الروائي واسيني الأعرج .
ما حدث بعد ظهر يوم الإثنين 16-11-2020، كان شيئاً مذهلاً، جسد القدرة الفلسطينية الخلاقة على إبداع المستحيل، فقد استطاع المناضل أسامة الأشقر (ثماني تأبيدات) ورفيقة دربه المناضلة منار خلاوي، أن يصنعا حدث المقاومة، بعقد قرانهما، وإطلاق كتاب «للسجن مذاق آخر»، ويحتفلان بمرور ثماني عشرة سنة في سجون الاحتلال الباردة. أكثر من هذا كله، أن يخترقا بإرادتهما الفذة ظلّ الغيمة الداكنة التي تجثم على صدر العالم العربي، وحالة اليأس الذي طال القلوب والعقول التي صحبت التخلى العربي شبه الكلي والمجاني على القضية الفلسطينية.
فأرادا، في عزّ دوامة السجون، أن يصنعا المستحيل ويمنحا طريقاً للأمل والممكن لآلاف، بل لملايين الفلسطينيين. إذا كانت البندقية سبيلاً للتحرير عندما تنغلق السبل، يستطيع العقل الخلاق أن يبدع في أصعب الظروف وأقساها ما لم يكن أحد يتصوره، المقاومة والإصرار على الحياة حتى عندما تكون هذه الأخيرة مجرد حلم معلق على رأس حربة.
لم تمنع الثماني تأبيدات الظالمة الأسير أسامة الأشقر من تحقيق بعض حلمه وهو في زنزانات الاحتلال، ومرور ثماني عشرة سنة من الأسر، وكأنه قرر مع الساعات الأولى من اليوم الأول في الشهر الأول من السنة 19 أن يبدأ شيئاً آخر. أسامة الزوج الذي سيمنح الاستمرارية للحياة والحلم الذي لا توقفه الجدران الباردة. القران برفيقة الدرب منار، بالرغم من أنف برودة السجان وظلم المؤسسة الظالمة التي تعاقبه على حبه لأرضه ووطنه، وتزرع بذور اليأس في قلبه، لكن أسامة عرف من خلال حلم منار كيف ينبت الأمل في الرماد، وكيف يزرع الوردة في نزيف الجرح… كل ذلك دفاعاً عن شيء مقدس اسمه الحياة. الشهادة شيء كبير، لكن الإصرار على الحياة والمقاومة في عز الخوف لا يقل قداسة.
الحياة من خلالهما تستحق أن تعاش وأن تصبح رهاناً. منار الشابة الممتلئة حياة ونوراً وإقداماً، تعرف أن المسألة صعبة، لكنها تصر أبداً على الذهاب بعيداً وراء خياراتها التي تكاد تكون ضرباً من الجنون للذي يتأمل المشهد من الخارج، فمن وراء خيارها هذا إصرار على استمرار فلسطين المليئة بالحياة والنور والحب، وتأكيد على أننا بالإرادة يمكننا أن نذلل المستحيل. المستحيل ينسحب عندما يختار المقاوم الدرب الصحيح. الصعوبة تذبل عندما ترى عرش الزنزانات ينهار بقوة الحلم الذي لا يموت، ويفتح أبواب المستحيل. يكفي أن نرى عدد الضيوف على تطبيق «الزوم»، لندرك قوة وعنفوان رمزية العملية التي اشتركت فيها المقاومة الفلسطينية، وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، ووزارة الثقافة، واتحاد الكتاب، والكثير من محبي فلسطين وأسامة ومنار، عربياً وعبر العالم، مما أعطى للحظة اتساعها، واخترقت صمت اللحظة زغرودة الأم العظيمة التي ظلت تذكر خصال الابن وإقدامه على حبه الأقصى لوطنه. بحة المأساة تسد حنجرتها من حين لآخر وهي ترى ابنها يتزوج وهو وراء القضبان الباردة، لكنها تعرف أيضاً، كما كل الأمهات الفلسطينيات، أن الحق يجب أن ينتصر، ولا انتصار بلا مقاومة وتضحيات. وراء آلامها كانت ترتسم الكلمات الخفية والعظيمة: لن تمتعوا القلب من أن يدق للحبيبة ولفلسطين. لن ترغم قسوة السجان منار وأسامة على الرضوخ والتخلي عن الذهاب بعيداً في عمق المستحيل. هذا المستحيل جسده الشق الثاني من الاحتفالية: كيف تقول الشمس التي في داخلك، وأنت تخط بالكلمات مأساة شعبك الذي سرقت منه أرضه ورمي نحو الملاجئ والمنافي القاسية، وكيف تحكي أسطورته العظيمة أيضاً.
ولم يكن إطلاق كتاب الأسير أسامة الأشقر «للسجن مذاق آخر» وملحقه «حروب الظل»، إلا الامتداد الحي للحياة والدفع بها نحو الأقصى والأبقى. أكاد أقول وأنا أقرأ الكتاب: للحياة مذاق أجمل، إذ لم يقل أسامة في جزء من سيرته إلا الخيط الرفيع الذي يربطه بالحياة التي تصبح رهاناً صعباً، وأحياناً قاسياً داخل دروب الظلمة الباردة التي لا يقهرها إلا فانوس الكتابة ونور الأمل «أحلق بخيالي، والقيد حول معصمي، أسمع زقزقة الطيور وأراها تحلق بعيداً ثم تعود إلى أعشاشها، وأرى صغار الحي يعدون خلفها ورؤوسهم تعلو وعيونهم ترنو إلى الأفق البعيد وبسمة الأمل على وجوههم، أدرك حينها الجدوى العظيمة لتضحيات الأسرى». (ص 71)
بالكتابة يتم تثبيت الوقت وتصحيح عقاربه التي كانت تسير على العكس من اشتراطات التاريخ. طبع اتحاد الكتاب الفلسطينيين الكتاب، للسماح للحركة الأدبية الأسيرة أن تعبر عن حلمها، وتنسج تاريخها المجيد الذي لا يستطيع أحد غيرها أن يرويه. فقد تعددت مقاومتها من الإضرابات إلى الأمعاء الفارغة، إلى الانتفاضة إلى الكتابة. للأسير الحق في أن يرى النور من وراء القضبان، كما فعل ويفعل، على سبيل المثال لا الحصر، الأسير الفلسطيني الكاتب باسم خندقجي، الذي أذل زبانية سجون الاحتلال بخلق حياة موازية، سيدها الإبداع والتاريخ المنسي والمقاوم، عبر رواياته. «للسجن مذاق آخر»، لبنة حية تضاف إلى أدب الأسرى. ليس أدب السجون كما يسميه الكثيرون، لكنه أدب الحياة؛ لأنك وأنت تقرأه لن تجد إلا علامات الحياة ترتسم في كل لحظة كالبرق. السجن الذي يسرق الحرية يمنح الصلابة وحب الحياة والإصرار والإيمان المطلق بأن لا أحد يستطيع أن يسرق الشمس والسماء والنجوم والرياح، أو أن يسكت العواصف والبراكين التي لا سلطة لأحد عليها سوى سلطة قانونها. وبقدر ما يصف هذا الأدب اليوميات القاسية، فهو يمنح الحياة والإعجاب لمن يقرأه. بلغته اقتصادية، دقيقة وحية، استطاع أسامة أن يذل بطريقته سجانه ويصغّره.
بواسطة اللغة و28 حرفاً توصل أسامة الأشقر إلى أن يسترجع حريته المسروقة، ويحلق بعيداً، خارج القضبان، ليسرق قليلاً من نار الأولمب وشموخ جبل الكرمل، يدفئ بها قلبه وقلب كل من يقرأه. بالكتابة أيضاً يستمر الإنسان خارج مدارات اليأس التي يزرعها السجان صبح مساء في كأس القهوة الباردة، ومفردات الإهانة. كان أسامة المقاوم يظن أنه سيقتل قبل أن يلقى القبض عليه، فأصبح يقاتل من أجل الاستمرار سرياً إلى أن كُشف مخبؤه بوشاية. في فسحة الحياة، اختار أسامة أن يقول الأمل، واختارت منار أن تكون دليله خارج الزنزانة، على الرغم من رفض الأهل في البداية لهذا الحب غير المعتاد: «اليوم أسامة وأنا نعمل على استكمال مشروع بدأه وحيداً في العام 2009 وهو مشروع بناء شبكة اتصال تربط بين الأسرى، وعدد كبير من الأدباء والمبدعين في فلسطين والعالم، وبذلك يمتدّ صوت الأسرى إلى العالم لإظهار عدالة قضية الأسرى وضرورة الاهتمام بها، وهو الآن يكتب مقالاته التي تخص الشأن الفلسطيني وقضايا إنسانية وعالمية، ونقوم بنشرها في العديد من الصحف العربية والعالمية (ص 118-119)». بهذا الجهد وهذا التفاني، قررت منار برفقة أسامة، أن تكون القضية والوسيلة لعودة عقارب الوقت الفلسطيني نحو مسارها الصحيح.