الروائي واسيني الأعرج .
أثارت قضية اختفاء لوحات بيكاسو السبع الرأي العام الجزائري والكثير من مواقع التواصل التي التهبت فجأة، متسائلة عن مآل هذه اللوحات التي عُثِر عليها في مدريسا (ة) في مدينة تيارت- الجزائر، منذ 11 سنة؟ مما اضطر ديوان وزارة الثقافة إلى نشر بيان (كأننا في حرب) غير موقّع، بدل توضيح مؤسس ومدعم بالوثائق والوقائع تؤكد فيه أن قضية لوحات بيكاسو حقيقية، لكن البحث والتحقيقات العلمية أثبتت أنها مزورة؟ هذه هي خلاصة البيان؟ بعد انتظار طويل ومرور ستة وزراء على حقيبة الثقافة (السيدة خليدة 2002-2014 السيدة نادية العبيدي 2014-2015 السيد عز الدين ميهوبي 2015-2019 السيدة مريم مرداسي 2019 السيد حسان رابحي 2019-2020 والسيدة مليكة بن دودة الوزيرة الحالية) وكما يقولون عندنا: جاء يكحلها، أعماها (أراد أن يضع لها كحلاً، فأعماها).
المسألة بما أسالته من حبر وتساؤلات خطيرة، أكبر من بيان غير موقّع، على الرغم من ضرورته لأنه جاء كاستجابة بعد انتظار دام طويلاً، حتى ولو كان غير مقنع في شكله ومضمونه. منذ أن أثارت القضية لأول مرة بعض الجرائد الوطنية، وقضية اللوحات تتسع ككرة ثلج. في 11 سبتمبر/أيلول 2009 نشرت جريدة الوقت الجزائري Le temps d’Algérie خبراً مهماً مفاده أن مواطناً كان يحفر بئراً في منطقة مدريسا (ة) فعثر بالصدفة على ما يمكن أن نسميه كنزاً فنياً: سبع لوحات لبابلو بيكاسو. شيء لا يمكن تخيله ولا حتى في الأحلام. وعندما فُتح الموضوع بطلب من مثقفي المنطقة، تم التوصل، بعد محاولات يائسة، إلى الشخص الذي عثر على اللوحات. مكّنني من الاستماع إليه لساعات طويلة، بسرية تامة، فعرفت من خلال التفصيلات التي رواها لي طبيعة القصة التي كلفته محناً ومشقات كثيرة. أثناء حفر البئر، عثر بالصدفة على ممر طويل، يقال إنه يقود إلى سجن قديم. ليس هذا بيت القصيد. وجد في هذا الممر السري الكثير من الأشياء الملفوفة بشكل أسطواني اتضح فيما بعد أنها لوحات لبيكاسو، لأن الحفر تم في حديقة إقامة المعمر غوميز، صديق بيكاسو الذي يبدو أنه استقبله في سنة 1944 في وقت محاصرة بيكاسو من طرف الغيستابو وعزله بعد اعتباره من منتجي الفن المنحط (المفهوم النازي للفن l’Art Dégénéré ). يعود الفضل في هذا كله إلى تجاوب مثقفي مدريسا (ة) الذين تفاعلوا مع الحدث الذي أثرته بنية البحث عن الحقيقة، بشكل كبير وغير متوقع. طوال السنوات الماضية؛ أي منذ أكثر من 11 سنة، ظلوا يدقون على أبواب وزارة الثقافة دون أن يسمعهم أحد.
مثل الجميع، لا أعرف حتى الآن مآل لوحات بيكاسو المفترضة أصلية، سوى أن القضية تسببت في مشاكل كثيرة لبعضهم، إضافة إلى البيت الذي كانت تملكه الدولة وينتمي إلى ما كان يسمى بعد خروج الاستعمار من الجزائر: الأملاك الشاغرة Les Biens vacants يبدو أنه بيع لشخص يشتغل في أشغال الطرقات، قبل أن يتحول من يد هذا الأخير إلى أيدٍ أخرى، ويفقد قيمته التاريخية ليصبح بيتاً عادياً غيّر واجهته وحديقته صاحبه الذي اشتراه، وفق مشيئته ما دام ملكه. فهمت من بعض المحاورين المحليين أن بيكاسو أقام فيه مع حبيبته وملهمته دورا مار بدءاً من 1938. في هذا الأمر كنت قطعياً، من ناحية عدم صحة الخبر. تتبعت حركة بيكاسو قبل دخول الغزاة النازيين إلى شمال فرنسا في 10 جوان 1940 ووجدت أنه كان يعيش في حالة انتشاء في باريس على الصعيد الذاتي، علاقته مع دورا مار، في سقفها العاطفي الجميل، وشهرة غير مسبوقة بعد إنجازه غرنيكا (1937) التي ورافقته دورا مار في كل مراحلها بالمتابعة والتصوير الفوتوغرافي. البوم الصور متوفر في كل المواقع الخاصة باللوحة. سبب هذا الوهم الذي صدقه الكثيرون من أهل المنطقة، مقالة كتبها عمر أزواو، المسنى الحسين، اسم غير معروف إعلامياً، تحت عنوان: إعادة الاعتبار لجوهر عمار، المسماة دورا مار، الزوجة الشرعية لبيكاسو. يدّعي في مقالته أنه وجد وثائق في شارع سعدي كارنو، بالجزائر؟ تثبت وجود بيكاسو في سنة 1938 في الجزائر، ومنها عقد زواج يثبت ارتباطه بدورا مار (المولودة هنرييت دورا ماركوفيتش ولدت في 1907، وتوفيت في 1997) ثم يزعم أنها جاءت إلى الجزائر بعد الانتهاء من تصوير فيلـــم جون رونوار في 1935 جـــريمــــة الســــيد لانـــج Le crime de Monsieur Lange سيناريو الكاتب الكبير جاك بريفر، الذي صُوِّر في استوديوهات بيونكور العريقة وليس في الجزائر، لتتعرف في 1938 ببيكاسو؟ علماً أنها تعرفت به أثناء تصوير نفس الفيلم بعد أن قدمها له صديقه رائد السوريالية بول إلوار، لنا أن نرى حجم الوهم الذي زرعته المقالة؟ الأجمل من هذا، فقد عمق صاحب المقالة الوهم بتأكيده أن من رسم غرنيكا هي دورا مار وليس بيكاسو بعد زيارتها السرية لمالقا Malaga، وطلبت من بيكاسو رسم غرنيكا لكنه كان جباناً «رسمتها هي ومنحتها لبيكاسو لتوقيعها لتثبت له وفاءها، ونزعت من اللوحة صورة بيكاسو وهو يولي ظهره لقضية شعبه». كلام لا يحتاج إلى أي تعليق. ذهب بعدها ليتخفى عند صديقه أنطونيو دييغو غوميز، في قرية في نهاية العالم، مدريسا (ة). لهذا أفترض أن السنة الأكثر احتمالاً لزيارة بيكاسو لمدريسا (ة) هي 1943-1944 بعد أن ضَمَّت النازية أعماله للفن l’art dégénéré مقابل الفن البطولي، وهي الفترة التي منع فيها كلياً من عرض لوحاته في باريس وفي المدن التي كانت تقع تحت الهيمنة الألمانية، وأصبح يعيش في عزلة، في فترة حكومة فيشي العميلة التي رفضت له الجنسية الفرنسية بحجة أنه كان مع حركة الفوضويين. حوصر بيكاسو لدرجة أنه لم يجد المواد لإنجاز تماثيله. منحوتة «رأس الثور» صنعها من مقود وكرسي دراجة كانت مرمية. استغل أعداؤه الفرصة لتحطيمه. فقد كتب عنه الكثيرون، مثل أندري دوران وفلامينك كتابات سيئة، وحملوه انهيار الفن التشكيلي، وخراب الذائقة، في فرنسا. مع حلول سنة 1942 أصبح عالمه لا يتعدى مطعم كتلان ومرسمه. لولا صداقته بكوكتو الذي أوصى به خيراً، نحات هتلر المفضل، بريكر، ولولا الكاتب الفرانكوفيلي إيرنست يونغر المنخرط في الجيش النازي، الذي كان إذا لم يُشاهد إعداماً لأحد المقاومين، يقضي وقته في هوايته المفضلة، جمع الفراشات وتجفيفها بتثبيتها بمسمار رقيق على قطعة خشب، الذي زار بيكاسو في بيته آخر مرة، في باريس، ولا أحد يعرف ما دار بينهما، لكن أغلب الظن يكون قد نصحه بالمغادرة، وهو ما فعله بمساعدة بعض أصدقائه من المقاومين الإسبان الذين كانت الجزائر ملجأ لكثير منهم. إذن، فرضية مجيئه في 1938 إلى الجزائر وبقائه حتى 1945 لا تقوم على أي مرجع أو منطق. وكون اللوحات السبع التي تم العثور عليها، موقعة في 44 يدعم تاريخ زيارته السرية ما بين 1943-1944. وعودته إلى باريس في صيف 1944 لحضور احتفالات اندحار النازية. سيعود إلى الجزائر في الخمسينيات قبل إنجازه نساء الجزائر، لكن تلك قصة أخرى تستحق التأمل أيضاً.