حنين إلى المتنبي
رباح آل جعفر
في شارع المتنبي تسأل عن وجوه طواها الزمن:
أين الشيخ الأفندي عبد العزيز القديفي بظرفه وفكاهته ومكتبته عند مدخل سوق السراي، يُصلّح أقلام الباندان العاطلة، ويخلط بين بيع الكتب والمجلات وبيع الطرابيشوالسدارة البغدادية، ويقرأ المقام بأنغامه المتعددة، ويبشّر بالشعراء الواعدين، ويخرج من جيب بنطاله ورقة عليها أبيات من الشعر، ويحدّثك عن الجن الذين سرقوا كتبهفتبتسم؟.
أين مكتبة محمد الفلفلي؟
وأين أبو عوف يدفع الكتب في عربته بساقيه المبتورتين؟ وأين قاسم أبو الجرايد يتنقل بين مقاهي الزهاوي، وحسن عجمي، والشابندر، والبرلمان، يوزّع الصحف ويؤجّرهاللزبائن من القراء ثم يعود بعد ساعة يسحبها من طاولاتهم؟
وأين الشيخ علي الخاقاني تحدّثك عنه “البابليّات” وشعراء الغري”، وأين انتهى الورّاق كمال أبو مصطفى الذي كان يجلّد لك الكتب القديمة؟!.
وأين ضجيج الأدباء والمثقفين ونقاشاتهم الصاخبة التي تعلو وتهبط في مقاهي ذلك الزمن عن الوجودية والماركسية، والأجيال الشعرية، والحداثة والكلاسيكية، ويُسرفون بشربأقداح الشاي وكان عدد منهم يؤجل دفع الحساب!.
في شارع المتنبي تمرّ بمزاد للكتب، تسمع صوتاً كان ينادي عليك، تتلفّت إلى صاحبه فإذا به صوت نعيم الشطري “الشيوعي بعد الشيوعية”.. جاء وحيداً حين جاء أعوامالستينيات من الشطرة في أقصى الجنوب العراقي عاشق كتاب وعاشق حرية، وعاش وحيداً حين عاش في غرفة بائسة في الحيدر خانة يكسب أقلّ القوت، ومات وحيداً حينمات في مدينة واسعة لم تعطه خبز الكفاف، ليخرج من دنياه: ربّي كما خلقتني!.
تتأمّل القشلة فلا تسمع دقّات ساعتها، فقد توقف الزمان في السراي، وتوقّف القُشَل عن القراءة والكتابة.. تنعطف بك الطريق نحو المدرسة المستنصرية، يستوقفك القصرالعباسي، تمرّ بجامع الوزير.. في هذا الجامع قال الشاعر العباسي أبو الحسن التهامي في صديقه الوزير المصلوب ابن بُقية أعظم ما قيل من قصائد الرثاء، وزّعها منشوراًسريّاً وهرب:
علوّ في الحياة وفي الممات
لعمرك تلك إحدى المكرمات
تلتفت أمامك، تودّ لو تزور المتحف البغدادي، تقف عند رأس جسر الشهداء، هنا ماتت معاهدة بورتسموث، وكذلك تموت المعاهدات الجائرة جميعاً.. هنا قال الجواهري قصيدتهالخالدة في أخيه جعفر عندما استشهد على هذا الجسر:
أتعــلم أم أنت لا تعــلم؟
بأنّ جراح الضحايا فمُ
تتلفّت وراءك، تمدّ بصرك نحو تمثال الرصافي الشاعر الشامخ الذي نزلت به دنياه من عضو في مجلس المبعوثان إلى بائع سجائر على الأرصفة، ترسل نفسك على سجيّتها،تتمتم مع نفسك ببيت من قصيدته الرائعة وهو يناجي بغداد بحزن وحسرة:
أنا ابنُ دجلةَ معروفٌ بها أدبـــي
وإنْ يكُ الماءُ منها ليس يرويني
ثم أقفلت هذه المكتبات وتضاءلت، وأزيلت من مكانها وبُنيت عمارات مكانها، وماتت تلك الصالونات الأدبية والمجالس الثقافية بعدما مات أصحابها!.
في شــارع المتنبي ترى شجرة الثقافة العراقيّة باسقة، تثبت جذورها، وترتفــــع فروعها، وتمتدّ أغصانها في كلّ وجه من الوجوه التي تألفها وتألفك، وتستمتع بنزهة جميلة بينالكتب والناس.. والزمان!.