مقدمة بقلم أ.م.د. عبد الحسين شعبان[*]
I
حين طلب مني البروفسور طه جزّاع برسالة رقيقة وكرم أخلاقي أن أقدّم كتابه بقوله “… سيزداد قيمة وأهمية بالمقدمة التي ننتظرها بشغف…” توقفت بمسؤولية عند طلبه، فالكتاب جهد أكاديمي رصين كُتب بلغة أنيقة وجملة رشيقة وفكرة عميقة، وكان جزّاع حرّاً طليقاً في استنتاجاته واجتهاداته، خصوصاً بالمعطيات التي عرضها والمعلومات الغنية التي وفّرها والمصادر المعتمدة التي استند إليها والمقارنات الضرورية التي أجراها، وتلك إحدى ميزات الكتاب المهمة.
وميزته الثانية أنه حاول جمع ثلاثة أقمار في فضاء واحد: الفلسفة والتاريخ والأدب، فهو صاحب فلسفة دراسة وتدريساً، ويعرف أن لا فلسفة بلا تاريخ وهو الذي انشغل بالفلسفة اليونانية والإسلامية والمسيحية؛ ولأنه صحافي متمرّس ويمتلك ناصية الحرف معنىً ومبنىً، فقد جاء بحثه مكثفاً وحيوياً ومشوّقاً خالٍ من الحشو والجفاف والرتابة التي كثيراً ما تتضمنها الدراسات الأكاديمية؛ وثالث تلك الميزات أنه ربط الفلسفة والتاريخ
بعلم الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية المعاصرة في هارموني وثيق توزّعت بعض مفرداته على الميثولوجيات والفلسفات القديمة وعلاقتها بالفلسفة الحديثة ، وخصوصاً الماركسية ” المادية الجدلية” وتطبيقاتها الصينية من جهة أخرى، سواء في عهد الزعيم الراحل ماوتسي تونغ أو بعد انتهاء الثورة الثقافية (1965-1976)، أي مرحلة الصعود الصينية الجديدة، التي بدأت منذ الثمانينات، والتي ما تزال مستمرة إلى اليوم وهي مرحلة تحدٍّ جديدة حيث انتقلت الصين بسرعة خارقة من بلد متخلف، إلى أن يكون البلد الثاني اقتصادياً في العالم المنافِس للولايات المتحدة، وحسب المعطيات المتوفرة فإنه سيكون البلد الأول عالمياً في العام 2030، وهو ما آثار مشكلات وإشكاليات النظام الدولي القائم ، وخصوصاً مع الولايات المتحدة، وقد يفتح صراعاً على المستوى الكوني لا يعرف أحد أبعاده.
فهل ستحل اليوم اللحظة الآسيوية – الصينية؟ وهل سيكون القرن الحالي “قرن التنين الأكبر” كما يطلق طه جزاع في عنوان كتابه، الذي يتضمن 18 عنواناً أساسياً، سال منها حبر الأديب نقياً ورقراقاً، فاحتوته 78 كأساً فرعياً مترعة بألق خاص، لتسدّ ظمأ أو بعض ظمأ المتعطشين إلى المعرفة ، خصوصاً وقد جاء في تناسق بالحجوم والأذواق والآفاق.
وقد اختلطت في قلمه البهي صور متداخلة ومتشابكة ومتراكبة على نحو أليف ومتفاعل وجاذب، جوهره “التاريخ المتفلسف” أو “الفلسفة المتأرخنة”، فالتاريخ أبو العلوم والفلسفة أمها، وهناك علاقة عضوية مترابطة بين الأم والأب.
II
سأل أحد الطلاب هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي الأسبق حين عاد إلى جامعة هارفرد بعد انقطاع نحو أربعة عقود من الزمان، عمّا يمكن أن يدرسه شخص ما يأمل في الحصول على وظيفة مثل وظيفة كيسنجر، فأجابه على الفور “التاريخ والفلسفة”، فهما ضروريان لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
لقد ارتبطت الفلسفة بالتاريخ، والأمر لا يتعلق بتاريخ الفلسفة أي متابعة ورصد تاريخ الفكر الإنساني، بل من حيث هو فلسفة التاريخ ، أي التفكير في تطوره وحركته ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطور ويصف ديناميته، لأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الروح البشرية في مواجهة الواقع الإنساني والطبيعة معاً، أي الذهاب إلى ما وراء الأفكار والتجارب ودلالاتهما الاجتماعية، لأن الفلسفة حين ترتبط بالتاريخ تنمو وتزدهر وتحيا، وحين تنفصل عنه تخبو وتذبل وتتلاشى، فالفلسفة هي حركة التاريخ بما فيه من حكمة وحياة، وحسب كونفوشيوس: الحكمة هي معرفة الناس، أما الفضيلة فهي حب الناس؛ وبهذا المعنى فلم يكن أرسطو فيلسوفاً فحسب، بل كان مؤرخاً، وعن طريقه كان انبعاث التاريخ اليوناني، وعبد الرحمن بن خلدون لم ينشغل بالمجتمع فحسب، بل كان مؤرخاً أيضاً، وعلي الوردي ليس عالم اجتماع، بل هو مؤرخ أيضاً، وكل هؤلاء لهم علاقة بعلم الاجتماع السياسي أو بعلم السياسة الاجتماعي.
يقول كيسنجر الذي عمل في “تروست الأدمغة” أو ما يسمى “مجمّع العقول“، قبل أن ينتقل إلى العمل الرسمي أنه حين دخل مكتبه أدخل معه كتب الفلسفة التي اعتمدت دراسة التاريخ، ولا ينظر كيسنجر إلى مقولة الفيلسوف الألماني هيغل من ” أن التاريخ ماكر ومراوغ” ، إلّا من زاوية البحث عن الأخطاء لعدم تكرارها، استناداً إلى نيتشه صاحب كتاب ” محاسن التاريخ ومساوئه” وإلّا فإن التاريخ لا يعيد نفسه، وإذا حصل ذلك ففي المرّة الأولى على شكل مأساة وفي المرة الثانية سيكون على شكل ملهاة حسب عبارة ماركس الشهيرة.
من هذه الزاوية حاول كيسنجر استخدام موقعه كجزء من خيال في رسم خطط وخرائط بعضها ما يتعلق بالعلاقات الصينية – الأمريكية، التي هي اليوم أكثر ما تكون تحدياً على المستوى العالمي، فقد حاول كسر الجليد بين بكين وواشنطن وكأنه يعبر سور الصين العظيم الذي هو من عجائب الدنيا السبع، محاولاً تطبيق نظريته الموسومة “بناء الجسور”، و“الخطوة خطوة” مقابل الضغط على الاتحاد السوفييتي العدو اللدود.
التاريخ ليس كتاب طبخ لتقديم وصفات سابقة من الطعام ليتم تذوّقها، بل فيه فلسفة مثلما لكل علم فلسفة، ففي كل فلسفة تاريخ أيضاً، ويمكن الإضاءة عليها لدراسة حالات مماثلة وأخذ العبر والدروس والتجارب وخلاصاتها منها، ولذلك لا ينبغي أن نكون “صرعى مرض التاريخ” وفقاً لنيتشه، بحيث ندفن رؤوسنا فيه، فمن شأن تخمته أن تميتنا وتحيل كل معرفة حيّة ونضرة إلى معرفة تاريخية ذاوية وآفلة؛ فلا بدّ من عقل ورؤية وفلسفة جديدة للجيل الجديد لأنه لا يعيش بفلسفة الماضي، لذلك لم يكن من السهولة بمكان أن تعترف واشنطن بالصين في العام 1964، لتقرّر فتح ملف العلاقات معها، ذلك الذي رعاه كيسنجر، فالتاريخ يحتاج إلى معرفة مثلما يحتاج إلى فلسفة لمعرفة ما هو راهن من سياسات ومواقف وما يمكن التنبؤ به على صعيد المستقبل، إنه هو اللغز المحيّر الذي يصعب حلّه اعتباطياً حسب ماركس.
III
يأتي كتاب جزّاع في فترة تصاعد حدّة التوتر بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، والتي ارتفع منسوبها خلال تفشي وباء كورونا (كوفيد -19) التي اجتاحت العالم منذ مطلع العام 2020 والتي ما تزال مستمرة ومتصاعدة حيث الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، ليقدّم قراءة جديدة ومعمّقة لتاريخ العلاقات بين البلدين، في ظلّ تغييرات النظام الدولي الجديد الذي كرّس الولايات المتحدة كمتحكّم في العلاقات الدولية بعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وانحلال الكتلة الاشتراكية، ومن ثم انقسام وتحلل الاتحاد السوفييتي في نهاية العام 1991.
كل ذلك جعل من الولايات المتحدة قوة عظمى بلا منازع، خصوصاً وكان باكورة تتويجها إعلان حربها على العراق (17 كانون الثاني /يناير/1991) باسم “قوات التحالف الدولي”، لكن العصر الأمريكي أخذ بالتراجع، بعد غزو أفغانستان 2001 والعراق 2003 ومن ثم بالانحسار ، مع تعافي دور روسيا نسبياً وصعود الصين المتعاظم والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل التي شكّلت مجموعة اقتصادية مهمة ومؤثرة عرفت باسم بريكس BRICS في العام 2010، دون نسيان المنافسة المعولمة بين الضفة الأمريكية – الأوروبية وبين الضفة الآسيوية الصينية – الهندية، اليابانية ، الكورية ، الأندونيسية.
VI
يلقي الباحث ضوءًا كاشفاً على الشخصية الصينية والتطور الجديد في ظلّ المتغيّرات التي حصلت بعد انتهاء الثورة الثقافية وانبعاث الثقافة والفلسفة الصينية القديمة ودورها في تكوين الهوّية الصينية الجديدة، بما يتداخل فيها من فلسفات وأديان مثل الكونفوشيوسية والتاوية، إضافة إلى البوذية، ويتوقف عند قضية البوذيين في التيبت وزعيمهم الدالاي لاما (الرابع عشر) ، مثلما يعرض إشكالية ومشكلة المسلمين في الصين بما له علاقة بقضايا حقوق الإنسان، كما هي مشكلة تركمستان الشرقية المعروفة باسم “شينغيانغ” وغالبية سكانها من قومية الإيغور المسلمة؛ ويخصص فقرة مستقلة عن” العلاقات الصينية- السوفييتية في بداياتها ونهاياتها“، أي حتى تفكك الاتحاد السوفييتي، ليختتم الكتاب في مبحث خاص عن عالم ما بعد كورونا في رؤية استشرافية.
يمكنني القول إن كتاب طه جزّاع هو عمل متكامل استمرت موسيقاه الداخلية تتصاعد مع حبكة درامية مشغولة بطريقة فنية ساحرة، وبقدر ما يدرك ذبول مرحلة الآيديولوجيا في الصين على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني ما يزال حاكماً ومهيمناً وأن سياسة الحزب الواحد هي المستمرة، بما فيها في العمل السياسي والنقابي والمهني، وهو ما عكسه المؤتمر الأخير للحزب في آب (أغسطس) 2019، إلّا أنه يتابع فاعلية العقل الصيني التجاري، وهذه المرّة أيضاً استناداً إلى فلسفات الصين وتاريخها ، حيث يتم ملاقحتها مع التراث الفلسفي والثقافي، خصوصاً بمحاولة إحياء كونفوشيوس ولاوتسه، بعد أن شهدت الصين قطيعة أبستمولوجية (معرفية) مع التاريخ والفلسفة القديمة أيام الثورة الثقافية.
إن هذه السياسة الجديدة التي تنطلق من تاريخ الفلسفة الصينية وفلسفة التاريخ الصيني تعني تطليق مرحلة التزمّت الآيديولوجي والشعارات اليسارية الرنانة، حيث لم تعد شعارات “الكفاح المسلح” و“الإمبريالية نمر من ورق” و“كل شيء ينبت من فوهة البندقية” هي السائدة دليلاً على الثورية والزعم بامتلاك الحقيقة وإدعاء الأفضلية، بل صارت ثقافة السوق والعرض والطلب والمنافسة الاقتصادية والتمدّد التجاري ومنطق المصالح الذي يتقدّم على لغة العقائد، دون نسيان مبادئ العدالة الاجتماعية.
لقد تغيّر العالم وإذا لم تتغيّر الدول فستظلّ في مكانها، علماً بأن الثورة الصناعية في طورها الخامس ستتجاوزها بسرعة خارقة، وقد أخذت الصين ذلك على عاتقها في ديناميكية حركية داخلية للتحديث والعصرنة والتجديد والتساوق مع منجزات الثورة العلمية التقنية وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والطفرة الرقمية ” الديجيتل”، وكل ما له علاقة بالذكاء الاصطناعي في سباق محموم مع الزمن والآخر، وهو سباق طريق الحرير والحزام بالتنين الأكبر، سواءً كان أصفراً أم أحمراً، فقد استيقظ ولا يمكن تنويمه مغناطيسياً أو بالقوة وإعادته إلى عزلته، أراد الأبيض أم لم يرد؟
نُشرت في جريدة “الزمان” العراقية يوم الإثنين في 7/12/2020
[*] أكاديمي ومفكر عربي (من العراق) – نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور)، بيروت. له أكثر من 70 مؤلفاً في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والأديان والثقافة والأدب والمجتمع المدني، وحائز على جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي، القاهرة، 2003.