كاظم حبيب
نظرة مكثفة في كتاب “تاريخ العنف – نقد المشاعر في الحيز الدائري”
للباحث الأكاديمي د. فالح مهدي
اسم الكتاب: تاريخ الخوف [نقد المشاعر في الحيز الدائري] – دراسة
اسم المؤلف: الدكتور فالح مهدي
دار النشر: بيت الياسمين للنشر والتوزيع
مكان النشر: القاهرة – مصر
سنة النشر: 2020، الطبعة الألى
عدد الصفحات: 222 صفحة
الترقيم الدولي: 9789778172089
صورة غلافي الكتاب وصورة الكاتب
لمحة مكثفة عن الكاتب
ولد الباحث والكاتب والروائي العراقي الدكتور فالح مهدي عام 1947. درس القانون ببغداد وعمل محامياً. غادر العراق في العام 1978 في أعقاب الهجمة الشرسة للنظام البعثي على القوى الديمقراطية والتقدمية، إذ كان من المعارضين لنظام البعث وصدام حسين. واصل تحصيله العلمي بالهند، ثم دَرَسَ في فرنسا وحاز على شهادة دكتوراه دولة من جامعة باريس 10. درَّس فلسفة القانون في الجامعة ذاتها التي تخرج منها، ثم انتقل للتدريس لعدة سنوات في جامعة فرساي. صدرت له الكتب التالية: “البحث عن منقذ” 1981 عن دار أبن رشد – بيروت، “صلوات الإنسان” 2010 عن دار البصائر – بيروت، “أسس وآليات الدولة في الإسلام” 1991 باريس وباللغة الفرنسية، رواية “أصدقائي الكلاب” 2014 القاهرة – دار الياسمين المصرية. وروايات أخرى باللغة الفرنسية، كما ساهم مع أساتذة جامعيين في كتب مشتركة عن أنثروبولوجيا القانون عن دار المنشورات الجامعية الفرنسية. كما صدرت له كتب مهمة أخرى في نقد الفكر الديني، وأبرزها: نقد العقل الدائري: الخضوع السني والإحباط الشيعي (2018)، البحث في جذور الإله الواحد: في نقد الأيديولوجية الدينية (2018)، و”تاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري” (2020)، إضافة إلى كتابه الموسوم “مقالة في السُفالة: نقد الحاضر العراقي” (2019).
قراءة في النص: الحلقة الأولى: المقدمة
يقدم الباحث الأكاديمي والكاتب المميز الزميل الدكتور فالح مهدي إلى قراء وقارئات اللغة العربية دراسة علمية وموضوعية قيمة وغنية بغزارة المعلومات التي يمتلكها وبأسلوب ممتع في التحليل العلمي والبحث في أصل وتاريخ الخوف والعوامل المسببة له، والتغيرات والتحولات والصور المتباينة لظهور الخوف عبر التاريخ الطويل للمجتمعات البشرية. إنها دراسة موسعة ومعمقة في موضوعات الخوف ورحلته البحثية في الزمن وفي الدين، أي دين، والعقل الديني كحيز دائري مغلق. إنه بحث في تنوعات الفكر الإنساني إزاء الخوف والمسألة المركزية فيه: الموت. فهل هناك حياة أخرى للإنسان بعد موته؟ هذا السؤال الذي حير البشر وبدأ به گكلگامش ولم ينته حتى الآن وسيستمر، رغم تنامي القناعة لدى الشعوب المتحضرة والحديثة بأن لا حياة أخرى للإنسان بعد موته، لا جنة كثواب ولا نار كعقاب، وهو ما تتاجر وتتغنى به جميع الديانات على وجه الأرض تقريباً. كما يبحث الكاتب في عدد كبير من الموضوعات الدينية والفلسفية والتاريخية ويخوض نقاشاً مهماً وحيوياً في موضوعات العنف في الأديان والرحمة كحالة ثابتة أو غير ثابتة، والموقف من العدالة، مع الدكتور عبد الجبار الرفاعي. وفي المقدمة المهمة يؤكد الكاتب طبيعة الدراسة التي يسعى إلى إنجازها في هذا الكتاب حين يقول:
“في هذه الدراسة لن نبحث عن أمور بديهية تتضمن حالة الذعر والرهبة والهذيان وفقدان العقل في لحظة الخوف، لكننا سنبحث عن جذور الخوف وأصوله، أي بداياته الأولى، أي عصر الصيد وجمع القوت أولاً وإلى العصر الزراعي الذي لا تزال الغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية تعيشه.”. (مهدي، الكتاب، ص 6). وهي لعمري مهمة كبيرة وحيوية استطاع الباحث أن يخرج منها بنجاح كبير، وهي بالتالي دراسة أصيلة وذات أهمية لقراء وقارئات العربية، إنه كتاب تنويري متقدم.
في المقدمة المكثفة والمهمة أوضح الدكتور فالح مهدي المنهج الذي يتبعه في البحث والقضايا التي سيبحث فيها، فكتب ما يلي: “لم يستند في هذا العمل إلى أيديولوجية معينة؛ لاعتقادي أن الأيديولوجيا مهما كان ذكاؤها مخربة لأي عمل جاد، وتفقد العمل موضوعيته. هذا البحث مفتوح على كل النوافذ الفكرية.”. (مهدي، تاريخ الخوف، ص 5).
سأناقش في الحلقة الأولى من قراءتي المتأنية لهذا الكتاب القيم والمهم حقاً، بعد أن اطلعت على المقالة المهمة والموسعة للسيد الدكتور جواد بشارة عن الكتاب والموسومة “قراء في كتاب تاريخ الخوف لفالح مهدي” المنشورة في موقع مؤسسة الحوار المتمدن ومواقع أخرى، بعض المسائل الجوهرية والخلافية التي وردت في المقدمة، التي هي ليست من صلب المادة التي يبحث فيها، كما أرى، ولكن مناقشتها ضرورية، لأنها وردت في مقدمة البحث، في حين أترك قراءاتي للفصول الأخرى في حلقتين تاليتين.
المسألة الأولى: قول ماركس “نقد الدين أساس كل نقد” وقوله ايضاً “الدين أفيون الشعوب”.
أشار الكاتب فالح مهدي صواب هذه القول وإن النقد لا يعني جانباً واحداً، بل يمكن أن يعني الجانب السلبي والجانب الإيجابي، إذ كتب: “إن النقد لا يعني إطهار عيوب الشيء، كما قد يتبادر إلى الذهن وكما ذكرت في كتابي (البحث عن جذور الإله الواحد) بل الكشف عن آليات فعله والغرض من قيامه وأهدافه المرتبطة بوجود ذلك الدين.”، وأضَيفُ إليها إبراز الجوانب الإيجابية والسلبية له في الظرف الذي ظهر فيه ذلك الشيء. وقول ماركس يتضمن هذين الجانبين وليس جانباً واحداً. الجانب الأول هو الذي تؤكده حقائق الحياة والنصوص الدينية التي بين أيدينا في الكتب الدينية. فالدين، كظاهرة، نتاج المجتمع وعلاقاته الاجتماعية، وهي علاقات متغيرة بطبيعة الحال عبر التغيرات التي تحصل في المجتمعات البشرية، وبالتالي فأن الدين يشكل جزءاً مهماً ومديداً من البناء الفوقي للمجتمعات البشرية. وهو أمر موضوعي محكوم بالواقع القائم. والجانب السلبي في موضوع الدين يبرز في دور الدين والنصوص الدينية ودور شيوخ الدين في إعاقة التقدم وتطور المجتمعات البشرية. فليس بعيداً عن معرفتنا ما برز في الموضوعات العلمية التي طرحها الدكتور مهدي التي تشير بما لا يقبل الشك إلى أن في الدين كثير من الجهالة وتغذية ونشر الجهل في المجتمع، كما أنه ضد العلم والمعرفة العلمية وضد التقدم الاجتماعي. وللدين دور مركزي آخر يبرز في تشخيص ماركس الجريء والقائل “الدين أفيون الشعوب”. فماذا يقصد ماركس بهذه العبارة الذكية؟ القصد منه واضح تماماً. فالفكر الديني، وما يمارسه شيوخ الدين يومياً، يبشر الفقراء والمعدمين والمعوزين والمهمشين والمحرومين من نعم الحياة بوعود سخية ذات طبيعة تخديرية، فمن هو فقير ومحروم في الدنيا سيكون غنياً وسعيداً في الآخرة. إنها الدعوة بقبول الواقع القائم، فما يحصل له هو بأمر الله ورضاه، وبالتالي فلا يحق له الاحتجاج والانتفاض على أوضاعهم البائسة والمزرية إزاء مستغليهم من الأغنياء وسارقي لقمة عيشهم من الحكام والمستغلين. فقد جاء في القرآن: “مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ” (أنظر: القرآن، سورة محمد، الآية 15). جاء في الصبر على البلاء ضمن المواعظ الدينية ما يلي:
” البــــلاء سُنَّة الله الجارية في خلقه؛ فهناك من يُبتلى بنقمة أو مرض أو ضيق في الرزق أو حتى بنعمة .. فقد قضى الله عزَّ وجلَّ على كل إنسان نصيبه من البــــلاء؛ قال تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2,3] .. فمنهم من سيفهم حكمة الله تعالى في ابتلاءه، فيهون عليه الأمر .. ومنهم من سيجزع ويتسخَّط، فيزداد الأمر سوءًا عليه ..وهذه رســــالة إلى كل مُبتلى، وكل الناس مُبتلى ومُصاب ..هوِّن على نفسك، فمهما كانت شدة البلاء سيأتي الفرج من الله لا محالة” ويستكمل ذلك بما جاء في القرآن: إنما يوفي الصبرون أجرهم بغير حساب”. (أنظر: موقع الحمد لله، 10/01/2017).
ففي هذا ليس إساءة للمؤمن بما يؤمن به من دين، بل هو التجسيد الواقعي لما يسعى إليه الفكر الديني وشيوخ الدين الذين يمارسون التبشير الدائم بذلك.
ولكن يفترض أن نلاحظ بأن للدين جانب آخر. فعلى سبيل المثال لا الحصر دور الدين الإسلامي في مقاومة الشعب الجزائر للاحتلال الفرنسي لبلادهم وما اجترحوه من بطولات وقدموه من تضحيات لطرد المحتل الفرنسي من البلاد، ولكن سرعان ما تغير هذا الموقف بعد الاستقلال. وإذا كان لبعض من شيوخ الدين دور مهم في التحريض على ثورة العشرين في العراق، بغض النظر عن الأهداف الأخرى وراء هذا الموقف، نلاحظ اليوم ما للفكر الديني من دور سلبي ورجعي يتجلى في نهج وسياسة الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها المسلحة في العراق، أو ما لإيران من دور في كل ذلك.
المسألة الثانية: هل يتعامل الزميل د. مهدي في بعض كتاباته أيديولوجياً
ليست الأيديولوجيا شراً دائماً ولا خيراً دائماً، بل هي تخضع لمضامينها أولاً، ومن يعيها، ثم وبشكل خاص من يستخدمها أخيراً. والدكتور مهدي لا يريد أن يميز بين الفكر الذي طرحه ماركس وإنجلز، الفكر الشيوعي أو الفكر الاشتراكي، بمضامينه الأساسية، وبين النظم السياسية التي نشأت وأعلنت تبنيها لهذا الفكر، ولكنها لم تمارسه مضامينه الأساسية حقاً، بل انحرفت عنها بعيداً، وانتهت إلى حيث كان لها أن تنتهي. كتب إنجلز يقول “الماركسية ليست عقيدة جامدة بل نظرية هادية” لمن يريد أن يستفيد منها في البحث والتحليل، إنها دليل عمل. ومن المؤسف حقاً إنها قد تحولت، وربما ما تزال لدى مجموعة من الأحزاب الشيوعية والعمالية في العالم، إلى عقيدة جامدة ومؤذية، أصبحت لدى البعض الذي لم يعِ جوهرها، إلى دين يعتقد بأنها تمتلك الحقيقة كلها، في حين إن الحقائق نسبية أولاً، وليس هناك من نظرية قادرة على الإلمام بكل شيء، ولا بد لها أن تتطور بتطور الحياة والعلوم والاكتشافات والاحتراعات الجديدة والتحولات الجارية على الإنسان وفكره. لهذا لا يكفي أن تختزل طل شيء، بل يمكنك الاستفادة من جوانب أخرى في نظريات أخرى دون أن تفقد البوصلة التي تهديك إليه النظرية الماركسية.
دأب الزميل الفاضل فالح مهدي للتصدي للفكر الماركسي، أو الرية الشيوعية والاشتراكية لبناء الحياة الجديدة من منطلق أيديولوجي واضح، وبالتالي فليس صواباً أن يقول بأنه لا يتعامل مع المسائل التي يبحث فيها، على الأقل في المقدمة، من منطلق غير أيديولوجي. مع كل الاحترام لكل من يحمل أيديولوجية أخرى، فهو يتعامل معها بأيديولوجية مناهضة للفكر الاشتراكي. وهذا حقه الكامل، لكن على ألَّا يقول بأنه حيادي مثلاً أو لا يتعامل هنا مع الأيديولوجيا التي يحملها. هنا أكرر القول بأن من الصواب حقاً التمييز بين ما حصل في الدول الاشتراكية، وكنت أعيش وأدرس في أحدها وأعرف ما كان فيها، من نظم سياسية-اجتماعية، وبين الفكر الاشتراكي، مع الأخذ بالاعتبار كل التغيرات التي يمكن أن تطرأ على هذا الفكر منذ نشأته الأولى في فرنسا بموجب التحولات الجارية والهائلة على صعيد الإنسان والحضارة البشرية المعاصرة، مع الحفاظ على الأساس المادي لهذا الفكر، ونعني به العدالة الاجتماعية المفقودة كلية في النظام الرأسمالي العالمي وفي كل النظم السابقة، كما كانت مفقودة في الاتحاد السوفييتي وبقية دول المعسكر الاشتراكي. إن المقارنة بين الدعوة الماركسية كفكر ومنهج علمي متطور وبين الدين كحيز دائري مغلق، وما كتب عنه الكاتب نفسه فيه كثير جداً من التحيز الأيديولوجي الذي ابتعد بالكاتب عما دعا إليه من ابتعاده عن الأيديولوجيا لأنها مخربة.
المسألة الثالثة: لينين وموقفه من الدين
ابتداء لا بد من الإشارة إلى أن لينين قد تبنى الماركسية فلسفة له، وكان مفكراً ذكياً كبيراً وسياسياً بارعاً، وبالتالي كتب مؤلفات عديدة في الفكر النظر والتطبيقي والسياسة، منها ما هو صالح حتى الآن، ومنها ما لم يعد صالحاً. ومن بينها تلك التي ترتبط بعمل الأحزاب الشيوعية، حيث جرت في زمانه وفيما بعد روسنة الفكر الماركسي وتصديره للعالم على أنه الماركسية وليس الفهم والاجتهاد الروسي لهذا الفكر. وقد تعمق ذلك في فترة الدولة السوفييتية ودور ستالين في هذه العملية.لا شك في أن فلاديمير إيليچ لينين كان رجلاً ملحداً من الناحية الفلسفية، على وفق التعابير المستخدمة في الأدب الديني. وكان من حقه أن يدعو للإلحاد الذي يلتزم به، ولكن لينين لم يدعو إلى معادة الدين أو شن حرب ضدها، بل وافق على قبول المؤمنين وشيوخ دين في الحزب إن كان وجودهم ليس لغرض الدعاية الدينية في صفوف الحزب، بل من أجل تحقيق برنامج الحزب. ولا أجد ضرورة في إيراد مقاطع كثيرة من كتبات لينين لتأكيد هذا الموقف العقلاني، رغم أني غير متفق مع جملة من تنظيرات لينين في مجال الحزب ودكتاتورية البروليتاريا والمركزية الديمقراطية وبناء مجالس السوفييتات…الخ، التي انتقدتها بقوة روزا لوكسمبورغ في كتابها الشهير “الثورة الروسية” الذي ألفته وهي في السجن وقبل اغتيالها بأشهر قليلة. لقد اعتمد لينين على مواقف ماركس وإنجلز في مسألة الدين والموقف منه. وأكد بما لا يقبل الشك ما قاله إنجلز بأن على “ الديمقراطية الاجتماعية أن تنظر إلى الدين باعتباره مسألة خاصة تجاه الدولة، ولكن ليس تجاه نفسها بأي حال من الأحوال، ولا تجاه الماركسية بأي حال من الأحوال، ولا تجاه حزب العمال بأي حال من الأحوال.”، أي بمعنى أنها تمس الرفد ذاته وليس الدولة أو الفكر الماركسي او الحزب العمالي. (فريدريك إنجلز: مقدمة عن “الحرب الأهلية في فرنسا (طبعة 1891). وبالنسبة لقناعاتي الشخصية أجد إن ما جاء في النص الوارد حول الدعاية للإلحاد في برنامج حزب شيوعي غير موفقة، واتفق في ذلك مع الدكتور فالح مهدي، في حين اتفق مع الجزء الثاني من النص اللينيني والقائل بضرورة نشر الأدبيات العلمية التي تنتقد الفكر الديني وتبحث في جذور الدين وأصله وما يراد منه وله. وهو ما يقوم به الدكتور مهدي في بحوثه القيمة وكتبه الأربعة في هذا المجال خير قيام، أي في الكشف عن طبيعة الحيز الدائري المغلق للعقل الدائري الذي يحكم الدين ويتحكم به. لقد كانت القيصرية تحارب كل ما هو علمي، كما أن كل الدول ذات النهج الديني المتزمت تحارب العلم، فالعلم والدين على طرفي نقيض، ولكن الدين والجهل متلاحمان. والنص اللينيني يؤكد ذلك:
“إن برنامجنا قائم كلياً على الفلسفة العلمية المادية الصارمة، ولكي نشرح برنامجنا يتحتم علينا شرح الجذور الحقيقية التاريخية والاقتصادية للضباب الديني، انّ دعايتنا يجب أن تكون بالضرورة مشتملة على دعاية للألحاد، وتحقيقاً لهذهِ الغاية فأنّ نشرْ الأدبيات العلمية التي منها ولاحقها بقسوة النظام الإقطاعي يجب أن يصبح الآن مهمة من مهام حزبنا.”. (انظر مهدي، الكتاب، ص 7) باستناده إلى كتاب: لينين: مختارات جديدة: نصوص حول الموقف من الدين، ترجمة محمد كبة، مراجعة وتقديم: العفيف الأخضر، دار الطليعة، بيروت، 1972، ص 87).
يمكن المتتبع لهذا الموضوع الشيق أن يقرأ موقف إنجلز في كتابه “ضد دوهرنج”، حيث رفض بحسم إعلان الحرب ضد الدين ومنعه في المجتمع الاشتراكي، ومن أجل أن لا تتكرر حماقة بسمارك في اضطهاد شرطته لرجال الدين الكاثوليك”. هذا هو الموقف الذي اتخذه فريدريك إنجلز إزاء أولئك الذين فهموا الماركسية بصورة سطحية أو عجزوا عن التفكير السليم في الموقف العقلاني من الدين وعلاقة الدين بالمجتمع وعلاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية عموماً. (أنظر: Wladimir Iljitsch Lenin, Über das Verhältnis der Arbeiterpartei zur Religion, 13. (26.) Mai 1909.)
الفكر الاشتراكي يدعو إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية، ومنها حرية الفكر والعقيدة للفرد. يخطئ، أياً كان حزباً أو جماعة أو حاكماً أو شخصاً، من يعتقد بأن القوة والعنف والإجبار هي التي يمكن أن تكسب الناس إلى دين أو عقيدة أخرى غير التي يؤمن بها، فهذه الأساليب الزجرية لا تبعد الناس عن عقائدهم الدينية أو غير الدينية، بل تزدهم تمسكاً بها. وإن ممارسة العنف أو القوة لإجبار أصحاب عقائد أخرى، كما يجري اليوم من جانب قوى الإسلام السياسي عموماً، والمتطرفة والتكفيرية منها على نحو خاص، على تبني هذه العقيدة أو الأيديولوجيا، لا يمكن تسميته بغير الاستبداد والقهر الفكري والسياسي، الذي ينتهي لا محالة إلى الفشل الذريع مع وقوع كوارث كثيرة. وهو ما عاشه العراق في عام 2014 بشكل خاص مع غزو واجتياح المول ونينوى من قبل عصابات داعش الإجرامية وممارسة الإبادة الجماعية. أو ما جرى في الفترة منذ إسقاط الدكتاتورية بالحرب الخارجية عام 2003 حتى الآن إزاء أتباع الديانات والمذاهب الأخرى من قبل النظام الطائفي الفاسد الحاكم والسافل في العراق.
لا أدعي عدم وجود أخطاء فادحة جداً وجرائم ارتكبت من قبل ستالين إزاء شيوخ الدين أو دعاته في الدولة السوفييتية، بل وأكثر من ذلك، فكما نعرف جميعاً بأن جرائم الرجل وأجهزته الأمنية والحزبية قد طالت جمهرة من خيرة الشيوعيين في الحزب الشيوعي السوفييتي وفي الحزب الشيوعي الألماني، لاسيما في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب. ولكن هذا النهج السياسي ليس من صلب الفكر اشتراكي، بل هو تجاوز فظ على الفكر الاشتراكي والإنسان، إنه استبداد فردي وحزبي مرفوض.
هذه الملاحظات القليلة التي وردت على ما جاء في المقدمة لا تقلل من المسائل المهمة التي جاءت بها المقدمة كتعريف لما سيرد في الكتاب وعن المنهج العلمي الذي اتبعه الكاتب في البحث الذي بين أيدينا.