اقتتال المجموعات العرقية والمذهبية في ساحة الحبوبي في العراق!
إلى قائمة شهداء انتفاضة تشرين الأول/اكتوبر 2019 البالغ عددهم 600 شخص، وجرحاها الذين تجاوز عددهم عشرات الآلاف، أضافت مدينة الناصرية، في محافظة ذي قار، جنوب العراق، في الايام الثلاثة الاخيرة، ضحايا جددا من شباب لم تتح لهم فرصة التمتع بشبابهم وتحقيق طموحاتهم وأحلام ذويهم. سبعة شهداء و85 جريحا.
لماذا؟ لماذا يقتل شبابنا ومعهم تدفن آمالنا ومستقبل بلادنا؟ يتساءل الأهالي المخضبة وجوههم بالدموع وهم يرون أبناءهم يقتلون بلا سبب غير مطالبتهم بحق الحياة بكرامة، وألا يهانوا في بلدهم، على أرضهم، وأن يعيشوا أيامهم كما الآخرون في بلدان أقل ثراء. وأن تتوفر للجميع اساسيات الحياة والمواطنة، وأن يُحترم حقهم بالتظاهر السلمي والاحتجاج اذا ما أساء المسؤولون استخدام سلطتهم ونسوا، أو تناسوا، أن مواصفات وظيفتهم تنص، بوضوح، على أن واجبهم هو خدمة الشعب وليس العكس.
هل هذا صعب التحقيق في بلد ثري بميزانية سنوية تعادل عدة بلدان مجاورة يعيش أهلها ظروفا حياتية تليق بالإنسان؟ هل من الصعب ايجاد اشخاص غير فاسدين ينتمون الى الشعب ويعرفون معنى الحرية والكرامة والوطنية؟ هل الصورة معقدة، فعلا «لأننا بلد متعدد القوميات والمذاهب» كما يحاول الساسة إقناعنا ويروج له إعلاميا، وكان واحدا من تبريرات المحتل « الإنسانية»؟ واذا كان هذا صحيحا في بلد لا يزيد عدد المذاهب والقوميات فيه عن العشرة، واللغات عن اربع، ماذا عن في أندونيسيا حيث تتعايش 1300 مجموعة عرقية تتحدث 652 لغة بسلام؟ ماذا عن الفلبين وبين سكانه 180 مجموعة عرقية؟ و تشاد، في شمال وسط إفريقيا، حيث ينتمي 8.6 مليون نسمة، أي ربع سكان العراق تقريبا، إلى أكثر من 100 مجموعة عرقية؟
تبين مراجعة الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق المواطنين، في ارجاء العراق، على مدى 17 عاما الأخيرة، أنها بدأت بشكل طائفي وعرقي تزامنا مع احتلال البلد وعودة أحزاب المعارضة المتعاونة مع المحتل للاستحواذ على السلطة وهي بلا جذور حقيقية في المجتمع. فكانت بحاجة ماسة الى تجذير وجودها عن طريق التخويف والترهيب واختلاق هويات مصطنعة وادعاء حماية مجموعة سكانية ضد أخرى. إلا أن تصنيع هذه السيرورة الطائفية / العرقية، تلقى ضربة قوية مع انطلاق انتفاضة تشرين، التي أكدت للجميع، على اختلاف الأديان والمذاهب والأعمار والطبقات، من ضمنهم المتضررون حقا من سياسة النظام السابق، وضحايا طائفية نظام الاحتلال والارهاب، ان فساد النظام ولا وطنيته واحتقاره للمواطن هو أساس المشكلة الحقيقية. فكان صوت المحتجين واحدا، بلا تصنيف مسبق، في كربلاء والنجف وبغداد والبصرة والديوانية، مطالبا بوطن وانهاء الفساد المنتشر في كل مؤسسات الدولة والحكومة، وتقديم قتلة المنتفضين للقضاء، والكشف عن مصير الناشطين المخطوفين.
وكادت الانتفاضة أن تحقق ما هو أكثر من هذا، بعد نجاحها باسقاط حكومة عادل عبد المهدي، لولا انتشار فايروس كورونا وميل البعض الى اعطاء الكاظمي فرصة لتحقيق قائمة وعوده الطويلة، والتي تمخضت عن استمرار خطف واعتقال وقتل الناشطين، بالاضافة الى بقاء الوضع الاقتصادي متدهورا، والخدمات الاساسية معدومة، وانتشار السلاح بأيدي الميليشيات المسيطرة بإرهابها على الشارع وحياة المواطنين.
لماذا يقتل شبابنا ومعهم تدفن آمالنا ومستقبل بلادنا؟ يتساءل الأهالي المخضبة وجوههم بالدموع وهم يرون أبناءهم يقتلون بلا سبب غير مطالبتهم بحق الحياة بكرامة، وألا يهانوا في بلدهم، على أرضهم، وأن يعيشوا أيامهم كما الآخرون
عدم الوفاء بالوعود، أعاد المتظاهرين السلميين الى ساحة الحبوبي، وسط مدينة الناصرية، جنوب العراق، وهي ساحة مدينة لا توجد فيها عشرات المجموعات العرقية والطائفية بل تعتز بتاريخها وشعرائها ومغنيها ويتوسطها تمثال الشاعر ورجل الدين المقاوم للاحتلال البريطاني، عام 1915، محمد سعيد الحبوبي. شهدت الساحة، يومي الجمعة والسبت الماضيين، هجوما وحشيا شنه أتباع مقتدى الصدر المسلحين على المحتجين السلميين وحرق خيامهم المنصوبة وسط الساحة، بينما وقفت القوات الامنية متفرجة على ما يجري وبضمنه سيطرة مليشيا الصدر على مركز المحافظة والاستيلاء على الاسلحة الموجودة، حسب بيان للمنتفضين طالبوا فيه استقالة حكومة مصطفى الكاظمي لفشلها « بحفظ هيبة الدولة وحماية أرواح الشعب وحماية حق الاحتجاج والرفض والتعبير».
تراوحت ردود الأفعال حول هجوم أتباع الصدر وقتل المتظاهرين بين الصمت المطبق، خاصة، من قبل الحزب الشيوعي، حليف مقتدى الصدر في قائمة « سائرون» والغضب الشعبي المتبدي في احتجاجات التضامن في مدن أخرى، بالاضافة الى التبادل السريع لأخبار الاحتجاج ونشر صور واسماء الضحايا من الشهداء والجرحى على صفحات التواصل الاجتماعي، والسخرية والتعريض بمقتدى الصدر وتقلبات مواقفه المماثلة لحركة بندول يتأرجح ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، فضلا عن حالات انزوائه المفاجئة واختفائه أما خارج العراق أو داخله بذريعة اكمال الدراسة أو كتابة الشعر. وغالبا ما تنعكس تقلباته النفسية والعقلية، على قادة تياره وأتباعه، فهو يدعو الى تظاهرة مليونية يوما ثم داعيا إلى «تصفية ساحات التظاهر» يوما آخر، ويطالب الحكومة بالاصلاح بينما هو في صلب الحكومة. تؤدي تقلبات الصدر الى خلق انواع السلوك المختل بين اتباعه مما يجبره، حين يتذكر انه « سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد القائد المجاهد مقتدى الصدر أعزه الله» الى « تصفية» التيار الصدري لتنقيته من « الشوائب» فيصدر أوامره، على موقعه الرسمي وبتغريداته، بطرد هذا المسيء او تجميد نشاط ذاك « و«عليهم التفرغ للعبادة».
تمثل رد فعل رئيس الوزراء الكاظمي، الأساسي، بتشكيل لجنة تحقيق و« خلية ادارة الأزمة». وهو رد فعل مألوف ومتوقع، تعّود عليه المواطنون الذين يعرفون جيدا ان لجنة التحقيق هي مجرد اضافة جديدة الى قائمة تضم مئات لجان التحقيق، التي تمر بلا تحقيق، وهدفها الوحيد هو طمس الانتهاكات والجرائم والتسترعلى القتلة، خاصة، اذا كانوا منتمين الى إحدى الميليشيات. وبينما تُصدر «خلية ادارة الازمة» صورا واخبارا عن مواعيد اجتماعاتها، لا يكف أتباع الصدر، حالما يعطيهم الصدر الاشارة، عن الانطلاق نحو الساحات وهم يحملون السلاح بانواعه، خلافا لبقية المتظاهرين، لاستعراض قوتهم والتأكيد على انهم القوة الحقيقية في البلد، متهمين المتظاهرين بانهم ينفذون أجندات خارجية مشبوهة.
اذا كان هناك ما يستخلص من انتفاضة تشرين، بساحاتها الممتدة في عديد المدن، وعودة المنتفضين اليها على الرغم من وحشية رد فعل الميليشيات ودعم او صمت جهات النظام الأمنية، فهو أن النظام المبني على الفساد والمكون من مجموعات لصوص أكثر منها عرقية أو طائفية، تستطيع، مهما احتربت، في ظروف توفر الريع النفطي وحده، أن تعيد توزيع اسلابها، وهي لا تحتاج الشعب، ما دامت قادرة على التشبيك مع القوى الاقليمية والدولية، تحت مظلة « تقاطع المصالح». وهو درس استوعبه جيل الانتفاضة التشرينية جيدا، وسيعيدهم الى ساحات مدنهم مطالبين بالتغيير المرة بعد المرة.
كاتبة من العراق