كاظم حبيب
ماذا يجري في إقليم كردستان العراق، ولماذا؟
تؤكد وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية عن انتفاضة شبابية مستمرة منذ أيام في مدن محافظة السليمانية معبرة عن عموم شعب كردستان، ومشيرة إلى الأوضاع غير السليمة والسيئة التي يمر بها ويعيش تحت وطأتها هذا الشعب الباسل. وشبيبة الإقليم لا يختلفون في هذا الأمر من حيث المبدأ وجوهر القضايا عن العوامل التي فجَّرت انتفاضة شبيبة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، والشبيبة في مطالبها تسعى إلى استرداد حقوقها المهدورة وعيشها الكريم. فالتظاهرات التي شهدتها مدن محافظة السليمانية تطالب بصرف رواتب الموظفين المتأخرة منذ عدة شهور أولاً، والاستقطاعات الكبيرة من تلك الرواتب عند دفع بعض الأشهر ثانياً، مما يجعل حياة العائلات التي تعتمد على تلك الرواتب صعبة جداً ثالثاً، ثم يكون لها تأثير سلبي مباشر وفعال على حركة السوق وعموم حركة الاقتصاد والتنمية والقوة الشرائية للناس في الإقليم والتي تتجلى في النقص الشديد في النقود المتداولة رابعاً.
ولكن هل المسألة مقتصرة على محافظة السليمانية وحدها، أم المسألة تمس إقليم كردستان كله، وكذلك بقية محافظات العراق؟ وهل المسألة تمس الرواتب وحدها أم هناك قضايا أخرى متشابكة معها؟ كل المؤشرات التي تحت تصرفنا تؤكد بأن المشكلة لا تمس الرواتب وحدها ولا السليمانية وحدها، بل تمس الحكم ذاته وعموم الإقليم. فالحكم في إقليم كردستان، وكذا العراق كله، لا يعبر عن أسس نظام ديمقراطي وحياة حرة وديمقراطية وعن تداول سلمي وديمقراطي للسلطة، ولا عن حياة برلمانية تتمتع بما يجب أن تتبع به البرلمانات الحرة والديمقراطية، وكذا الحال مع القضاء المسيَّس. والمشكلة الكبيرة التي تواجه المجتمع الكردستاني، وكذا العراقي كله، هو الفساد السائد الذي يستنزف نسبة عالية من الدخل القومي للعراق والإقليم في آن واحد. والفساد في الإقليم تم تشخيصه في أكثر من دراسة علمية وموضوعية وتقارير حكومية وفي جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والحزبية، ولكن لم تتخذ أية إجراءات فعلية لمواجهته، رغم تشكيل لجان خاصة واستشارات دولية في سبل محاربة الفساد، إذ كانت الدراسات والتقارير وكل الإجراءات تصطدم بمن يوقف هذه العملية ممن هم في المسؤولية السياسية والاقتصادية والحزبية والمستفيدين مباشرة من سيادة ظاهرة الفساد على صعيد العراق والإقليم.
إن التظاهرات التي انطلقت في إقليم كردستان لا تطالب بالرواتب فحسب، بل تطالب بتغيير جذري لواقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعامل بمساواة فعلية بين المواطنين والمواطنات والتخلي عن احتكار السلطة ووظائف الدولة من جانب الأحزاب الحاكمة وحدها، وخسارة بقية المواطنين والمواطنات للوظائف العليا والمفصلية بل والصغيرة في الإقليم. إن المظاهرات في السليمانية، وهي معبرة عن مشاعر ورغبات المواطنات والمواطنين في بقية محافظات الإقليم، ضد الفساد وضد البيروقراطية الحزبية والحكومية وضد الهيمنة الحزبية على السلطات الثلاث. وهذا حق مشروع بالكامل وينص عليه الدستور العراقي، وكذلك دستور إقليم كردستان الذي أقر عام 1992 عند إعلان الفيدرالية، وكذلك المسودات الأخرى التي عرضت على البرلمان بعد عام 2003. ولهذا فضرب المظاهرات وسقوط شهداء وجرحى في السليمانية يعتبر تجاوزاً فظاً على حق من حقوق الإنسان تكفله القوانين المرعية وكذلك اللوائح الأساسية لحقوق الإنسان على المستوى الدولي والتي يعترف بها الدستور العراقي ودستور إقليم كردستان وقوانين الإقليم. لقد صدر أكثر من بيان من منظمات إنسانية وحقوقية دولية تطالب حكومة الإقليم والأحزاب الحاكمة وأجهزة الأمن العديدة في الإقليم بوقف استخدام العنف في التصدي للمظاهرات التي تطالب بالحقوق المشروعة والعادلة، كما تطالب بمحاسبة من أطلق النار وتسبب في موت شبيبة باسلة ومنهم طفل لا يتجاوز عمره الثالثة عشرة عاماً فقط. إن الفارق الوحيد بين الوضع في إقليم كردستان والعراق يبرز في غياب الاغتيالات الكثيرة التي تجري في بقية أنحاء العراق من قبل الميليشيات الطائفية المسلحة، وهو أنجاز لقوى الأمن. كما إن لجوء بعض المتظاهرين المتحمسين إلى إحراق الدوائر الحكومية أو مقرات الأحزاب لن ينفع أحداً بل هو خسارة لخزينة الإقليم وممتلكاتها، وهي تعبر عن طفولة سياسية لا بد من التوقف عنها من قبل هذا النفر القليل بين المتظاهرين.
إن من واجب المسؤولين في الإقليم إيجاد الصيغة الديمقراطية المناسبة للعلاقة بين الحرية الفردية وحرية المجتمع وممارسة حقوقه المشروعة والعادلة وبين الأمن والاستقرار الأمني في الإقليم. فأهمية الحرية كبيرة جداً ولا يجوز فقدانها لصالح الأمن، بل يمكن التوفيق بينهما بمساعدة ودعم الجماهير الواسعة ذات المصلحة الفعلية بالحرية والديمقراطية والأمن الداخلي في آن واحد. كما إن توفير الرواتب والعمل ومكافحة الفقر والفساد وتحقيق التنمية هي التي يجب أن تكون من أسبقيات عمل الحكومة في إقليم كردستان العراق.
لقد مر 17 عاماً على إسقاط الدكتاتورية الغاشمة وحوالي 30 عاماً على خلاص الإقليم من الحكم الدكتاتوري الفاشي لحزب البعث وصدام حسين. وتوفرت موارد مالية كبيرة ومبيعات نفطية إضافة كثيرة لحكومة الإقليم التي لم تستخدم تلك الموارد بإدارة حكيمة وعقلانية لقطع أشواط مهمة في عملية التنمية لتغيير واقع الإقليم نسبياً وإنقاذه من الاعتماد على الريع النفطي فقط. لم يكن خطأ إقامة المنتزهات والشوارع ودور السكن في الإقليم، بل كان هذا جزء من إيجابيات وضرورات الوضع في الإقليم التي لم تشهدها باقي محافظات العراق وكذلك العاصمة بغداد لفساد ونهب المسؤولين الحزبيين والحكوميين لموارد البلاد، ولكن لم توظف وتستثمر بقية الموارد المالية في التنمية الصناعية الحديثة وفي الزراعة، بل اتجه الأمر إلى البناء والعقارات والاستيراد الهائل من دول الجوار والصين وغيرها، في محاولة فاشلة لتحقيق وضع مماثل لما حصل في دولة الإمارات العربية، وكان هذا التصور ليس خاطئاً فحسب، بل ومؤذياً لاقتصاد وشعب الإقليم. كما ابتلع الفساد المالي والإداري، المحلي والإقليمي والدولي، جزءاً كبيراً من الإيرادات المالية الرسمية وغير الرسمية للإقليم. ورغم التنبيهات والتحذيرات من خطورة هذا النهج غير العقلاني وغير الديمقراطي في الاقتصاد والإدارة على وضع الإقليم عموماً، لاسيما وهو المحاط بدول عدوة لا يمكن الفكاك منها ما دامت حكوماتها استبدادية وشوفينية ودموية وتوسعية، فلم تأخذ به الحكومات المتعاقبة ولا البرلمان الكردستاني ولا الأحزاب السياسية، بل قيل دوماً بأن ما تقترحونه لنا في التنمية غير مناسب لنا!!! وها نحن نعيش الوضع الذي ما كان له أن يحصل لو استخدمت تلك الموارد المالية بالصيغة المنشودة خلال العقدين المنصرمين على أقل تقدير.
إن إيرادات إقليم كردستان هي ملك للشعب كله، وليست للأحزاب الحاكمة ولا للحكومات المتعاقبة ولا للبرلمان، بل هي للشعب فقط وليس لغيره. وبالتالي كان لا بد أن يفكر المسؤولون كيف تستخدم هذه الموارد لصالح الشعب، أي توجيهها لأغراض التنمية الاقتصادية والبشرية بما يسهم بتغيير بنية الاقتصاد في الإقليم وبنية الإنسان الكردستاني، أياً كانت قوميته أو دينه أو مذهبه أو جنسه. وهو الذي لم يتحقق بما يرضي الشعب الكردستاني ذات أو يتناغم مع حكم ديمقراطي رشيد وحياة حرة وكريمة.
المشكلة الأساسية أيها السادة الحكام لا ترتبط بالرواتب فحسب، بل بمجمل الأوضاع في العراق وفي الإقليم في آن واحد، وإن أصوات الانتفاضة التي انطلقت في بغداد والوسط والجنوب، سرعان ما تتواصل وترتفع لا في السليمانية فحسب، بل وفي عموم إقليم كردستان، ما لم تعالجوا المسائل المركزية التي يطالب بها شعب كردستان، ومنها إنهاء احتكار السلطة ووظائفها والفساد المالي والإداري وأعداد الفضائيين الكثيرة جداً وإيجاد الحلول العملية للمشكلات القائمة مع الحكومة الاتحادية وعلى أسس سليمة وليس من خلال اتفاقات فردية وحزبية ضيقة دون أن تكون لها قيمة حقيقية في الواقع الرسمي للحكومة الاتحادية وعلاقتها بحكومة إقليم كردستان العراق.
إن من واجب الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم إيجاد، بغض النظر عن الموقف منهما، الحلول العملية للمشكلات القائمة، وأن تكف الحكومة الاتحادية وبرلمانها بمعاقبة شعب كردستان بقطع الرواتب والمعاشات عنه، أو بعدم دفع حكومة الإقليم الحصة المقررة من مبيعات النفط الكردستانية لخزينة الدولة الاتحادية، إذ لا بد من تأمين علاقة سليمة ورسمية ودائمة بالمسألة المالية والنفطية بين الحكومتين، وإلا فالمشكلات لن تنتهي بين الطرفين في ظل الأوضاع الراهنة.
سوف يرتكب المسؤولون خطأ فادحا إن واصلوا استخدام العنف والسلاح في مواجهة التظاهرات الشبابية والشعبية في مدن محافظة السليمانية، فالنتيجة ستكون عكسية وتمتد لباقي الإقليم أولاً، كما سوف تستثمر من أعداء مجاورين للدولة العراقية والإقليم في محاولة خبيثة لتوجيه ضربة قاسية لوجود فيدرالية كردستانية في الدولة العراقية الاتحادية ثانياً والاستفادة من الصراعات الحزبية الراهنة بين الحزبين الحاكمين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني عل نحو خاص. أملي ان يدرك المسؤولون هذه الحقيقة، فليس أي محافظة في العراق كله بمنأى عن التظاهر والاحتجاج والانتفاضة إن لم تتحقق للشبيبة وللشعب عموماً إرادته ومصالحه الأساسية.