حول انتفاضتي لبنان والعراق
عبد الحسين شعبان
لم تكن الرومانسية القديمة كافية لإشعال حماسة الشباب، بما فيها الوعود، والآمال الكبيرة، والشعارات البرّاقة بعيدة المنال؛ لقد حلت محلها الواقعيّة السياسيّة بلا شعارات كبرى، ولا وعود معسولة أقرب إلى السراب، حيث انتظمت الملايين بشعارات مبسطة: الحرية، العدالة، تعديل الدستور، القضاء على الفساد، واحترام حقوق الإنسان.
هكذا سدّت الجماهير التي تذكّر بعصر المداخن، باستعارة من كارل ماركس، الساحات والشوارع، بل زلزلت الأرض تحت أقدام الحكام، في حين فقد المثقف الأيديولوجي صوته وهو يبرر خطاب الحاكم بالقمع السياسي، أو بالقمع الفكري، ويحرق البُخور بالدعاية والتزويق بحجج ومزاعم شتى، أو المُعارض الذي كان بعيداً، أو غائباً، أو مخادعاً، فقد كانوا بعيدين عن ساحة المشاركة الفاعلة، وإنْ التحقوا بعد حين وسط جوّ من الدهشة، والارتباك، والحيرة.
لقد تجاوزت المعركة الحقيقية التي أرادها الناس المعارك الوهمية الصغرى حول أفضليات هذه المجموعة أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك، خصوصاً حين تقدّم جيل الشباب بكل فئاته جاعلاً من انتفاضته، ولأوّل مرة في الوطن العربي، ثورة شعبية سُداها ولُحمتها الشباب، الجميل، الحالم بقدر واقعيته وبراغماتيته، فقد كان ثوريّاً بامتياز، ولكن ضمن مفاهيم جديدة، فلم تعُد مقولة إن الثورة لا يمكن لها أن تتحقق ما لم تتوفر لها قيادة مُلهمة، أو أن تكون تحت إشراف وتنظيم حزب قائد «طليعة»، أو أن قوى الداخل ليس بإمكانها إنجاز التغيير من دون التعويل على الخارج ومساعداته، وما سمّي تلطيفاً «العامل الدولي» الذي أوصل بلداً مثل العراق، بعد حصار دولي جائر دام ثلاثة عشر عاماً، إلى الاحتلال البغيض، وإنْ كان ثمّة جزعٍ ويأسٍ من التغيير الداخلي في ظلّ هيمنة إقليمية ودولية أحياناً، لذلك ترى بعض الأصوات حتى إن كانت خافتة، أو هامسة، تدعو لإعادة الانتداب مجدّداً، وهو ما نمّ عن هواجس هنا، وهناك، في لبنان، والعراق.
وأثبت جيل الشباب أنه الأقدر على تحقيق خياراته كما يريد هو، لا كما يُراد له، فقد أخطأ من ظنّ أن الشارع العربي قد أصابته الشيخوخة فدخل في سُبات عميق، أو أن الحكومات الشمولية والطائفية دجنت الشعوب بعوامل الجوع، والخوف، فضمنت خضوعها اللامحدود بمكان، أو زمان. وها هو يخرج من قمقمه ليخترق الميادين والساحات مُحطّماً حواجز الخوف، ومنتصراً على جوعه، وقهره في أولى خطواته نحو الوجود، والكرامة.
لم يكن للانتفاضتين رمز قائد، أو زعيم مخلّد، أو مُلهم مخلّص يصبح لاحقاً «معبوداً»، ومقدّساً، وفوق حدود النقد، ولم يكن لهما أيضاً نصوص مقدّسة أو مقولات خالدة؛ فقد كانتا تواجهان الواقع المعقّد بشعارات واضحة، ورمزية، وواقعية، في آن واحد، ومثلما كانتا ضد الصنميّة، فإنهما كانتا ضد النصوصية، أي أنهما ضد المسلّمات، واليقينيات، والقدسيات، والسلفيات المشوّهة، والوعود الزائفة، وعابرتين للطوائف، والطبقات الاجتماعية، والمجموعات القبلية، والعشائرية، واضحتين في مطالبهما، وحاسمتين برفضهما للمساومة وأنصاف الحلول، ومؤكدتين إخلاصهما، ونزاهتهما، والتزامهما بمطالب شعبيهما.
لقد وضعت الانتفاضات التي انتصرت، سواء في العالم العربي، أو في أوروبا الشرقيّة، أو في أمريكا اللاتينيّة، بإسقاطها الدكتاتوريات، سؤالاً محرجاً أمام أحزاب المعارضة والأحزاب الكلاسيكيّة: أين دورها، وما هو موقعها من الخريطة السياسية الجديدة؟
حقّاً لقد أفرزت الانتفاضات العربية، رغم منعرجاتها ووعورة طريقها، نمطاً جديداً من التفكير والممارسة، متقدّماً، وشجاعاً، مثلما ساهمت في تعميق الوعي الثقافي الجديد المتفاعل مع الوعي العالمي، حيث بدأ الشباب بكل حيويّته، وطاقاته، ومبادراته، وأصبح على الجميع اليوم الاستماع إليه، والوقوف خلفه ليصل إلى طريق المشروعية القانونية، أي حكم القانون، والشرعية السياسية، أي رضا الناس، وتحقيق المنجز التنموي الذي يلبّي طموحاتهم، وليتمكّن من حماية عملية التغيير قبل أن يتم الالتفاف عليها، أو سرقة منجزاتها، أو اللعب بمستقبلها.
كما أثبتت حركة الاحتجاج الجديدة ضمور دور الدُعاة الحزبيّين الأيديولوجيّين، العقائديّين، الذين بشّروا الناس بالجنّة، أو بعالم يحقّق الوحدة العربية، أو تحرير فلسطين، (الآن وليس غداً)، أو ينجز حلم الاشتراكية والعدالة الاجتماعيّة الأخّاذ، حيث ظلّ الصراع بين القوميين والشيوعيين، ومع الإسلاميين في ما بعد، لا على الحاضر، بل على المستقبل، وأحياناً ليس في مملكة الأرض، بل على قيم السماء.
drhussainshaban21@gmail.com
نُشرت في جريدة الخليج “الإماراتية” في يوم الأربعاء 11 -11-2020