الحاكم العربي في مواجهة قدر الأبدية
قدر الأبدية في الحكم، صناعة وفبركة، وليس قدراً خارقاً ينزل فجأة من السماء من خلال سلسلة من الإشارات التي لا يراها إلا الحاكم في رغبته المستميتة في الاستمرار أبداً. لا أحد يخاف على مصير البلاد غيره؟ استمراره إنقاذ من الحروب الأهلية والانهيارات؟ حفظ المال والعرض يمر بالضرورة عبره… يبدأ الأمر معه بفكر وينتهي به الأمر إلى الإيمان بضرورته لاستمرار حياة البلاد والعباد، فيضيف ولاية وراء أختها، حتى ولو تضارب ذلك مع دستور البلاد وقوانينها.
عقلية الحاكم العربي الذي كثيراً ما يأتي عن طريق انتخابات نزيهة؟ وغير مزورة؟ ودستورية؟ فيها الكثير من الغرابة التي يختلط فيها الديني بالدنيوي. الأول يمنح الشرعية المقدسة للحاكم، كما كان الأمر كذلك في الكنيسة الأوروبية التي أنهتها ثورات الفصل الدموية بين الديني والدنيوي. إلى اليوم، ما يزال الحاكم العربي يقسم أمام الملايين على احترامه للدستور، وهو أول من يخترقه في مواده المتعلقة بديمومة الحكم، ويقسم أيضاً على تمجيد الإسلام الذي يفترض أن يكون أكثر من طقس ديني يظهر فيه الرئيس مرتدياً عباءة النقاء في أكبر مسجد في البلاد، يصلي العيدين، الفطر والأضحى.
تمجــيد الدين يعني أولاً احترامه، وليس وضعه في علبة مذهبة تنمق بها البيوتات والحيطان، أو تهدى في المناسبات التكريمية، لكن الانتقال به من الكلام الفضفاض العام والخرافي أحياناً، إلى مستوى معرفي أعلى، بحيث يصبح الدين ليس وسيلة تفرقة واقتتال ويقينيات حارقة، لكن عنصر تسامح ومحبة وتوحيد باحتضان دين الأغلبية، لكن أيضاً ديانات الأقليات، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو غيرها من الخيارات الدينية والإنسانية. الارتقاء بالديني دستورياً، يبدأ من هنا، وليس باستعماله كورقة لاستمرار الحكم، وضرب الناس بعضهم ببعض وفق منطق فرّق تسدْ، بإخراجه من أي استثمار سياسي، وإلا ما قيمة قسم ديني يضع فيها الحاكم يده على المصحف أمام الملايين من أفراد الشعب، مردداً كلمات لم تتغير قط وكأن الزمن الوجودي للحاكم العربي مثبت في لحظة أنجزها السابقون، ويكررها اللاحقون بلا عقل ولا إضافة.
الدين عند الحاكم العربي، الجمهوري بامتياز، وسيلة لتأكيد هذه الأبدية، ولا مشكلة في اختراق الدستور الذي ينص على عهدتين، ولا قيمة للقسم الذي شاهدته الملايين. الحكم المطلق، هذا الارتباط العضوي بالديمومة لا يمكن تفسيره فقط بالرغبة في الحكم، ولا حتى النزعة الديكتاتورية المتأصلة ثقافياً، التي لا ترى العالم خارج منطقها، لكن بشيء يكاد يكون مرتسماً في الجينات، ويحتاج إلى دراسات أنثروبولوجية قادرة على تفكيك الشفرات (الجينية) الخبيئة، تتعمق في الظاهرة ومكوناتها التراكمية التاريخية في بعديها المادي والرمزي، والتي تتلخص في اعتبار الحكم امتداداً لتسيير البيت، أو المزرعة، أو الحظيرة، وأن المواطنين مجرد رعايا تابعين له، قيمتهم تتحدد بمدى قربهم أو ابتعادهم عن الحاكم؛ أي أن فكرة المواطنة غير واردة في لاوعي الحاكم العربي، ولا حتى في وعيه.
يكاد الحاكم العربي حتى في لباسه الجمهوري، يكون رديفاً لرئيس القبيلة، سوى أن في القبيلة سلسلة من القيم الإيجابية التي فرضها التاريخ والصيرورة الزمنية، منها الحماية الجماعية، وتقاسم السراء والضراء، الواحد في خدمة الكل، والكل في خدمة الواحد. هذه القيم ألغاها الحاكم العربي بعد تفرده الكلي بالسلطة. الشعب ليس مشاركاً كما في النظام القبلي، لأن وظيفته هي التزكية. ما عدا ذلك، شتات غربي، لا تناسق فيه، ككلمات: ديمقراطية، حقوق الإنسان، المساواة، النظام الجمهوري… التي ليست في النهاية إلا مفردات للاستهلاك المحلي والدولي، مفرغة من أي معنى بنائي إيجابي حقيقي.
شخص بني بهذه الطريقة وعلى هذا المنطق، لا يمكنه أن يترك الحكم حتى ولو تضارب ذلك مع دساتير وقوانين هو من وضعها. يموت على الكرسي، ولا يفكر في خليفته حتى اللحظة اليتيمة من الحياة. ولا يريد أن يخرج أي شيء عن سيطرته، ولو دفع به ذلك إلى تغيير القوانين، مبرراً ذلك بأن الدستور في النهاية، ليس شيئاً سوى كونه وثيقة ومجموعة أوراق يمكن استبدالها بشيء آخر، ليست قرآناً مقدساً.
من غير المعقول أن تكون الأنظمة المسماة جمهورية، عربياً، كلها متشابهة إلى الحد الذي يقتل فيها أي حياة أو أي مبادرة للتغير نحو الأفضل. لهذا، عصفت الثورات العربية برؤسائها بلا ندم كبير. عندما يسقط جدار الخوف، يذهب الناس وراء الوافد الجديد حتى ولو كان استعماراً مقنعاً أو غير مقنع؛ لأن الرعية التي صنعها أخذ منها كل روح للمقاومة والرفض، والخوف الذي أسكنه فيها دمر فيها كل خلايا الحياة. ذهب صدام بعد أن ترك وراءه كل عناصر الفرقة السنية والشيعية والكردية، في إدارة الحكم. نزل الناس في شوارع بغداد وانتقموا من طاغيتهم رمزياً بالضرب بالأحذية على تمثاله البرونزي في مشهدية هستيرية أمام الكاميرات الغربية. كل هذا لم يدفع بأي رئيس جمهورية عربي إلى التفكير في المسألة جدياً، وكأن الموضوع لا يهم إلا الآخرين. أكثر من ذلك القذافي نفسه، ففي أحد اجتماعات جامعة الدول العربية، نبه القادةَ العرب بأن مصيرهم سيكون دامياً، ولم يفكر لحظة واحدة في أن مصيره سيكون أبشع، ولو أننا نعرف سلفاً أن وراء ذلك كله قوى مضادة وهمجية لا تريد للعرب أي نموذج حي وجديد.
من الصعب الإيمان بأن مثقفاً صهيونياً ملتزماً، مثل برناد هنري ليفي، الذي تزعم فكرة حماية؟ بنغازي، يريد خيراً لليبيا سوى المزيد من التفكك. بمجرد انهيار النظام، غاب نهائياً وكأن وظيفته انتهت هناك. لم يغادر حسني مبارك أو زين العابدين بن علي الحكم إلا بسلطة العسكر والمخابرات، والصالح بالاغتيال العيني، وبوتفليقة بالانهيــــار الصحــــي بعد أربع ولايات (عشرين سنة حكماً، والخامسة كانت على الأبواب لولا الحراك الشعبي).
ألا يدفع هذا إلى بعض التفكير في طبيعة الحاكم العربي وبنياته الذهنية؟ أليس حالة أنثربولوجية متأصلة تحتاج إلى تفكيك نظام يندرج في جوهره داخل منظومة الأبدية التي لا تنفع أمامها الدساتير والقوانين الوضعية؟ هو ظاهرة لن تذهب إلا بالفهم والفعل الديمقراطيين، بعيداً عن الانقلابات العسكرية المتواترة التي لن تأتي إلا بالعصــــابات البديلة وليس بنظام جديد.
ما تحتاجه اليوم الشعوب العربية دستور حيادي لا شيء فيه إلا ما هو أساسي للتسيير، خارج الأيديولوجيا والتسييس والمعتقد والإثنية، أي الابتعاد عن كل ما يفرق والاهتمام بما يجمع، والإلحاح على المواطنة، اللبنة الأساسية لبناء إنسان المستقبل. أهم وظيفة اليوم، للمثقف المتبصر، والسياسي النزيه، هي منع إعادة إنتاج الحاكم العربي الأبدي، الحاضر حتى في غيابه، لأنه نظام قبل أن يكون مجرد إنسان.