حين يمجد المثقف الاستعمار: سقطة طه حسين وتناقض ماركس
تعالج هذه المقالة إشكالية كبيرة في مفهوم الثقافة، وفي ورطة المثقف وكيف تحول بعض المثقفين إلى سدنة للاحتلال، نتيجة قصور في الفهم أو جريان مع التيار السائد، أو حرص على الامتيازات الشخصية، أو اعتقاد خاطئ بكمال التجربة الغربية، واضطلاع الغربي بمهمة التبشير بالأنوار والديمقراطية والتقدم، في ربوع الشرق النائم والمتخلف، كما بشّر بذلك عرابو الاحتلال أمثال، الكاردينال لافيجري في الجزائر، ووليم ولكوكس وكرومر في مصر، تمثيلا لا حصرا.
لقد انطلت هذه الحيلة حتى على مثقفي أوروبا أنفسهم ففيكتور هوغو مثلا المتعاطف مع الجرح الإنساني، والموظف أدبه لنصرة المظلومين والبؤساء، كما جسد ذلك بصدق أدبه في «البؤساء» و«أحدب نوتردام» زكى الاحتلال الفرنسي للجزائر، ما دام كما تناهى إلى سمعه غايته تنوير الجزائر وتمدين الشعب الجزائري، ولو عاش أمدا لشعر بالخزي وهو يقرأ «معذبو الأرض» لفرانس فانون مثلا، ليطلع على أنواع الأمراض النفسية والعصبية التي سببها الاستعمار للفرد الجزائري، والأدهى والأفدح أن ماركس وإنجلز زكيا الاستعمار الفرنسي للجزائر، ونظرا إليه على أنه يحمل التحديث الأوروبي إلى هذه المستعمرة الافريقية، وهكذا يسقط الفكر الأوروبي الأبيض في متاهة تناقضاته، وتتهافت المركزية الأوروبية أمام الهامش والآخر المختلف، الذي تراه بمنظار التوحش والدونية.
يلخص علي حرب في كتابه «أوهام النخبة أو نقد المثقف» مهمة المثقف في الدفاع عن الإنسان من أجل تحسين ظروف حياته، أي الدفاع عن قيم الحياة كالحرية والعدالة والكرامة والمساواة، والمثقف هو الذي يناضل من أجل تحقيق هذه القيم وغير ذلك لا يعدو المثقف كونه مجرد موظف مثله مثل أي موظف في دائرة حكومية، وهذا الرأي يتبناه إدوارد سعيد وتشومسكي تمثيلا لا حصرا.
وما دام للمثقف هذا الدور الطلائعي، فإن سوء فهمه أو تزلفه نتيجة للرغبات والهواجس والشهوات الحسية والسلطوية، قد تشوه الرؤية وتساهم في تردي وضع المجتمع، مادام المجتمع يصغي إليه، ولعل هذا ما قصده الرئيس علي عزت بيغوفيتش في توصيفه لوضع المثقف وحالة العالم الإسلامي، وصعوبة التنوير والتثوير في كتابه «عوائق النهضة الإسلامية»:
«ولكن المشكلة الحقيقية هي وجود الأجانب الغرباء من بني جلدة المسلمين، خاصة في طبقة المثقفين الذين فقدوا كل اتصال بهوية شعوبهم، وهؤلاء يقدمون المناهج الغربية المعادية للإسلام، ولنسمها بالكمالية، نسبة لنموذجها الأشهر لشعوبهم التي تتسم بالمشاعر والعواطف الإسلامية، وبذلك يدور التفاهم في المجتمع في حلقة مفرغة». هذه الحلقة المفرغة التي يتحدث عنها الرئيس بيغوفيتش ليست سوى تشتت الوعي، وإفناء طاقات الأمة حين لا يلتزم المثقفون بواجب واحد والمتمثل في الدفاع عن قيم الحياة كالعدالة والحرية والمساواة مثلا.
إن اختصار الجهد الثقافي الفرنسي في النضال في القرن الثامن عشر في هذه الكلمات الحرية والمساواة والأخوة، يحمل دلالة عميقة إنه عملية تبئير للوعي وللنضال في الوقت ذاته، فما كان الفرنسيون في حاجة إلى طنطنة بلاغية وبهرجة بيانية في ذلك الوقت، أو إلى تقعر أكاديمي في مصطلحات هي أشبه بالطلاسم أو الأحاجي، في الحديث العام في المقهى أو الشارع، بل كانوا في حاجة إلى كلمات دقيقة واضحة، وعمل كبير، وهذا ما اضطلع به المثقفون في ذلك الوقت.
يقول العقاد إن المذهب الذي لا تستطيع شرحه في كلمات قليلة، لا تلتزم به ولا تلق إليه بالا، لأنه لا يعدو أن يكون مجرد كلام لا سند له في أرض الواقع، ونجد ترجمة دينية لكلام العقاد في قوله تعالى «قل آمنت بالله ثم استقم» وهي تشرح حقيقة الإيمان، فهو تصديق وعمل في كلام معجز وجيز يصح أن يكون دستورا للمرء في هذه الحياة.
وفي «وحي الرسالة» لأحمد حسن الزيات ذكر أنه حضر تدشين مسجد باريس في 1926، واتّسخت أذناه مما سمع من التزلف والتملق لفرنسا، فلما جمعه لقاء ببن غبريط سأله: «كيف يبتهج العرب بعيد الحرية وهم عبيد؟ ويفتخرون بمجد فرنسا وهم أذّلة؟
إن نجاح الثورة الفرنسية مثلا هو في تركيز جهد المثقفين من شعراء وكتاب وفلاسفة وفنانين، على تحقيق هذه القيم على أرض الواقع انطلاقا من مقهى «البروكوب» في الدائرة الخامسة الباريسية. وفي حالة الجزائر المحتلة، كحالة إنسانية وحادثة تاريخية كونية لمصير شعب قدر له أن ينكب في حريته وفي وطنه، منذ الاحتلال الفرنسي 1830/1962من غير الممكن تجاوز الخطأ الذي ارتكبه الطالب طه حسين، وهو يتقدم لنيل الدكتوراه إلى جامعة السوربون عام 1918 برسالة عن ابن خلدون وقد عنون رسالته بـ: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون» وقام صديقه المحامي محمد عبد الله عنان بترجمتها إلى العربية، واللافت للنظر في الأطروحة الإهداء الذي رفعه إلى السلطات الفرنسية، التي تقاوم البرابرة في سبيل نشر حضارتها، إن وسم الشعب الجزائري بالبرابرة فيه تجن كبير، فهو لا يقصد أصل الجزائريين وهم الأمازيغ، لكنه يقصد الهمج بمفهوم ثقافي ينحاز للبشرة البيضاء وللثقافة الأوروبية، وبكل تأكيد كتب ذلك مجاملة لزوجته سوزان بريسو وللجنة المناقشة وللمشرفين عليه، وكما انخدع كذلك بوهم التحديث والتنوير، الذي يبشر به الآخر الغربي فحمل بعد ذلك حملة عنيفة على الشرق وحضارته، وتحمس للتنوير الغربي إلى حد التماهي معه، فدعا في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» إلى أن نقبل على الحضارة الغربية خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، وبالنسبة للإهداء الذي زكى به طه حسين الاستعمار الفرنسي للجزائر، فقد شعر في مرحلة متأخرة أن ذلك الإهداء يشينه كمثقف عربي مسلم، فأسقط الإهداء من الكتاب ومن الطبعات التالية.
وعاد طه حسين لتقدير الكاتب الجزائري، الذي كتب بالفرنسية الراحل مولود معمري، وأبدى إعجابا منقطع النظير بروايته «الربوة المنسية» وكتب عنها مقالا نقديا كاملا، مبديا إعجابه بالسرد وبالبيئة القبائلية وبالعادات التي أحسن الكاتب تصويرها وتوثقت الصلة بين مولود معمري وطه حسين، حتى إن الأخير زاره في فيلا «رامتان» بمعية أدونيس كما ذكر ذلك أدونيس في كتابه «النظام والكلام».
وكما تمنى طه في آخر عمره مراجعة كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» وربما إسقاط الفقرة المثيرة للجدل، التي استشهدنا بها آنفا، ويبدو أنه أدرك تهافت دعوته التي وصفها أدق توصيف الرئيس بيغوفيتش وهي حال كثير من المثقفين.
لا تستثنى الجزائر من العقدة المشرقية، التي ترى في الجزائر كما ترى في تونس والمغرب الأقصى مجرد «كم الثوب» و«ذيل الطائر» وهذا توصيف المشارقة للمغرب العربي منذ العصر الأندلسي، فالاستعلاء المشرقي والمركزية المشرقية ظلت تعمل بمقتضى مقولة الصاحب بن عباد «بضاعتنا ردت إلينا» فقد سقط المغاربة في فخ الاستعلاء المشرقي وجعلوا كل همهم تقليد المشرق، حتى ينالوا الرفعة الأدبية والثقافية مثلا، ولهذا لا نستغرب الوصف القاسي الذي وصف به الجزائر أمير الشعراء أحمد شوقي، إبان زيارتها للاستشفاء عام 1904 وقد قال فيها ـ أي الجزائر- عقب عودته إلى مصر: «لا عيب فيها سوى أنها قد مسخت مسخا وقد عهدت مساح الأحذية يستنكف النطق بالعربية، ويرد بالفرنسية» وقد أغاظ هذا التوصيف من أمير الشعراء الجزائريين، حتى إن ابن باديس رد عليه إبان تأسيس جمعية العلماء المسلمين: «فأعجب لمن يستدل على حال أمة بكاملها بمساح الأحذية فيها، فلو رأى شوقي حفلنا هذا من عالم الغيب لكان له رأي آخر في الجزائر» وطمأنه بأن الهوية الوطنية واللغة العربية لا خوف عليهما مستقبلا، ففي البلد نخبة صالحة ستضطلع بمهام الدفاع عن مقومات الشخصية الجزائرية، رغم أنف الاستعمار وتأسيس جمعية العلماء خير برهان على ذلك. أما المثقف الجزائري المزكي للاحتلال وهو نموذج كذلك للكثيرين من أبناء الجزائر، الذين انطلت عليهم حيلة الاستعمار، وظنوا الخلاص على يديه فهو قدور بن غبريط، وفي «مذكرات شاهد للقرن» لمالك بن نبي يصف فيه مسجد باريس بأنه صار إقطاعا لبن غبريط، وقد اتخذ بن غبريط مسجد باريس منبرا لتزكية الاحتلال وشرعنته.
وفي «وحي الرسالة» لأحمد حسن الزيات ذكر أنه حضر تدشين مسجد باريس في 1926، واتّسخت أذناه مما سمع من التزلف والتملق لفرنسا، فلما جمعه لقاء ببن غبريط سأله: «كيف يبتهج العرب بعيد الحرية وهم عبيد؟ ويفتخرون بمجد فرنسا وهم أذّلة؟ فلم يدعني أتمّ كلامي وإنما قاطعني محتدّا بقوله: «لا يا سيدي، ليس الفرنسيون بأكثر فرنسية منا، نحن نتمتع في ظلال الجمهورية بالإخاء الصحيح، والرخاء الشامل. وإن الجنود الجزائريين في الجيش والشرطة، والعمال المراكشيين والتونسيين في المصانع والمزارع يُعاملون بما يعامل به الفرنسي القحّ. أدام الله نعمة فرنسا على شعوب العرب، ونفع بعلومها وحضارتها أمم الإسلام».
من الغريب أن تجد هذه المواقف من الاحتلال الفرنسي للجزائر من مثقفين عرب ومن جزائريين صدّقوا بأكذوبة التنوير والتثقيف وتطوير البلد، وعلى الرغم من أن شوقي لم يزك الاحتلال مثل طه حسين، وقدور بن غبريط، إلا أنه لم يفهم جيدا أن الاستعمار الذي مضى عليه قرن لم يأل جهدا في محاربة اللغة العربية والدين الإسلامي والشخصية الوطنية، ولذا فما رآه هو شيء طبيعي ونتيجة حتمية لقرن من المسخ والتشويه والتزوير.
وأخيرا يأخذك العجب وأنت تقرأ لكاتب اليوم يلخص فيه المعاناة اليومية للمواطن العربي مثلا، ويختصرها في المشكل الجنسي ويرى في غشاء البكارة مجرد تقليد بائد يعوق التطور، ولم ير في غشاء الظلم والطغيان حجابا عن نور الحق والكرامة الآدمية، التي بذلها الخالق لعباده، وربما كتب آخر ناعيا على المسلمين ذبح الخراف في العيد، معتبرا ذلك همجية ووحشية، ولم يكتب كلمة عن ذبح المواطن من قبل أباطرة السوق ودهاقنة السياسة وعرابي الفساد، ولم ينبس ببنت شفة ضد استنزاف خيرات البلاد العربية، لكنها الرغبة في الشهرة والطمع في الجوائز، وما أكثر هذا النوع من الكتاب والمثقفين المغشوشين في عموم بلادنا العربية.
٭ كاتب جزائري