بين قساوة الأمس وأفق التجربة . بهاء الدين نوري يهدىء العلاقة مع الاتحاد الوطني .
يعد الرفيق بهاء الدين نوري ( أبو سلام ) نموذجاً من تلك الايام الغابرة من النضال الثوري وتحطيم الرؤى . في صيف ١٩٨٣ تعرفت عن قرب في الجبل على بهاء الدين نوري في مناطق كرميان وقرداغ وشهرزور ، كان في يومها المسؤول الأول في قاطع سليمانية وكركوك لانصار الحزب الشيوعي العراقي ، وكنت ملتحق تواً من تنظيم الداخل وذهني معبأ بالافكار والمشاريع والخطط والطموح جلها تصب في البحث عن فرص للاطاحة بالنظام الدكتاتوري ، حقاً كانت أحلام صادقة بمشاريع ثورية لكنها طوباوية بعيدة عن رؤية الواقع بالعين الأخرى . في يومها ألتقيته على عجل في تقليب سريع لتطورات الاحداث في الداخل ، كان ينصت لي بإهتمام وأنا أستقرأ الوضع السياسي وظروف الحرب وعلاقاتنا بالجماهير وتأثيراتها على أثر هروبنا الجماعي عامي ١٩٧٨ / ١٩٧٩ وترك الساحة فارغة فقط للبعثيين يعبثون بها، في أنتهاك صارخ لحياة الشيوعيين وأصدقائهم. آنذاك كانت جريمة بشتاشان تلقي بظلالها السلبية على معنويات الأنصار وحراكهم السياسي ، وكان للرفيق بهاء رأي وإتجاه آخر من تشابك الاحداث يدعوا الى تهدئة الأجواء بين الأطراف المتطاحنة رغم أن الأتجاه العام هو الذي كان طاغي بين رفاق الحزب هو الانتقام والثأر لدماء رفاقهم التي نزفت على سفوح وجبال قنديل . المتعارف عليه بين أوساط الشيوعيين عن شخصية بهاء الدين نوري هو الاعتداد بمواقفه والتمسك بها هكذا تتحدث سيرته الذاتية ( الحزبية ) منذ العام ١٩٤٩ منذ أن وطأت قدماه أرض العاصمة بغداد من قرية نائية وغافية على سفح جبل قرداغ ( التكية ) ، تلك القرية التي عرفت من خلال قصته الشهيرة أيام العمل الجبهوي مع البعثيين ( قرية على سفح جبل ) . يذكر أنه جاء الى بغداد بناءاً على وصية من السجن للرفيق فهد في حال أعتقال حميد عثمان ، وطيلة وجود فهد ورفاقه في السجن من العام ١٩٤٦ بعد المؤتمر الأول للحزب عام ١٩٤٥ وتشكيل لجنة مركزية ومكتب سياسي وبرنامج سياسي للحزب ونظام داخلي شكلت خمسة مراكز حزبية في العاصمة بغداد في فترة وجود فهد ورفاقه في السجن بعضها أنهار والبعض الآخر تعرض الى الاعتقال والمطاردة والتصفية ، أكثرها كانت أختيارات غير موفقه ومبنية على أسس بعيدة عن القدرة والكفاءة والقيادة بسبب الوضع الاستثنائي للحزب الشيوعي ومعاداة السلطة الحاكمة له .
مشى بهاء الدين نوري بإتجاه تهدئة العلاقة مع حليف الامس عدو اليوم الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) في قاطع سليمانية وكركوك رغم الغضب الحزبي والجماهيري عن ماآلت اليه الامور في التصعيد والقتال في القواطع الاخرى . فراح وعقد أتفاقية عن عدم الاقتتال الداخلي مع مله بختيار مسؤول قوات الاتحاد الوطني في قاطع سليمانية وكركوك في قرية ديوانه فعرفت فيما بعد باتفاقية ( ديوانه ) بالضد من الجو العام السائد في التصعيد رداً لأعتبار ودماء الشيوعيين التي سالت في قرى بشتاشان ووادي بليسان وجبل قنديل مما سببت غضب وأستهجان كبيرين وأدت الى أنسحاب رفاق من مواقع النضال وعزوف البعض عن العمل الحزبي فتركت بلبلة كبيرة بين الرفاق وأنتقادات ساخرة وصلت الى حد التجريح والاتهامات ، وفي غضون ذلك الوضع الحزين وفي تلك الاجواء المشحونة ، تدوي صفعة مفاجئة غير متوقعة كالصاعقة على معنويات الشيوعيين ببث أذاعة الاتحاد الوطني الكردستاني بياناً موقعاً باتفاق الأسيرين من قادة الحزب كريم أحمد وأحمد باني خيلاني لمرات متعددة تدعو الشيوعيين الابتعاد عن العمل والتنسيق مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني ( حدك ) والحزب الاشتراكي الكردستاني ( حسك ) ، وتدعوهم في التنسيق والعمل المشترك مع مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) ، في الوقت نفسه يقتلون ويعذبون برفاقنا ؟.
تطورات متسارعة .
يومها ساد الأسى والتعجب عن ما يجري من تطورات متسارعة بين بشمركة الحزب فانتقل الشيوعيين مجبرين من مناطق كرميان وقرداغ الى مناطق شهرزور وكرجال وسورين وهزارستون ، وفي محاولة تعد يائسة أمر الرفيق بهاء بأجراء أنتخابات حزبية للهيئات واللجان الحزبية في سابقة جديدة من تاريخ الحياة الحزبية ، لكنها لم تشكل شيء أمام حجم التحديات الجديدة .
توقيع بيان .
في الشهور الاخيرة من العام ١٩٨٣ وصل أحمد باني خيلاني الى مناطق كرجال بعد أن فكوا أسره قادة الاتحاد الوطني الكردستاني على أثر توقيع بيانهم المذل بحق دماء رفاقنا مع كريم أحمد بعد أن قتلوا رفاقهم العرب ومثلوا بهم تعبيراً عن شوفينيتهم وحقدهم ، وصل حاملاً معه قرار تعيينه مسؤول أول للقاطع ..؟.
هنا نقطة نظام … رأس سطر ؟.
أحمد باني خيلاني عضو اللجنة المركزية من أهالي دربندخان ، كان قاريء مواظب في المساجد قبل أن يعتنق الشيوعية ، وهو من رجح كفة الميزان بعقد الجبهة العام ١٩٧٣ بضغط ومراوغة من سكرتير الحزب عزيز محمد بعد أن كانوا ثمانية من أعضاء اللجنة المركزية من مجموع خمسة عشر عضو ضد هذا المشروع بل طالبوا في الحد الأدنى من البعثيين الأعتذار عن قتل الشيوعيين العام ١٩٦٣ ، لكن البعثيين كانوا وقحين ولم يستجيبوا . ومن هم المعارضين لهذا المشروع ؟. مشروع الجبهة مع البعثيين ؟.
زكي خيري ، بهاء الدين نوري ، عمر الشيخ علي ، أراخاجادور ، سليمان أسطفيان ، عدنان عباس ، مهدي عبد الكريم .. وأخيراً أحمد باني خيلاني الذي أنقلب على هذه المجموعة في الجلسة الثانية من الأجتماع ليحسم التصويت على أقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية .
منذ اليوم الأول لوصوله كنت مقاتلاً بنفس الموقع وأراقب تطورات الاحداث لسبب لاغيره ما زلت أحمل مرارات عمل الداخل ومخاطره وحياة الناس في حبها للحزب ومقارنته بما يجري بين صفوفنا ومستوى صراع قادتنا . جاء أحمد باني خيلاني وحامل معه قرار مسبق ومدعوم من سكرتير الحزب عزيز محمد بعزل بهاء الدين نوري عن كافة مسؤولياته العسكرية والحزبية وحصر نشاطه السياسي والعسكري بل تحجيمه وتقزيمه . في تلك اللحظة بدأ صراع محموم بين القائدين الشيوعيين الى مستوى الاتهامات الشخصية المتبادلة وتعيير بعضهم بتاريخهم القديم بفضحه على الملأ من مواقف وأحداث وتاريخ شخصي فكانت كفة النزاع تميل أكثر الى جانب أحمد باني خيلاني وسط الرفاق والأنصار لانه أصبح هو المسؤول الاول وبيده القرار حتى لو كانت على حساب المباديء والأمانة التاريخية وهذه سمة غالبة عند العراقيين عموماً يميلون بمواقفهم مع القوي حتى لو كان عاطلاً وغير أميناً . وفي هذا الأثناء بعد ما حوصر الرفيق بهاء وجرد من مسؤولياته وعمم على الرفاق بعدم الاخذ والعطاء معه أي بمعنى أدق مقاطعته أجتماعياً وسياسياً والنيل منه لكي تثبت أنتماءك الحزبي . تركت تلك الضغوطات على حياة بهاء الدين نوري فراح يلوح بنشر وثيقته التقيمية عن تاريخ الحزب من ١٩٦٨ الى ١٩٧٩ ويطالب بعقد مؤتمر طاريء لمناقشة أزمة الحزب ووضع الحلول الكفيلة بأنهاضه من جديد وبعدم شرعية القيادة الحالية ، رغم أتساع الحملة ضده وشدتها من رفاق الأمس لكنه لم يضعف أو يقدم تنازلات بل يزداد تمسكاً بموقفه ويدافع عنه بكل بسالة وتحدي وقناعة ، وتتطور الامور الى مستوى محاولة حجزه وحجره وهو داخل موقعنا في شريط مناطق كرجال في جبال ( بيارا وطويلة ) أي بمثابة إقامة جبرية ، بعد هذه الحمله الكبيرة ضده ومراقبة ومتابعة رخيصة بأساليب معيبة ولا تليق بنا نحن الشيوعيين مع الحملة المفترئة للمساس بتاريخه السياسي والشخصي حيث وصل بنا المستوى الى الكيل له بتهمة العمالة للسلطة . هنا شكل عندي الوعي والموقف بتجلي جديد في تقييم الاحداث والخلافات والموقف منها دعتني أن أعيد النظر بمواقف عديدة ورسم رؤى جديدة في مسيرة حياتي النضالية ، وعندما كنت أسأل رفاق الحزب عن مصداقية وواقعية تلك الأتهامات بلا جواب شافي وبدون مسؤولية الا أن تطورت الاحداث الى حد التصادم والمواجهة فتسلل عبر مقرنا الى مناطق شهرزور مع مرافقه الوحيد أبن أخيه ( آسو ) ، والتحق فيما بعد به عبدالله فرج ( مله علي ) المسؤول العسكري السابق للقاطع ورفاق حلبجه توفيق الحاج وأقربائه وسرية فتاح كلالي ليعلنوا تمردهم العسكري والحزبي على الحزب وسياسة الرفاق في القاطع .
كنت ضمن جحافل المقاتلين لملاحقتهم في سهل شهرزور في طريقة متخلفة لانهاء الازمة وأحتواء الخلافات بيننا كرفاق ومناضلين وأصحاب مشروع ثوري ، كانت الحلول المطروحة عشائرية أكثر مما هي سياسية ووطنية أدت بنا الى أنسحاب كامل من أراضي شهرزور مناطق تواجدنا وقربنا من الجماهير الى الشريط الحدودي في جبال سورين طبعاً كانت أيضاً مشاكلنا مع الاتحاد الوطني الكردستاني فعلت فعلتها من خلال دعمهم لهذا العصيان والتمرد الحزبي والعسكري بل شاركوا بتأجيجه بالتنسيق مع خطط النظام . أنتهى المشوار ببهاء الدين نوري في قريته ( التكية ) في قرداغ بإصدار صحيفته القاعدة ونشر وثيقة تقيمه بها وتاريخ خلافاته مع قيادة الحزب ونقد لاذع لسياسة الحزب في فترة الجبهة وما ألحق بها من ويلات .
بعد شهور من تلك الازمة العاصفة الخانقة بدأت تتلحلح بعض المواقف بأتجاه التهدئة والتواصل عبر وسطاء مؤثريين على المشهد السياسي ( الكردستاني ) فتوقفت الحملة من الطرفين لكنها يبدو لي مشروطه بالتزامات من الطرفين . أنحصرت تلك التطورات في الفترة الزمنية من نهاية عام ١٩٨٣ الى بدايات العام الذي تلاه . في صيف هذا العام وعلى حين غرة يصل بهاء الدين نوري مع مله علي وعائلته ويتخذوا من بساتين قرية ( آحمداوه ) موقعاً لهم على طلة نهر متدفق ( ريبوار ) من الاراضي الإيرانية . كنت أمر وأسلم عليهم متى ما نزلت الى قرية آحمداوة في تبادل أحاديث عامة بعيداً عن ما جرى . ومن أجل طوي تلك الصفحات من الماضي كما أعلن في حينها وفتح صفحة جديدة من التفاهم وسماع الآخر والمضي قدماً بإتجاه لملمة الصفوف ..
حيث تمت دعوتهم من قيادة الحزب الى مناطق لولان حيث إجتماع اللجنة المركزية هناك من أجل الوقوف مباشرة على تقاطعات مواقفهم وأراهم السياسية ، لكن هذه المرة الآمر لم يطول وفي مفاجئة سريعة في تسريب الاخبار في عملية أعتقال بهاء الدين نوري وهروبه من السجن ووصوله الى مناطق قرداغ ، وكانت هذه بداية النهاية في تصعيد المواجهة مجدداً. تعرض بهاء الدين نوري في حياته الحزبية والنضالية الى أكثر من محاولة تهميش وأقصاء ضمن دائرة الصراع السياسي والخلاف الفكري منذ مطلع الخمسينيات ، عندما أعتقل وهو داخل السجن جرده وسحب منه كل مسؤولياته رفيقه حميد عثمان . وفي فترة قيادة سلام عادل لحزب الشيوعيين والخلاف معه حول قيادة سياسته للحزب فعارضوا تلك السياسة كل من بهاء الدين نوري وعامر عبدالله وزكي خيري والشهيد محمد حسين أبو العيس ، وفي تدخل السوفييت في أنهاء هذا الخلاف قدم الرفاق أعتذارهم ووضعوا حياتهم تحت تصرف الحزب الا بهاء الدين نوري بقى معتداً بموقفه ولم يخشى من الوقوع في الخطأ وفي الدفاع عنه مما أبعد عن دائرة الأضواء الى موسكو لسنوات عدة وعاد بعد مجازر ٨ شباط ١٩٦٣ .
عزل نهائي .
في المحاولة الثالثة تم عزله نهائياً والى الأبد وبدون أي هيئة حزبية أو لجنة لسماعه ودراسة أرائه ، حيث عرف شخصياً بطرده من الحزب من خلال أدبيات ونشريات حزبية . في العام ١٩٨٧ زرته في قريته ( التكية ) رغم التحذير الحزبي الصارم بعدم الاتصال واللقاء به ، فوجدته بتلك الروح العالية من التحدي والمواصلة بصحة أرائه وصدق مواقفه رغم مرور تلك السنين وما تعرض له من حملة كبيرة للاساءة الى تاريخه ومواقفه تجاوزت المألوف وخرجت عن الاساسيات في أصول النزاعات الفكرية . كنت ومازلت أعتبر قادة الحزب رفاق ضحوا بحياتهم وأفنوا مستقبلهم من أجل هدف سامي للعراق وأهله ، وتركوا لنا أرثاً نضالياً كبيراً رغم الأخطاء التي رافقت عملهم النضالي ، فالعلاقة معهم والتواصل وفاءاً شيوعياً .
في بدايات العام ١٩٨٩ كنت في الشام ( دمشق ) بعد أن نجوت بأعجوبة من السلاح الكيمياوي في أخر أنفال حكومي على مناطق ( سركلو بركلو ) مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني ربيع العام ١٩٨٨ . ألتقينا مجدداً لأسابيع وسكن عدة ليالي في بيتنا في ركن الدين ، الذي كان يشاركني به عزيز الشيباني وخضر عبد الرزاق ودارت حوارات سياسية متعددة مع أطراف عراقية خرجت من رحم الحزب وشخصيات من حركات تحرر ورفاق آخرين ، كنت أرافقه ببعضها بناءاً على رغبته وأرى جبروته في أدارة الحوار وطرحه السياسي في المستجدات ومعالجة الازمة وأيمانه بقدرات المناضلين في أعادة بناء صرح الحزب . في العام ١٩٩٠ كنت في مدينة مالمو السويدية بعد الهجرة الجماعية التي عصفت بحياتنا عكس الذي كنا نصبو له في مشروعنا من العودة للوطن أدت بنا الى الهجرة المعاكسة خارج أسوار الوطن . في مدينة مالمو تجمعني الظروف مرة أخرى بالرفيق أبو سلام وصلني من العاصمة أستوكهولم وسكن معي في شقتي المتواضعة ولم تمل أحاديثه كانت بالنسبة لي دروس ومعاني نضالية في تقليب صفحاته عبر تاريخ طويل وعميق بالتجارب والدروس والعبر . رغم عمر سنه وصحته العليلة وحياته المرهقة كان بحاجة الى أجواء حياة مثل السويد في تقديم الخدمات وحياة تليق بالبشر ، لكن أبو سلام كانت عيونه وأحاسيسه تربو صوب الوطن حالماً بوطن خالي من الاستبداد والدكتاتورية وحزب شيوعي معافى من ترسبات الماضي . فحزم حقائبه بأتجاه الوطن ليقضي ما تبقى من العمر بين أهله ورفاقه وشعبه . بقينا فترة طويلة نتبادل وجهات النظر عبر الرسائل البعيدة وكانت أشعر بأصراره على مواصلة النضال من خلال سطور رسائله . ومازلت والى يومنا هذا بعد مضي ثلاثة عقود أتابع تغريداته ومقالاته بنفس الاصرار وروح التحدي والدفاع عن تلك المباديء التي حلم بتحقيقها منذ أن وطأت قدماه أرض بغداد الحبيبة وهو شاباً يافعاً . للرفيق أبو سلام الصحة والعافية وثناء له على أصراره في مواصلة الطريق رغم الخلافات ببعض المواقف وتقاطع الرؤى والافكار على أقل تقدير بالنسبة لي .
محمد السعدي
شباط/ ٢٠٢٠