الدكتور ضرغام الدباغ .
بتأريخ 25 / أيلول ـ سبتمبر / 622 . م أقدم الرسول محمد (ص) على الھجرة مع رفيقه أبي بكر رب تخلصا واضطھاد سلطة مكة الوثنية، فقد بدا ً الصديق (رض) من مكة إلى يث من جور وظلم من الصعوبة بمكان على الجماع@ة اس@مية الناش@ئة أن تنم@و وان تض@ع اللبن@ة اAول@ى ف@ي بن@اء المجتمع اسمي في ظروف القم@ع وا/ض@طھاد ال@ذي واجھت@ه. ف@أمر الرس@ول المس@لمين وك@ان عددھم بسيطا (/ يتجاوز الخمسين رجً وامرأة وطفً) بالھجرة إلى يثرب، وكان قد ھاجر قبل ً ذلك أعداد من المسلمين إلى الحبشة . وفي عام 630 م، أي في السنة الثامن@ة للھج@رة، ع@اد الرس@ول إل@ى مك@ة منتص@راً، وق@د ان@دحرت القيادة المكية الوثنية، وبعدھا غدت تدريجيا (أرادتھم السياسية) ھي العليا ف@ي ش@به ً كلمة المسلمين الجزي@رة العربي@ة، فكت@ب الرس@و (ل ص) إل@ى المل@وك واAم@راء ي@دعوھم فيھ@ا إل@ى اس@م. وف@ي ض@حوة ي@وم ا/ثن@ين 8 / حزي@ران ـ يوني@و / 632 المواف@ق 12 / ربي@ع اAول / 11 . ھ@ـ أنتق@ل الرسول (ص ) إلى جوار ربه . استلم أبو بكر الصديق الخفة الراشدية اAولى 632-634) م أقل من سنتين)، تعصف بھا رياح الردة وتحديات خارجية خطيرة، وبرنامج لما يكتمل بعد ، في رؤية استراتيجية. أما عندما أس@تلم عم@ر الخف@ة ع@ام 13 H المواف@ق M 634 ، ك@ان المس@لمون ق@د وض@عوا لت@وھم أق@دامھم ف@ي الع@راق. وف@ي غض@ون س@نوات مع@دودة / تتج@اوز العق@د الواح@د، أس@س المس@لمون إمبراطوري@ة عمق@ة اس@تطاعت أن تنھ@ي وج@ود إمبراط@وريتين عظمي@ين، الساس@انية الفارس@ية الت@ي انھ@ارت محصوراً بصفة تامة والبيزنطية التي أنحسر نفوذھا وظل في آسيا الص@غرى، وق@د ب@دا أن الق@وة عام@اً اس@مية الت@ي خرج@ت م@ن مك@ة قب@ل 13 فق@ط، تطاردھ@ا الجاھلي@ة الوثني@ة لتنش@د اAم@ن والسم وا/ستقرار في يث@رب(أص@بح أس@مھا المدين@ة) ولتأس@يس الخلي@ة اس@مية اAول@ى، ب@دت اPن قوة / تقھر و/ تقاوم. فكيف حدث ذلك ؟ أسس العرب والمسلمين دولة وإدارات وقضاء وجيوش، واليوم ي@درك الكثي@ر من@ا، رج@ال دول@ة، وسياسة وفكر، أو رجال إدارة وقض@اء وق@ادة عس@كريون، أن إدارة دول@ة بك@ل عقاتھ@ا الداخلي@ة والخارجي@ة أم@ر ب@الغ التعقي@د تكنف@ه ص@عوبات جم@ة، فكي@ف إذا كان@ت ھ@ذه إمبراطوري@ة عمق@ة مترامية اAطراف ؟ كيف استطاع رجال ادارة العرب م@ن تنظ@يم الض@رائب وجبايتھ@ا وتنس@يق سائر الشؤون ادارية من جباية اAموال وتقسيمھا وشؤون اAرض والممتلك@ات، وكان@ت الدول@ة مية قد ورثت نظما (بيزنطية ورومية وفارس@ية وساس@انية) متناقض@ة ً اس إدارية ومالية مختلفة في بعض اAحيان، وكيف تمكن@وا م@ن تأس@يس س@لطة قض@ائية دقيق@ة اAداء ش@ھد ب@دقتھا وع@دالتھا حتى خصومھم، وبرز من صفوفھم قادة عسكريون عظام يعترف الفكر العسكري الع@المي حت@ى الي@وم بنب@وغھم وبعبقري@ة خططھ@م، وإدارة ك@ل تل@ك الفعالي@ات بتوقي@ت س@ليم وفك@ر ثاق@ب ص@اف، وبقرار سياسي حاسم حازم . يبسط بعض الكتاب بغير موضوعية اجابة على ھ@ذا الس@ؤال إل@ى درج@ة الس@ذاجة، ب@أن الع@رب بي@د أن س@ؤا/ً ت@رى أبھ@ذه منطقي@اً المسلمون قد تعلموا كل ذلك من الفرس والروم. يط@رح نفس@ه، السرعة تعلموا كل ذلك وتفوقوا عليھم ؟ ولربما أن سؤا/ً مھماً آخر يطرح نفسه، إذا كان العرب قد تعلموا كل ذلك من الروم والفرس، فلماذا لم تسعف ھؤ/ء تل@ك العل@وم ف@ي حماي@ة دولھ@م ؟ ث@م 5 ھل يكفي أن يتعلم ف@رد، أو دول@ة ك@ل تل@ك العل@وم ف@ي غض@ون س@نوات مع@دودة وتكتس@ح المنطق@ة متفوقة بما / يقبل أي شك وتفسير أو تأويل ؟ انه حقاً سؤال مھم، وھDذا الكتDاب ھDو محاولDة متواضDعة لHجابDة علDى ھDذا السDؤال الكبيDر، أو على جزء منه. إن المنھج الذي جاء به اسم يمثل دون شك ينبوعاً رئيسياً، ولكن ذلك لم يك@ن كل شيء، فقد دلتنا دروس التاريخ، أن المنجزات العظيمة / يمكن أن تكون أحادية الجانب، ب@ل أنھا حصيلة تظافر عوامل عديدة صبت في مجرى واحد، و/ بد أن ذلك المجرى ك@ان تاريخي@ا، ً أي منسجما . ً مع الحصيلة والتراكم التاريخي كمستحقات ومن جھة أخرى، فأن اAسلوب القيادي والنموذج والمثال الذي طرحته شخص@ية الرس@ول (ص ) كمثال لصحابته، كان مھماً، ولكنه يمثل رافداً مھماً من روافد ذلك النھر العظيم فحسب، / س@يما أن الفترة التي أصبح فيھا الرسول زعيما . ً سياسياً وقائداً للدولة كانت قصيرة جداً كما أن الصحابة أنفس@ھم ك@انوا دون ش@ك عل@ى ذل@ك المس@توى م@ن الرج@ال الت@اريخيين، والخلف@اء الراشدين منه بصفة خاصة، أبو بك@ر الص@ديق ال@ذي تص@دى Aكب@ر فتن@ة وخط@ر واجھ@ه اس@م طوال تاريخه القديم وربما الحديث، ونعني بذلك الردة. الصديق بما عرف عنه م@ن ل@ين ورف@ق، تص@دى بتل@ك البس@الة والح@زم لل@ردة عس@كرياً وسياس@ياً وأي@ديولوجياً، حت@ى ع@زم عل@ى محارب@ة الممتنعين عن دفع الزكاة . وأسست خفة عمر بن الخطاب ، مدرسة إدارية وعسكرية وسياسية وفن إدارة الدولة، أدار فيھا تل@ك التحرك@ات الھائل@ة للفي@الق والجي@وش وادارات بكف@اءة منقطع@ة النظي@ر، وعثم@ان ب@ن عف@ان وعلى بن أبي طالب ولكل منھم مآثره وإسھامه في بناء وتكوين الدولة، وكانوا بعفتھم ون@زاھتھم واستقامتھم وعدالتھم يضربون اAمثلة الساطعة عل@ى م@ا ينبغ@ي أن يك@ون علي@ه رج@ل الدول@ة م@ن مزايا وصفات . وكل تلك العوامل مھمة ب شك، وبعضھا رئيسي، ولكن ھناك أمر آخر مھم وأساسي بتقديرنا / ينبغ@ي أن نغفل@ه ف@ي زحم@ة اAح@داث الكبي@رة والشخص@يات التاريخي@ة، وھ@و وج@ود ت@راكم كم@ي ون@وعي ف@ي خب@رة العم@ل السياس@ي تب@دأ أسس@ھا اAول@ى م@ن الخب@رة ف@ي قي@ادة القبائ@ل، تحالفاتھ@ا وفعالياتھا السياسية وا/قتصادية، وحروبھا، باض@افة إل@ى عام@ل ج@وھري آخ@ر، ھ@و ا/س@تعداد الروحي والخلقي، باضافة إلى ذكاء اAفراد في تقبل واستيعاب تجارب اAمة نفس@ھا، وتج@ارب أمم أخرى، بل وأيضاً استنباط مناھج جديدة يكون جامعاً لصفات وممح وأصالة المجتمع القديم وممح وإيجابيات من@اھج وتج@ارب أم@م أخ@رى وأدراك مس@تلزمات المرحل@ة المقبل@ة، ف@تلكم ھ@ي صفات اAمم المنتجة للحضارات الكبيرة . وخل جلسات حوار عديدة مع مثقفين وأكاديم نيي عرب وأجانب، تبدأ المناقشة وتنتھي عند ذلك الس@@ؤال ال@@ذي يطل@@ق أس@@ئلة كثي@@رة، كي@@ف تمك@@ن الع@@رب المس@@لمون إدارة تل@@ك العملي@@ة السياس@@ية ، وكونوا تجربتھم الخاصة في وقت قصير جداً ادارية وا/قتصادية والعسكرية الھائلة وأطاحوا بتلك المؤسسات القديمة ونصبوا أخرى جديدة بد/ً عنھا ؟ م@ن المعل@وم أن الع@رب اس@تعانوا بم@وظفين روم وف@رس لس@تفادة م@نھم، لخب@رتھم أو رأف@ة بھ@م وإشعارھم باAمن والطمأنينة ولك@ن ھ@ ؤ/ء ك@انوا يعمل@ون تح@ت قي@ادة ع@رب مس@لمون، والقض@اء ك@ان يعم@ل وف@ق أحك@ام الش@ريعة اس@مية، كم@ا أن نظ@ام الض@رائب ك@ان ف@ي ج@وھره إس@مياً، فالجزية والخراج وضرائب أخرى ھي نظم مالية إسمية ص@رفة، ث@م أنھ@م اس@تفادوا م@ن تجرب@ة 6 ادارة الفارسية والرومية، ولكن كانت لھم طريقتھم الخاصة بادارة، وبھا برعوا ونجحوا، نعم أنھم كانوا قد استفادوا من النظم العسكرية الرومية والفارسية ف@ي بع@ض نواحيھ@ا، ولك@نھم ق@اتلوا وانتصروا بخططھم ونظمھم وبقيادتھم وبجندھم، إذن كيف حدث ذلك النجاح الكبير ؟ إن السياسة ببساطة ھي: علم وفن التعامل مع القضايا والمشكت الناجمة عن اجتمDاع البشDر وتداخل مصالحھم وفي المقدمة منھا اLقتصادية واLجتماعية . وتضيف ….. *خبرة التعامل مع اAحداث والمشكت اليومية . *التعايش مع الصعوبات والمعضت وابتكار أفضل الحلول لھا . *الحكمة التي تراكمت عبر تجارب اAجيال في التعامل مع شتى القضايا الفكرية والعملية . تضيف ھذه المعطيات إلى التجربة السياسية أبعادا بعض من محتوى الفكر السياسي ً وآفاقاً، تمثل الذي يتعدى في حالة س@موه إل@ى أن يص@بح ف@ي ص@الح البش@رية وانس@انية جمع@اء، يح@ل الت@دبير والحكمة فيھا محل الصراعات والمنازعات، فليس بوسع أحد اتھ@ام الع@رب ب@أنھم ك@انوا منغلق@ين على أنفسھم، فقد تأثروا بغيرھم، كم@ا أنھ@م أث@روا ب@ ش@ك وبق@وة عل@ى س@ير الت@اريخ والحض@ارة العالمية . وف@ي رحل@ة البح@ث ع@ن الج@ذور، ع@ن الين@ابيع اAول@ى، وج@دنا أن للع@رب باع@اً عميق@اً ف@ي العم@ل السياسي يدل عليه فعاليات وأنشطة كثيرة، وإ/ فم@ا ھ@ي تل@ك التحالف@ات واAتح@ادات القبلي@ة مث@ل حلف الفضول والمطيبين وعددا ى م@ن الح@روب والمنازع@ات الداخلي@ة والخارجي@ة، ف@ي ً / يحص@ إرجاء بد العرب كافة، وإذا تعمقنا أكثر، لنمض ف@ي رحل@ة الغ@وص للبح@ث ع@ن Aل@ئ الحقيق@ة، نمضي نحو أعماق التاريخ لنجد أنفسنا أم@ام ھج@رة العم@وريين واPرامي@ين والكنع@انيين م@ن ش@به الجزيرة العربية، وإقامة أولى الم@دن ف@ي ب@د النھ@رين والش@ام ووادي الني@ل، والحض@ارات الت@ي تأسست في تلك اAصقاع، وإن التج@ارب السياس@ية الھام@ة ل@دول الش@مال العربي@ة، ت@دمر اAنب@اط، الحضر، الغساسنة، المناذرة ، كن@دة والتن@وخيين ث@م دول الجن@وب العرب@ي: مع@ين وقتب@ان وأوس@ان وحضر موت وحمير وسبأ . تلكم ھي المسيرة التاريخية للفكر السياسي العربي، وقد اخترنا أن نضع ذلك في مرحلتين : *القديم : ويبدأ من تسجيل التاريخ وحتى ظھور اسم . *الوسيط : ويبدأ بظھور اسم ، مروراً بدولة الراشدين واAمويين حتى سقوط الخفة العربية العباسية . وفي غض@ون التف@اعت الت@ي دارت ف@ي العص@ر الق@ديم، كان@ت ھن@اك عناص@ر مھم@ة لھ@ا دورھ@ا المھم في تطوير النظام والممارسة للفكر العربي، وابرز تلك العناصر : والتحول من البداوة إلى ا/ستقرار، والتجارة بوصفھا نشاطاً دولياً مھماً ـ التطور ا/قتصادي: له مزاياه العديدة . ـ التراث الثقافي : ويتمثل بالخبرة والتجربة، وبكم ھائل من اAشعار والحكم واAمثال والحكايات واAساطير التي تبلور خبرة وثقافة الشعب وتعبر عن تجربته . ـ اAديان السماوية والشرائع: أدت إلى تطور فكري وفلسفي وقادت إلى تحو/ت سياسية مھمة . باAنظمة وتجارب الحكم للشعوب اAخرى، راف@داً ـ مثلت الصت ( على أشكالھا ) م@ن الرواف@د على طريق تشكل الفكر السياسي العربي . 7 الض@@رورة أن تتماث@@ل التج@@ارب انس@@انية لنق@@ول بالت@@الي أن ھن@@اك فك@@راً سياس@@ياً عربي@@اً ل@@يس ب ، ف@المرتكزات اAساس@ية للفك@ر السياس@ي تمتل@ك تراكم@اً تاريخي@اً، وق@د خلقت@ه تي@ارات وعواص@ف الممارسة الفعلي@ة عب@ر تج@ارب ثري@ة ل@يس ل\م@ة العربي@ة فحس@ب، ب@ل ل]نس@انية جمع@اء، أن ھ@ذا الفكر ھو نتاج تجربة جماعية فريدة من نوعھا ساھمت فيھا عقول مفكري اAمة كم@ا س@اھم فيھ@ا المھندسون والعلماء من جميع ا/ختصاصات، والمھمة الملقاة على عاتق علماء العلوم السياس@ية العرب المعاصرين، ھو أبراز تلك الحقائق التاريخي@ة، وع@دم ا/س@تھانة ب@أي منھ@ا ووض@عھا ف@ي مكانھا الئق . فكما كانت شريعة حمورابي ومنجزات سنحاريب العمرانية الھندسية أو الدبلوماس@ية والعس@كرية الب@اھرة، وك@ذلك دبلوماس@ية اAش@وريين والب@ابليين والكل@دانيين، ك@ذلك كان@ت رائع@ة تجرب@ة ت@دمر السياسية واAنبا ط وسبأ، مثل@ت وثيق@ة يث@رب الت@ي وض@ع فيھ@ا الرس@ول(ص) أول@ى قواع@د العم@ل السياسي الداخلي في التاريخ، ثم كل م@ا ج@اء ب@ه اس@م م@ن منج@زات سياس@ية مھم@ة أث@رت ف@ي الفكر السياسي العربي اس@مي، وروع@ة اAعم@ال السياس@ية / ا/جتماعي@ة Aب@ن خل@دون، وأب@ي حامد الغزالي، وابن رشد وتقي الدين ابن تيمية وغيرھم . إن تدوين ت@اريخ الع@رب أو الت@اريخ السياس@ي للدول@ة العربي@ة ليس@ت مھم@ة ھ@ذا الكت@اب، بق@در م@ا ينص@ب جھ@دنا عل@ى مح@ور رئيس@ي وھ@و تط@ور الفك@ر السياس@ي ل@دى الع@رب ودراس@ة العوام@ل المؤثرة على ھذا التطور ومراحله . ومما / شك فيه أن موضوع كھذا له صعوباته العدي@دة الت@ي واجھناھ@ا ح@ل ا/نج@از، وإن نق@ده سيزيده ثراء وھذا ما أتأمله من القراء والباحثين، فقد كانت خدمة الثقافة العربية الھدف الرئيسي من ھذا العمل، وإني أرجو أن أكون قد وفقت به وبأي مقدار ! العنوان الكتروني : E- Mail : drdurgham@yahoo.de المؤلف أواخر / حزيران ـ يونيو / 1996 بغداد أبو غريب