رجل المرايا المهشّمة للبنى ياسين
طفل يبحث عن الحنان قرب جثة
مصطفى علوش
الرواية عمل يشبه شغل السحرة، إما أن يأخذك إليه منذ الصفحة الأولى وإما أن تترك المكان وتهرب إلى أي شيء آخر.
كان يوم أحد من شهر كانون الأول عام 2020 وكان علي الإستراحة.. أطلقتُ سراح الرواية من مكتبتي الصغيرة وبدأت القراءة.
والروايات التي تبقى طويلاً في الذاكرة هي تلك التي تثير الأسئلة في روح القارئ، أو لعلها تخلق في روح القارئ عاصفة من الأسئلة الصعبة والجديدة. وهنا شعرتُ كقارئ أني أمام نص مشغول بتقنية عالية المستوى من السرد وارتباط الأفكار، فكل الشخصيات في الرواية كانت تفتح الأبواب للقارئ وتقدم له الحلوى والقهوة ليتابع القراءة ولكنها كانت بالوقت نفسه شخصيات مشوهة ومحطمة، معزولة ومنعزلة.. ليس فقط صطوف مشوه ومريض نفسياً إنما والدته التي أنجبته بعد أن تمّ اغتصابها في ليلة عابرة، حيث سافر زوجها إلى القرية ليزور أمه ليقتحم بيتها صاحب مشغل النجارة، أبو نعيم ويغتصبها.
لا أريد الدخول من الرواية إلى المجتمع الشرقي لأقول بأن الرواية رصدت تشوهات الرجال، والذكورة المريضة هنا، إنما سأبقى مع تلك الشخصيات لأحاورها وأسألها لماذا لم تخرج من تشوهاتها وأمراضها وعزلتها؟ لماذا تركتها الكاتبة تخنقنا في لحظات وتبكينا في لحظات أخرى؟ لما جعلت صطوف الطفل ينام مع أمه وهي ميتة.. هنا تماماً في هذا المكان من الرواية شعرتُ بأن الرواية يجب أن تتحول إلى فيلم..
فصطوف هذا النائم مع جثة باحثاً عن حنان فقده، وكان يريده، يشبه آلاف البشر الضائعون في متاهات الحياة بحثاً عن أمان أو سعادة أو متعة.. في لحظات القراءة هذه شعرتُ أني أنا هنا تماماً مثل صطوف تدثرت بالحياة كلها فخذلتني لأكتشف أن بعض العمر يشبه الجثة.
كاتبة الرواية لبنى ياسين، لم تكتفي بذلك إنما ذهبت أبعد من ذلك، تركت لشخصياتها الذهاب إلى أقصى حد من الوضوح والنمو المشوه. فصطوف اشتغل أخيراً في ثلاجة الجثث في المشفى، وكان منطقياً لابد أن يذهب في تشوهه إلى لحظة قادمة يضاجع فيها جثة امرأة ماتت في ليلة عرسها .. هنا تماماً يأتي السؤال من قلب الرواية: وكم عدد الذكور في هذه الكرة الأرضية الذين يضاجعون نساء، هنّ جثثاً في مشاعرهن تجاه الرجال.. ؟ ولا جواب الآن.. فكثير من البشر المرضى لا يدركون أنهم مرضى..
صطوف، بطل الرواية الذي حملت به أمه دلال بعد حادثة اغتصابها، دفع فاتورة إنتقام أمه من مغتصبها، فتحول إلى إنسان مشوه بسبب الأمّ التي عاملته كسجان في البيت وتركته ينمو في زاوية البيت، وأسدلت عليه ستارة، تركته ينمو كمجرم أو كمغتصب، وهنا تأتي هذه الشخصية لتذكرنا بمجتمعات مريضة نما فيها البشر على طريقة صطوف الطفل، وكان لمعظم أفرادها زاوايا مهملة في بيوت تلك المجتمعات، كأن الرواية تنشر وتفضح المرض لتقول لنا جميعاً تفضلوا هذا هو أنتم، هذا هو نحن، هذا هو أنتن.. بالوقت نفسه قالت لنا نحن نعيش في مجتمعات بلا مظلات حماية اجتماعية، نعيش بدون مظلات حماية وعلاج نفسي، نحن هكذا..
هل أبالغ هنا في توصيف الرواية ضمن علاقتها مع المجتمع، وقصدي هنا كل تشوه موجود في المجتمعات البشرية وخاصة مجتمعاتنا الشرقية؟ هل أبالغ إن قلت أن كل علاقة إنسانية قائمة على العنف هي اغتصاب بمعنى ما.. ؟ ربما ..
يكتشف صطوف في المقطع الأخير من الرواية أن وجهه ليش مشوهاً كما كان يعتقد، وإنما روحه كانت مشوهة.. وبين شكل الوجه وشكل الروح ضاع عمره في الخوف والترقب والحرمان..
وحين رسمت الكاتبة شخصياتها على هذا القدر من التشوه والخوف المرضي والذعر كأنها أرادت لنا القول أن الجانب المتوزن من الحياة، الجانب المضي، النقي، النفيس يقع تماماً في النقيض المعاكس لكل هذه التشوهات.
رجل المرايا المهشمة.. عمل روائي عبارة عن مزيج شخصيات محطمة وهاربة ومشوهة.. فيه من السرد المشوق ما يستحق القراءة، وفيه من التعرية والفضح النفسي والاجتماعي ما يستحق التوقف عنده مطولاً.