاته مقاسة سلفاً. وبناء على ذلك، يغيب اليوم الحوار البناء، والإصغاء في الحياة العامة والثقافية أيضاً، وحلت محل التواضع الإطلاقية، واليقين، ورفض الآخر بالاتكاء على مختلف الأسباب.
يكفي أن يرتكب متطرف الإسلامي جريمة ليسقط نهائياً تسامح الضرورة وتحل محله خطابات الكراهية. جريمة الأستاذ صامويل باتي الفجائعية كانت كافية لتحريك بركة التطرف الآسنة، واستيقاظ بعبع التطرف وتجريم كل المسلمين وكل العرب. كثر فجأة المحللون، في القنوات، في الشأن الإسلامي، ليستعيد اليمين المتطرف المكروه اجتماعياً وسياسياً عذريته الغائبة. بل إن هناك بعض الخطابات العنصرية استعادت شرعيتها؟ مع أنه يتم اختبار التسامح في مثل هذه الظروف بالضبط، حفاظاً على النسيج المجتمعي وتكوين حائط صد ضد كل التطرفات الدينية والسياسية. وكان يفترض أيضاً أن تكون تلك الجريمة البشعة، وغيرها، وسيلة لتبيان الأخوة وعزل المجرمين ومحاكمتهم بما تميليه القوانين، مثلما حدث في نيوزيلاندا عندما واجهت رئيسة الوزراء التطرف بمزيد من التعاطف ولملمة الشمل الذي هزه اعتداء الإرهابي برينتون تارون، في كريستيانتشورش، ضد المسلمين وأودى بحياة 51 ضحية و49 جريحاً.
ليس كل الشعب النيوزيلاندي أو الأسترالي إرهابياً. كان الجرح كبيراً، لكن المسؤولة الأولى على البلاد عرفت كيف تمتص الغضب، بوقوفها مع من كانوا ضحية للجريمة الموصوفة. العالم الجديد أو ما سمي كذلك، تخترقه اليوم الضغائن، بعضها مستجد وبعضها الآخر يأتي من بعيد، من أغوار التاريخ. وبدأ يخرج كل مدافن القرون الوسطى من قمقمها، في ظل إرهاب مقيت وقاتل، يتسع كل يوم أكثر، واضعاً الحضارة البشرية والتسامح أمام امتحانات قاسية، حيث يجب ألا يخطئ الإنسان في عدوه. ليس المسلم العادي هو الذي يحمل السلاح ويرتكب الجرائم باسم الدين في المدن الأوروبية. أيديولوجيا الضغائن هي الغذاء الروحي لكل التطرفات الإسلاماوية أو اليمينية المتطرفة. وهذا ما لاحظناه في السنوات الأخيرة في فرنسا، والنمسا، وكندا، ونيوزيلاندا، وغيرها. تحتاج البشرية إلى قليل من التأمل لتفادي الحروب التي ترتسم في الأفق لتقاسم خرائط العالم التي يشكل فيها العالم العربي أحد بؤرها المتوترة.
ماذا ينتظر من عالم عربي جرد من كل شيء؟ عالم لا يملك لا مصيره ولا قــــدره. ومأساته الخيرات التي تنام في باطن أرضه، والسيطرة عليها تشكل رهاناً من رهانات المصالح الدولية، بالحروب المباشرة، والحـــروب بالوكالة؛ أي العربي ضد العربي، أو باسم ردع الدول التي تريد امتلاك السلاح النووي، مثل الحالة العـــراقية، أو باسم الديمقـــراطية وديكتــــاتورية الأنظــمة العربية التي أكلـــت الثورات ونهــبت أحـــلام أجيال بكاملها، بينما الغرب الديمقـــراطي؟ لم يطلــــق رصاصة واحــدة دفاعاً عن هذه الديمقراطيات الناشئة أو الممكنة، بل كان أول من أجهز عليها.
كان العالم العربي مساحة مفتوحة للتعدد الديني اليهودي- المسيحي- الإسلامي، فأصبح رقعة مغلقة بعد أن تم تدمير كل التعددية الدينية والثقافية، والغرب الاستعماري في هذا لعب دوراً حاسماً.
شهدت المنطقة العربية حضارات متواترة وأقواماً تم امتصاص ثقافاتهم وحضاراتهم إيجابياً، وفجأة غير الاستعمار تحديداً كل الجغرافيا والخرائط، لنجد أنفسنا أمام عالم عربي ممزق، صُنِّع تصنيعاً حقيقياً، استجابة لحاجات تاريخية ومصلحية للهيمنة على الرقعة الغنية بالطاقات الاستراتيجية.
لا يبتعد اليوم العالم العربي عن ماض منكسر في كل خيباته وهزائمه. يعيش وضعاً لا يحسد عليه. فقد حاولت الأنظمة العربية الدكتاتورية وجمهوريات الموز العفن أن تخلق أوضاعاً خاصة، حاولت أن تسيّر من خلالها البلاد العربية وفق مقتضيات الحال والمنفعة السياسية والإيديولوجية، منتهجة سياسة براغماتية بالمعنى النفعي الكامل، فدفعت بالعالم العربي المغلوب على أمره إلى أن يعيش أوضاعاً بعضها تاريخي وبعضها مستجد، وأدخل في دوامة دينية، ولغوية، وعرقية، وإثنية، لن يخرج منها بسهولة حتى يتم ترتيب المصالح الدولية نهائياً. لهذا، التسامح ليس مسألة ظرفية لحل مشكلات طارئة، لكنه خيار استراتيجي، والخيار يحتاج إلى من يدافع عنه في الظروف الصعبة وليس فقط في حالات السلم المدني.