د. عبد الأمير رحيمة العبود
قراءة في كتاب “تحت أشعة شمس بغداد الحارقة” سنوات من حياتي في العراق
للسيدة ارمتراود “تراودل” حبيب
زوجة الدكتور كاظم حبيب
دار النشر، Glare‘ Verlag, Frankfurt/ am Main, Deutschland
لغة النشر: اللغة الألمانية
تاريخ النشر: 2004
عدد الصفحات: 124 مع بعض الصور
صورة الغلاف: كاظم وطفليه أمام الملوية بسامراء 1974
السيدة „تراودل“حبيب” سيدة ألمانية الجنسية، وهي زوجة صديقنا وزميلنا الدكتور كاظم حبيب. وقد حاولت السيدة “تراودل” في كتابها هذا الذي كتبته باللغة الألمانية، استعراض مذكراتها وملاحظاتها عن الفترة التي عاشتها مع زوجها في العراق والتي تجاوزت الأحدى عشر عاماً، بين عامي 1968-1979، وكذلك الفترة التي عاشتها مع زوجها في الجزائر والبالغة عامين بين عامي 1970-1981، وأخيراً تحدثت عن عودتها مع طفليها إلى بلدها ألمانيا الديمقراطية صيف عام 1981.
ولدت السيدة “تراودل“ عام 1939 في قرية “فوگلزبيرغ” التي تقع بين مدينتي “فايمر” و”أيرفورت” في ألمانيا الديمقراطية، وقبل ميلادها بأيام قليلة سُحب والدها كجندي للمشاركة في القوات العسكرية النازية الألمانية، التي كانت تخوض الحرب العالمية الثانية ضد الحلفاء، وبقيت والدتها تعيش ظروف الحرب القاسية لوحدها مع طفلتيها الصغيرتين في تلك القرية طيلة الفترة حتى عام 1945 عندما خسرت المانيا الحرب.
والسيدة “تراودل” تتذكر كيف دخل الجنود الأمريكيين قريتهم في ذلك العام، وما صاحب دخولهم من نهب وتجويع لسكان تلك القرية بسبب مصادرتهم كل ما وجد من طعام في بيوت القرية، وكذلك كيف دخل القرية بعد ذلك بعدة شهور الجنود الروس ونهبوا كل شيء يمكن حمله.
وبعد انتهاء تلك الحرب عاد والدها إلى عائلته سالماً، وهو ما أفرح عائلته، على الرغم من عجزه أنذاك عن توفير المواد الغذائية والملابس وغيرها من متطلبات المعيشة الضرورية لتلك العائلة، وهو ما اضطر العائلة كذلك إلى العمل معه في قطاع الزراعة كوسيلة لضمان توفير المواد الغذائية في ذلك الوقت. إلا ان ما خلفته الحرب العالمية الثانية من مصاعب على سكان ألمانيا بشقيها بدأت تنفرج تدريجاً مع مرور السنين كما أشارت إليه السيدة “تراودل” في مذكراتها هذه.
وفي عام 1959 وبعد أن أكملت الشابة “تراودل” دراستها الابتدائية، قررت إنجاز ما تتطلبه الدراسة المهنية التطبيقية لمهنة بائعة المنسوجات بغية العمل كما تقتضيه هذه المهنة، وبعد إكمال هذه الدراسة سافرت “تراودل” إلى مدينة “فايمر” بغية العمل هنالك.
وفي حزيران من عام 1960، وبينما كانت الشابة “تراودل” تتمشى مع صديقتها حول تمثالي الشاعرين الألمانيين “غوته” و”شيلر”، وجدا أمامهما شاب جميل القوام، شرقي الملامح، وقد بادرهما هذا الشاب على الفور بالاستفسار والحديث الممتع ووجه اليهما الدعوة للجلوس في إحدى المقاهي القريبة. عندئذ علمت أنه من بغداد بلد ألف ليلة وليلة، وأن اسمه “كاظم حبيب” وأنه يقوم حالياً بدراسة اللغة الألمانية في مدينة “لايبزك” في سبيل إكمال دراسته الاقتصادية في مدينة “برلين”. وأنه جاء الآن إلى مدينة “فايمر” في سبيل الاطلاع على مواقعها الأثرية.
ومن خلال أحاديثه الممتعة والغزيرة بالمعلومات وسلوكه المثير للاحترام والإعجاب وجدت الشابة “تراودل” نفسها في أشد التعلق والانبهار بهذا الشاب بخاصة بعد أن لمست من خلال أحاديثه بأنه شاب ذو تطلع ديمقراطي وتقدمي ويميل للاشتراكية.
وبعد افتراقهما بعدة أيام حصل اللقاء فيما بينهما في مدينة “لايبزك” ثم تكررت هذه اللقاءات في مدينة “برلين” حينما أصبح الشاب كاظم يدرس الاقتصاد السياسي فيها، كما شملت هذه اللقاءات زيارة كاظم لعائلة “تراودل” في قرية “فوكلزبيرغ”. ومن خلال هذه الزيارات ازداد التعلق والإعجاب فيما بينهما.
وبمناسبة حلول احتفالات “عيد الكريسمس ونهاية عام 1960 اتفق الطرفان كاظم وتراودل على إعلان خطوبتهما بالاشتراك مع عائلة “ترادول” وعند 13 تموز 1961 من عام 1961 أنجزا معاملة زواجهما، واحتفالاً بهذه المناسبة قاما بسفرة لمدة شهر إلى مدينة “براغ” في جيكوسلوفاكيا للاحتفال بشهر العسل هناك، ولإنجاز تصديق عقد الزواج في السفارة العراقية هناك أيضا.
وحينما حل عام 1965 قررت السيدة “تراودل” السفر إلى العراق للالتحاق بزوجها في بغداد والذي سبقها إلى هناك منذ تسعة أشهر بسبب التزاماته السياسية والحزبية. غير ان تلك السفرة محددة الزمن وعند الاتصال بشركة الخطوط الجوية الألمانية كانت سفرتها إلى بغداد تقتضي المرور بمدينة القاهرة، وبسبب أعمال الصيانة تأخرت الطائرة في مدينة القاهرة لأكثر من يوم استغلتها السيدة تراودل بالتعاون مع بقية ركاب الطائرة بزيارة الأهرامات وبعض المناطق الأثرية في مدينة القاهرة، وفي اليوم الثالث وصلت السيدة “تراودل” إلى بغداد وكان باستقبالها في المطار الأخ الأكبر لكاظم الدكتور مهدي حبيب وعائلته الذي كان يجيد اللغة الألمانية لأن الظروف السياسية لم تسمح لزوجها باستقبالها في المطار في ذلك الوقت.
*******
لكن السيدة “تراودل” التقت بزوجها كاظم حينما وصلوا إلى بيت أخيه، وهناك وجدت أمامها مجموعة من أقارب زوجها، ومن بينهم اثنين من أخواته اللاتي قدمن من مدينة كربلاء في سبيل استقبالها، وقدمن إليها عدد من السبائك الذهبية كهدايا بمناسبة قدومها إليهم. كان اللقاء جميلاً رغم صعوبة التحدث من قبلها مع أكثر الحاضرين ممن لا يجيدون اللغة الألمانية أو الإنكليزية، الأمر الذي استدعى قيام زوجها كاظم بعملية الترجمة فيما بينها وبين الآخرين. لقد شعرت تراودل من هذا اللقاء بأنها لسيت غريبة ومرفوضة من قبل عائلة كاظم بسبب كونها مسيحية وأجنبية الجنسية. في كل الأحوال سكنت هي وزوجها في الطابق الثاني من الدار العائدة لشقيقه الدكتور مهدي لفترة ثلاث أشهر.
واعتباراً من اليوم الثاني بعد وصولها بغداد، بدأت “تراودل” بالتعرف على مدينة بغداد بمرافقة بعض النساء من أقارب زوجها، لأن زوجها لم يستطع القيام بذلك بسبب ظروفه السياسية. ومما أثار انتباهها في تلك الأيام هو أن أغلب المباني السكنية في تلك الشوارع تتكون من بيوت صغيرة تتقدمها الحدائق التي تحتوي على أشجار النخيل والحمضيات والفواكه والأوراد الزاهية وهي محاطة بالسياجات العالية التي تمنع الآخرين من النظر إلى داخلها. كما أنها لاحظت في مناطق ليست بعيدة عن تلك البيوت إنشاء بيوت القصب ومخيمات الشعر التي يسكنها فقراء الناس النازحين من المناطق الزراعية في وسط وجنوب العراق بغية العمل في بغداد، وهو ما يعني شمول تلك المناطق على العوائل الغنية والفقيرة في آن واحد. كما لاحظت في تلك الأيام أن بعض سكان المنطقة يطوفون الشوارع لابسين “الدشداشة” لوحدها، والبعض يلبس الكوفية والعقال فوق ذلك، بينما الكثير من النساء يرتدين الملابس الحديثة ويغطين أجسامهن بالكامل من رؤوسهن حتى أقدامهن بالعباءات السوداء وهو أمر لم تره في دولتها.
وفي الأيام اللاحقة لم تنقطع السيدة “تراودل” عن الخروج من الدار بغية التعرف على مدينة بغداد بمرافقة قريباتها، فتارة يستأجرن التاكسي لزيارة منطقة باب الشيخ أو الباب الشرقي للاطلاع على نصب الحرية للفنان جواد سليم أو نصب الجندي المجهول، وتارة أخرى يركبن الباص الأحمر ذو الطابقين للذهاب إلى شارع الرشيد لزيارة بناياته ومحلاته الجميلة المختلفة وكذلك زيارة سوق الشورجة أو سوق الحدادين ومحلات سباكة الذهب في شارع المستنصر، وفي أي من تلك المناطق كانت تراودل تحاول التعرف على ما تتميز به تلك المناطق من مزايا مهنية وغير مهنية.
وما أن حل شهر نوفمبر 1965 حتى حل وقت انتهاء الفترة المحددة لزيارة “تراودل” إلى بغداد. ركبت “تراودل” الطائرة عائدة إلى “برلين” عبر القاهرة مرة أخرى بعد أن أوصلتها عائلة كاظم إلى المطار.
ومنذ وصول “تراودل” إلى برلين وعودتها إلى عملها في وزارة التجارة، بقيت تعيش في حلة الشوق إلى زوجها كاظم، وكذلك لأسلوب العيش في بغداد برفقته وأفراد عائلته، رغم حرارة الجو هناك. ولم تمض عدة أشهر حتى عاد كاظم من جديد إلى برلين في سبيل إكمال متطلبات حصوله على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية.
في مطلع عام 1968 حصل كاظم على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، ولم تمض عدة أشهر حتى قرر كاظم وزوجته السفر إلى بغداد بقصد العيش بقية حياتهما هناك. ومرة أخرى سكن كاظم وزوجته عند أخيه الدكتور مهدي في الدار الجديدة التي أنجز بنائها قبل بضعة أشهر، وبقيا ساكنين في تلك الدار طوال الفترة التي لم يحصل فيها كاظم على فرصة عمل.
ويبدو ان هذا النموذج من الدعم المتنوع والتعاون المستمر الذي حصلت عليه عائلة د. كاظم من أخيه وكافة أفراد عائلته، قد أثار انبهار واهتمام السيدة “تراودل”، التي لم تلاحظ مثله في بلدها ألمانيا. وكانت تفسر هذا النهج من التعاون الذي ينتشر ويطبق عند أغلب العوائل العراقية، إنما يعود وبشكل خاص إلى أسلوب التربية الاجتماعية العراقية، ولا يخلو ذلك من تأثير مبادئ الدين الإسلامي.
*******
في نهاية شهر أيلول من عام 1968 سافر كاظم مع زوجته “تراودل” إلى كربلاء بالسيارة لزيارة أختي كاظم وعوائلهما. وعندما اقتربت سيارتهم من مدينة كربلاء لاحت لهم على الطريق قافلة من الأبل محملة بالتمور، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تشاهد فيها “تراودل” حيوانات “الأبل”، وتعتبر مدينة كربلاء من المدن التي تكثر فيها أشجار النخيل.
وحين وصلت السيارة إلى أطراف كربلاء، طلب من “تراودل” أن ترتدي العباءة السوداء، حيث لا يسمح للنساء بالظهور في شوارع كربلاء بدون العباءة الإسلامية السوداء.
ومدينة كربلاء هي إحدى المدن الإسلامية المقدسة عند طائفة الشيعة الإسلامية، لأنها تحتوي على قبري الإمامين الحسين والعباس (ع)، وفي شهر محرم من كل عام يتدفق المسلمون الشيعة من كل المناطق لزيارة ضريحي الإمامين الحسين والعباس (ع) في مدينة كربلاء في عشرة عاشوراء من كل عام.
وفي مركز المدينة، بالقرب من ضريح الإمام العباس (ع) زارت عائلة الدكتور كاظم أخته الكبرى، التي تسكن هناك في بيت قديم. وقد جلس كافة الضيوف على الأرض لتناول الطعام، وبعد ذلك ذهب كاظم وزوجته لزيارة الأخت الأخرى التي تسكن في دار جديدة في أطراف مدينة كربلاء، ثم عادت عائلة كاظم إلى بغداد في وقت متأخر.
والآن مَّرت على وجود عائلة د. كاظم في بغداد تسعة شهور لم يعمل أي منهما خلالها. وأصبحت هذه العائلة بحاجة إلى النقود. وفي نهاية تلك الفترة علمت “تراودل” بوجود عمل لدى السفارة الألمانية في بغداد كمسوقة للمنسوجات في أحد المعارض ولمدة شهر واحد، وبعد أن قدمت تراودل طلباً لهذا العمل قُبل طلبها، وفي نهاية الشهر استلمت تراودل المبلغ المخصص لقاء عملها، وكان هذا أول مبلغ تحصل عليه عائلة كاظم، بعد أن كانت تعيش اعتماداً على مساعدات الأهل.
*******
وفي مطلع عام 1970 عقدت الحكومة العراقية اتفاقية صداقة مع جمهورية المانيا الديمقراطية بعد اعترافها بتلك الدولة التابعة للمعسكر الاشتراكي وقد كان لذلك دور في تحسين علاقة البعثيين مع القوى الديمقراطية وبخاصة كوادر الحزب الشيوعي العراقي وخلال هذه الفترة حصل الدكتور كاظم على فرصة التعيين ضمن الهيئة التدريسية للجامعة المستنصرية في بغداد، وهو ما ساعد هذه العائلة على تأجير دار واسعة للسكن تحتوي على حديقة في مقدمتها، وهكذا استمر التحسن في مستوى معيشة عائلة الدكتور كاظم وراحت السيدة “تراودل” تشارك في برنامج تعلم اللغة العربية لمدة ثلاث سنوات. وفي عام 1970 ولد الطفل الأول لعائلة الدكتور كاظم وسمياه “سامر”.
********
في الصفحات 70-77 من هذا الكتاب حاولت السيدة “تراودل” التحدث عن بعض التقاليد والعادات الاجتماعية العراقية، مشيرة في البداية إلى وصف طقوس العزاء التي حصلت بعد وفاة أحد أقارب الدكتور كاظم، حيث استمرت هذه الطقوس لمدة سبعة أيام، أحد جوانبها يخص الرجال، حيث تستمر قراءة القرآن طوال اليوم بينما يتعاقب المعزين من الرجال في الجلوس في قاعة العزاء وسماع آيات القرآن، والجانب الآخر يخص النساء اللاتي يفترشن الأرض ويمارسن البكاء والعويل طوال أيام العزاء. وكذلك التحدث عن أيام الصيام في شهر رمضان وختامها بالاحتفال بعيد الفطر واقترانها بزيارة الأهل والأقارب والأصدقاء، كما تحدثت عن نماذج أخرى من العلاقات الاجتماعية التي تتخذ شكل الزيارات العائلية للأهل والأصدقاء، وزيارة دور السينما والمسارح والحفلات الموسيقية.
********
وفي عام 1972 ولدت طفلة لعائلة الدكتور كاظم سميت “ياسمين”. حين بلغ الطفلان عمر الأربع سنوات أدخلا روضة الأطفال، وبعد ذلك بعامين أدخلا المدرسة الابتدائية في منطقة المنصور، وكانت السيدة “تراودل” هي التي تقوم بإيصالهما وجلبهما من المدرسة بسارتها الخاصة لانشغال زوجها بأعماله. وفي عام 1974 حصل الدكتور كاظم على قطعة أرض المخصصة لجمعية الاقتصاديين العراقية، وقد أكمل بناء تلك الدار في عام 1975 وبعد اكتمال تأثيث الدار وزراعة حديقتها الواسعة بأشجار الفاكهة والأوراد الجميلة، زار العائلة في عام 1976 والد السيدة تراودل وزوجته قادمين من ألمانيا، وقد أفرحهما مستوى معيشة أبنتهما “تراودل” وخلال فترة إقامتهما في بغداد أنجزت لهما عائلة الدكتور كاظم مجموعة من السفرات للتعرف على مدينة بغداد وكذلك لزيارة كربلاء والمناطق الأثرية في مدينتي الحلة وسامراء.
*******
وفي سبيل تعريف القارئ الألماني حول بعض جوانب التقاليد والأعراف العراقية التي تختلف عن مثيلاتها في ألمانيا تحاول السيدة “تراودل” في الصفحات 95-109 الحديث عن واقع المرأة العراقية وعدم مساواتها بالرجل بخاصة في المناطق الريفية والمناط الفقيرة في العراق حيث يتم زواج المرأة بناءً على اختيار عائلتها للزوج وحسب تقاليد العائلة، وليس للمرأة مطلق الحرية في اختيار زوجها.
وكذلك فيما يتعلق بتوزيع التركة حيث تحصل المرأة على الثلث بينما يحصل الرجل على الثلثين من التركة. إضافة إلى ما يتمتع به الرجل من حق الزواج بأربعة نساء وفقاً للشريعة الإسلامية، وما تتميز به عملية الطلاق من إجحاف بحق الزوجة، وتسهيلاً كبيراً لمن يرغب بالطلاق من الرجال.
في تموز عام 1978 أعتقل الدكتور كاظم من قبل أجهزة الأمن البعثية بقرار مباشر من صدام حسين بسبب نشره مقالاً ينتقد فيه السياسات الاقتصادية للنظام البعثي، وتعرض فيه للتعذيب الشرس، وحين أفرج عنه حصلت له فرصة الحصول على دعوة من جامعة القسطنطينة الجزائرية لإلقاء محاضرات في العلوم الاقتصادية، فغادر العراق في خريف عام 1978.
وقد جات هذه الدعوة أثناء قيام حزب البعث بحملة شعواء لاعتقال وتعذيب مجموعة من الشيوعيين والديمقراطيين، وبعض الإسلاميين حتى بلغ مجموع المعتقلين من هذه الفئات خلال تلك الفترة قرابة الخمسين ألف معتقل.
وبعد سفر الدكتور كاظم ببضعة أيام صدر أمر باعتقاله ومحاكمته وبُلغ أخاه الدكتور بهذا الأمر. لكن الدكتور كاظم استغل وجوده في الجزائر وحصل على عمل في إحدى الجامعات الجزائرية. وبقيت زوجته “تراودل” تعاني من الرعب، لأنهاء لا تستطيع مغادرة العراق إلا بعد إكمال طفليها للفصل الدراسي، بخاصة بعد أن لاحظت تواجد رجال الأمن بالقرب من دارها بشكل متواصل، الأمر الذي اضطرها إلى مغادرة دارها والسكن في بيت أخ الدكتور كاظم.
وعند اكتمال الفصل الدراسي قدمت السيدة “تراودل” طلباً لمغادرة العراق باتجاه الجزائر، وقد تمت الموافقة على هذا الطلب، وفي مطلع عام 1979 سافرت السيدة تراودل برفقة طفليها إلى الجزائر.
وعند وصول السيدة “تراودل” وطفليها إلى مطار مدينة الجزائر كان زوجها الدكتور كاظم باستقبالهم في المطار، وهو ما أفرحهم جميعاً، وبعد ذلك اتجهوا جميعاً بالسيارة نحو دار السكن المؤثثة التي استأجرها الدكتور كاظم لمدة شهر واحد ف ضواحي مدينة الجزائر والتي تقع بالقرب من أحد الحدائق الواسعة التي تحتوي على ملعب للأطفال، كما تقع بالقرب منها مدرسة للأطفال وبذلك توفرت للعائلة ظروف جيدة للمعيشة في هذه المنقطة، سيما وأنهم وصلوا الجزائر في فترة الربيع حيث تزهو المنطقة بجمال الطبيعة، وهو ما أثار إعجاب وارتياح عائلة الدكتور كاظم في تلك الأيام.
كانت متطلبات حضور الدكتور كاظم بقصد العمل في بناية الجامعة محصورة بعد أيام من الأسبوع وهو ما ساعده على التفرغ في الأيام الأخرى للقيام ببعض الجولات لغرض تعرف عائلته على المناطق المهمة في مدينة الجزائر، وقد لمست السيدة “تراودل” حينذاك باختلاف الطابع المعماري لمدينة الجزائر عن مدينة بغداد، حيث تغطي العمارات الشاهقة ذات الطابع الأوروبي أغلب الشوارع في مدينة الجزائر. وتعتبر دولة الجزائر إحدى الدول الإسلامية ذات الطابع السني، وفيها ترتدي غالبية النساء البدلات الطويلة والعباءات ذات اللون الفاتح وبعضهن يغطين حتى وجوههن بالقماش الأبيض بحيث لا ترى سوى عيونهن.
وبعد مرور الشهر سكنت عائلة كاظم في حي سكني جديد، تسكن فيه مجموعة من العوائل الجزائرية والفرنسية والعراقية والسورية، وفيه توطدت علاقتهم مع بعض العوائل العراقية الساكنة في هذا الحي.
وفي هذا الحي واجهت عائلة الدكتور كاظم كغيرها من العوائل مشكلة التزود بالماء سوى ساعتين في اليوم. كما عانت من صعوبة تجهيز دارهم الجديدة بما تحتاجه من الأثاث والمتطلبات المنزلية بسبب ندرتها في الأسواق أنذاك مما اضطرهم إلى شراء السلع المستعملة لتغطية حاجتهم إليها.
وبعد عدة أشهر أصبح لدى العائلة سيارة بيجو جديدة، وهو ما ساعدها على القيام بعدة سفرات للتعرف على المناطق الهامة في مدينة الجزائر بخاصة المناطق المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
وفي شهر حزيران من ذلك العام وعند حلول العطلة الصيفية أنجزت هذه العائلة سفرة بالطائرة إلى كل من لندن وباريس للاطلاع على معالمها وزيارة بعض الأقارب والأصدقاء هنالك.
وما أن حل فصل الشتاء حتى قامت عائلة كاظم بسفرة طويلة بعمق 700 كم لغرض التعرف على الصحراء الجزائرية الواسعة، وأسلوب عيش سكانها من الأمازيغيين “البربر” وقد استغرقت هذه السفرة عدة أيام، وفي عمق الصحراء حصل اللقاء مع عائلة مهندس النفط العراقي الدكتور سنان عبد الفتاح إبراهيم الذي كان يعمل في عمليات استخراج النفط. وحينما حل شهر حزيران من عام 1981 وهو نهاية العام الدراسي هناك، قرر الدكتور كاظم السفر بمفرده إلى منطقة كردستان العراق بقصد المشاركة في حركة الأنصار الشيوعيين في نضالهم ضد دكتاتورية صدام حسين، وفي سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكان هذا القرار مفاجئاً للسيدة “تراودل”، لأنها لا تعلم بمدى خطورة هذه المشاركة على حياة زوجها، وكيف ومتى سوف يعود، وكيف سوف تجابه الظروف القاسية لوحدها مع طفليها بعد غيابه.
في نهاية شهر آب من عام 1981 وصلت السيدة “تراودل” مع طفليها إلى مدينة برلين في ألمانيا الديمقراطية، وكان عليها عند وصولها هناك أن تبلغ القوى الأمنية بأنها سوف تقيم هناك بشكل دائم، لأن الإجراءات الحكومية هناك كانت تتطلب ممن كان مقيماً من الألمان لفترة طويلة في إحدى الدول الرأسمالية، وتعتبر كل الدول النامية ومنها العراق مشمولة بهذا المصطلح، أن تقيم لعدة أشهر في مناطق الحجر السياسي بغية تقييم وضعه السياسي ومعرفة العوامل التي تستدعي عودته الدائمة. ولهذا تم حجر السيدة “تراودل” مع طفليها في إحدى الشقق السكنية في موقع الحجر خارج مدينة برلين. وهناك لا يسمح لأحد بزيارتهم، وقد سمح للطفلين بزيارة إحدى المدارس في منطقة الحجر.
وفي أحد الأيام فوجئت السيدة “تراودل” بوجود زوجها خارج الدار التي تسكن فيها، بعد أن وصل إلى برلين بزيارة قصيرة للمشاركة في أحد المؤتمرات السياسية، لكن السلطات الأمنية لم تسمح له بدخول الدار، فاضطر إلى لقاء قصير مع زوجته وطفليه على رصيف الشارع، وقد تألمت العائلة بكاملها من هذا الإجراء غير الإنساني والذي لا توجد له أي مبررات معقولة.
وفي نهاية عام 1984 عاد الدكتور كاظم إلى برلين بعد انتهاء متطلبات وجوده في كردستان وفي سبيل العيش مع عائلته، وبعد أن نسب من قبل المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي للعمل في هيئة ومجلس تحرير مجلة الوقت التي تصدر في مدينة براغ في جيكوسلوفاكيا.
لذلك سافر إلى مدينة براغ بعد أن حصل على فرصة للعمل هناك لقاء أجر جيد، وأصبحت اللقاءات مع عائلته تحصل عن طريق الزيارات لبعضهم البعض.
وفي عام 1985 سافر الدكتور كاظم برفقة زوجته تراودل وطفليهما إلى الاتحاد السوفييتي زاروا خلالها البحر الأسود والعديد من المدن والمناطق الهامة. وفي عام 1986 حصل على دعوة لزيارة عدد من المدن في الولايات المتحدة لإلقاء المحاضرات حول الوضع السياسي والاقتصادي العراقي. وقد اصطحب معه في هذه السفرة زوجته “تراودل”. وشملت هذه السفرة كل من مدينة ديترويت، وشيكاغو، وكاليفورنيا ولوس أنجلوس وواشنطن ونيويورك، وقد التقى خلالها بعدد كبير من المواطنين العراقيين، منهم من حضر المحاضرات التي كان يلقيها الدكتور كاظم منهم من ساهم بمرافقتهم للتعرف على المناطق الهامة في تلك المدن.
في نهاية عام 1988 عاد الدكتور كاظم إلى برلين بعد أن حصل على عمل كباحث في مركز بحوث حل المنازعات. وعند سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار النظام السياسي في المانيا الديمقراطية وتوحيد شطري ألمانيا في دولة واحدة، لم يُسأل الدكتور كاظم وكذلك لم تُسأل زوجته “تراودل” أي أحد: هل أنتَ متزوج من أجنبية أو هل كنتِ مقيمة في دولة رأسمالية.
استمرت عائلة الدكتور كاظم حبيب بكاملها تعيش عيشاً رغيدا طيلة السنوات اللاحقة، وكانت حياتهما وزواجهما نموذجاً رائعاً للحب، والود، والوفاء والتضحية والانسجام طيلة هذه السنين.
شيكاغو، شهر تشرين الثاني