نظرة مكثفة في كتاب “تاريخ الخوف- نقد المشاعر في الحيز الدائري”
للباحث الأكاديمي د. فالح مهدي- الحلقة الرابعة الأخيرة – الفصل الأخير: الخروج من الخوف
اسم الكتاب: تاريخ الخوف [نقد المشاعر في الحيز الدائري] – دراسة
اسم المؤلف: الدكتور فالح مهدي
دار النشر: بيت الياسمين للنشر والتوزيع
مكان النشر: القاهرة – مصر
سنة النشر: 2020، الطبعة الألى
عدد الصفحات: 222 صفحة
الترقيم الدولي: 9789778172089
صورة غلافي الكتاب وصورة الكاتب
لا يكتفي الزميل الدكتور فالح مهدي في الفصل الأخير من هذا الكتاب بتقديم ملاحظاته وانطباعاته عن الموضوعات التي عرضها وحللها وناقشها بحيوية متميزة ومعرفة جيدة لموضوعات البحث فحسب، بل طرح بمسؤولة وثقة عالية بآرائه الشخصية بشأن تلك الموضوعات، كما فعل في كتبه الأخرى التي تسنى لي قراءتها أو التعليق عليها. ويمكن اعتبارها خلاصة مكثفة لموضوع الكتاب ذاته: الخوف وعلاقته بالدين، إذ خرج بنتيجة مهمة جداً نجدها في النص الآتي الذي يحدد فيه الكاتب فكرة أو شرط الخروج من الخوف:
“ليس هناك أخطر على السلوك الإنساني من الخوف الممنهج. ولكي يتمكن الكائن البشري الخاضع لأهوال هذه المخاوف من تطليقها سيحتاج ألي التخلي عن الأساطير واللجوء إلى العقل في كل ما يتعلق بحياته. وهذا يعني الخروج من بؤس الدائرة والولوج في العالم الأفقي”. ثم يواصل قوله:
“ليس الخروج من الخوف بوصفة سحرية ما أن يقرؤها المرء حتى يصبح حُرَّاً؛ لأن الخروج من الخوف يعني الخروج من عبودية الأيديولوجيات المطلقة”. (مهدي، تاريخ الخوف، ص 203).
وقبل تحديده هذه الخلاصة طرح وجهة نظره بموضوعات كثيرة، سأحاول مناقشة بعض المسائل أو طرح وجهة نظري بشأنها لأهميتها الفكرية والاجتماعية والسياسية تأييداً أو اختلافاً.
المسألة الأولى: الحظيرة والقطيع:
اعتقد أن هذه المصطلحات ملائمة ليس لأتباع الديانات فحسب، بل بالنسبة إلى الأيديولوجيات الشمولية كافة، وبتعبير أدق، لأتباع الأيديولوجيات الذين لا يعون جوهر الأيديولوجية التي اعتنقوها واعتقدوا بها. الدين أيديولوجيا، والعنصرية أيديولوجية، والشوفينية أيديولوجية، كما هو حال الفاشية كنهج منبثق عن الأيديولوجية العنصرية ، والطائفية السياسية كنهج منبثق عن الأيديولوجية الدينية. وهذه الأيديولوجيات قاهرة للإنسان ومنتجة له عواقب مدمرة. والسؤال هنا ما الموقف من الاشتراكية أو الشيوعية، وكذلك من الرأسمالية. إنها بطبيعة الحال ايديولوجيات لطبقات وفئات اجتماعية مختلفة. فالرأسمالية أيديولوجية أيديولوجية البرجوازية التي يمكن أن تكون قومية عنصرية وشوفينية ورأسمالية ليبرالية، كما وجدناها في ألمانيا الهتلرية أو إيطاليا الفاشية أو اليابان العسكرية، وكذلك في البرتغال وإسبانيا في فترة حكم سالازار وفرانكو، وكذلك في الولايات المتحدة بالمؤسسية العنصرية التمييز العنصري. كما يمكن القول إن ما حصل في الاتحاد السوفييتي في فترة حكم ستالين على نحو خاص هو من نوع الأيديولوجيا المؤذية حقاً، بما انتجته من عقدية وكأنها دين وعبادة الفرد. أي أيديولوجية حين تتحول إلى عقيدة إيمانية لا تختلف عند ذاك عن أي دين. وفي قناعتي الشخصية أن الفكر الاشتراكي أو الشيوعي المبني على أسس علمية ومعرفية، وبالتالي إلى فكر قابل للخطأ والصواب والتغير بتغير وتطور العلم والمعرفة، لأن الماركسية بالأساس منهج علمي للتحليل، أي لعملية تجريد وتجسيد متعاقب وتدقيق، وبالتالي فهي ليست قوالب جاهزة وجامدة، وليست نظرية إيمانية، بل لا بد من التعامل معها بفكر حر ومنفتح على الآراء وديمقراطي. ليس الفكر الاشتراكي فكراً شمولياً مطلقاً، فكتابات ماركس بعضها شاخ وبعضها الآخر قابل للتطوير والنقد وبعضها قابل للاستفادة منه، لأنه وضع كمنهج علمي والمنهج العلمي يتطور بتطور العلوم والمعارف والتقنيات ويرتبط بقرات الإنسان ووعيه للقوانين الموضوعية الفاعلة.
حين تكون هناك عقيدة ثابتة لا تتغير كالديانات، عندها يمكن أن نعتبر المؤمنين قطيع في حظيرة يساق كما يريده لهم شيوخ الدين المسلمين أو رهبان الكنائس المسيحية أو حاخامات الكنيس اليهودي أو قادة الأيديولوجيا. وهذا يمكن أن يحصل في الأحزاب التي تتخذ من الإيديولوجيات عقيدة غير متحركة جامدة ويصبح كدينٍ لها، لا يقبل الخطأ والصواب ولا يتغير! أي حين تضعف الاستقلالية الفكرية والقدرة على ممارسة النقد أو تنتفي الحرية الفردية في التعبير عن الرأي ونقد الرأي الآخر، حين تبدأ مخاطر تحول الأيديولوجيا إلى خطر داهم.
المسألة الثانية: الدين أفيون الشعوب
في الفقرة المعنونة “بعض الجوانب المشرقة في عقوبات الجحيم” كتب الزميل مهدي يقول: “إذا تجاوزنا القول الجاهز إن الدين أفيون الشعوب” فسنجد أن الدين رسم كل معالم العالم القديم:…”. (مهدي، تاريخ الخوف، ص 187). هذا اتهام باطل لماركس. وليس هذا دفاع عن باطل من جانبي، فلم يكن قول ماركس “الدين أفيون الشعوب” جاهزاً، كما يعتقد الزميل الدكتور فالح مهدي، بل جاء نتيجة معرفية جيدة بالدين وأسسه وبالمجتمع البشري وبدور الدين عبر المراحل التي مرّ بها وكيف استخدم ويستخدم في نشر الغباء في صفوف المؤمنين بالدين، والذي أشرت إليه في الحلقة الأولى من هذه القراءة للكتاب. وهذا لا يعني أبداً بأن ماركس لم يخطئ في مسائل معينة مثلاً. ولكن يبدو لي بإن الكراهية، وليس الموضوعية، التي تميز بها موقف الزميل مهدي من الماركسية هي التي تجعله يقرأ العبارة السابقة وكأنها فكرة “مسبقة الصنع”، جاهزة، من جانب كارل ماركس ولا تستند إلى تحليل علمي ومعرفي. وأعتقد بأن شيوخ الدين في كل الديانات ذات العقل والحيز الدائريين يروجون لهذه الفكرة أيضاً، في محاولة للإساءة للماركسية. إن الابتعاد عن الفهم العقلاني للجملة وإخراجها من السياق الذي وردت فيه يبدو وكأن ماركس لم يميز بين الجوانب المختلفة التي برزت في الدين، رغم أن الدين، أي دين، مناقض للعقل، رغم كونه نتاج عقل الإنسان نفسه في المراحل الأولى من وجوده الأول. ولم يكن في البداية سوى رؤية حمائية من مخاوفه لما كان يراه وما تواجهه من مشكلات يعيش معها في الطبيعة ويسعى لفهمها وتفسيرها. فالدين كان وسيبقى سلاحاً بأيدي شيوخ الدين والحكام يمكن استخدامه لنشر الغباء والخضوع والخنوع في صفوف الناس، يستخدم كأفيون، كمخدر ضد وعي الإنسان لأوضاعه وما يعانيه من ظلم وقهر وفقر غياب للعدالة.
المسألة الثالثة: صناعة الخوف
لخص الزميل مهدي بصواب كبير مجموعة من المرتكزات المهمة التي تكشف عن الجوانب السلبية الجوهرية في الدين، إلا أنه لم ينس، كأي باحث علمي، الإشارة إلى الجوانب الإيجابية للدين عبر المكان والزمن. فالقاعدة الأساسية التي تحكم الدين هي المقايضة: اعبدني وأطعني وكن عبدي، ستتمتع بثواب كبير، وسيزداد الثواب كلما ازدادت طاعتك وعبوديتك للدين، أو للإله أو للآلهة، أو للحكام وكلاء الله في أرضه. إنها أشبه بعملية “بيع وشراء”، إنها ذهنية بقالية معروفة في المجتمعات القديمة والحديثة في آن واحد. وأن لم يقم الفرد بما يمليه عليه دينه يأتي دور الابتزاز، وهي القاعدة الثانية الأساسية، إذ سيكون مكانه ومصيره في جهنم وبئس المصير. ولكي يتخلص من جحيم الآخرة ويمنح مفتاح الجنة، نجد أن شيوخ الدين والحكام معاً أحياناً كثيرة، يدفعون الإنسان إلى خوض غمار الحروب باسم الدين والمذهب لينتهي بالموت في جحيم الحروب الاستعمارية قبل جنة الآخرة، كما حصل منذ فجر الإسلام أو بالنسبة للدول الاستعمارية في العالم القديم والحديث أو المعاصر. ثم يضع الباحث أمامنا بقية المرتكزات كالتكرار والشفاعة، ثم العواقب المترتبة عن كل ذلك. والسؤال الذي يدور في البال حين تدرك جمهرة كبيرة من شيوخ الدين والساسة المسلمين كل تلك العقوبات الإلهية التي تنتظرهم في يوم القيامة، يوم الحساب، أمام ربهم الذي يعبدون، فلماذا يمارسون كل تلك الموبقات والفساد والإجرام، هل هذا يعني أنهم غير مؤمنين بما يعبدون أم ماذا؟ يدور بخلدي مثلاً ما جرى ويجري في إيران منذ 1979 حتى يومنا هذا أو ما جرى ويجري في العراق منذ احتلال أسيادهم العراق والتحكم في مجرى تطوره، أو ما يجري في جميع الدول العربية دون استثناء؟ لقد شخص الدكتور مهدي بصواب ووضوح في هذا الجزء من الكتاب جوهر العملية الدينية وعلاقتها بالمكان والزمان ومخرجاتها.
المسألة الرابعة: الخوف السياسي
يعم العالم العربي وكثير من بلدان العالم الثالث، إن لم نقل كلها، خوف سياسي متباين في شدته وعمق تأثيره على الفرد. والخوف السياسي هو الوجه الثاني للخوف الديني، وهو مأخوذ عنه وملتصق به وخاضع له وأحياناً مستقل عنه رغم كونه جزءاً منه. وكما شخص الدكتور فالح مهدي بصواب، على الأقل فيما يخص دول الشرق الأوسط، ومنها كل الدول العربية، إذ أن الحاكم فيها، سواء أكان يرى في نفسه خليفة وسلطاناً جديداً، كما الأمر مع السلطان والدكتاتور التركي الجديد، أم مع الولي الفقيه والمرشد الأعلى الدكتاتور علي خامنئي، كما في إيران، أم ملكاً وخادماً للحرمين، كما في ملوك السعودية، أو رئيساً في دولة جمهورية، كما كان محمد حسني مبارك والدكتاتور الجديد عبد الفتاح السيسي، كما في مصر، أم شيخاً وأميراً كما في دول الخليج..، كل هؤلاء وغيرهم يرون في أنفسهم أنهم وكلاء الله في أرضه، ومسؤولون عن أموال الله يتصرفون بها كملك خاص بهم ولهم يوزعونها كما يشاؤون، ويتصرفون بالبشر كقطيع في حظيرتهم يذبحون فيهم متى يشاؤون ومن يشاؤون فلا رادع لهم، فهم وكلاء الله في أرضه. إنها الكارثة الكبرى السياسية التي ارتدت وما زالت ترتدي لباس الدين، فهو الأقرب إلى فرض الخضوع للعقل الدائري الفردي والجمعي. وهذا ما شخصه الزميل مهدي بطريقة علمية موفقة. فهو يقول:
“نعم هناك علاقة قربى حميمية بين الخوف الديني والسياسي، فرئيس الجمهورية، أو الملك أو السلطان، خلفاء الله فوق الأرض، ويتوجب طاعتهم حتى لو كانوا الأكثر إجراماً. ذلك أن عمودية السلطة سياسياً ودائريتها اجتماعياً تدفع إلى الخوف في العالم السياسي”. (مهدي، الكتاب). حتى لو كان الفرد غير مؤمن بذلك وليس جزءاً من قطيع في حظيرة الملك أو الحاكم أياً كان اسمه، فهو خاضع للقوانين التي أصدرها الحاكم المتحدث بمصالح الفئة الحاكمة والمستغِلة للشعب وثروة الوطن. هكذا كان الوضع في العراق مثلاً، وهكذا هو الآن، وحين يتغير الوضع لصالح العلم والمعرفة، حين يتغير وعي الإنسان وإدراكه لدور العقل وعلاقته بالعلم وليس للدين وعلاقته بالأساطير، عندها يمكن أن تتحول الحالة إلى حالة نوعية أخرى. إنها عملية صيرورة وسيرورة جدلية مديدة عرفتها شعوب أوروبا الغربية ولم تشهدها شعوب الشرق الأوسط عموماً حتى الآن.
المسألة الخامسة: الخوف من الموسيقى
يبدو لي أن رجال الدين المسلمين في أغلبهم وبشكل عام، سواء أكانوا سنة أم شيعة، يُحرمّون الاستماع للغناء والموسيقى. ولكل قاعدة شواذ، حيث نجد بعضهم لا يُحرّم الاستماع للموسيقى أو ممارسة العزف أو الغناء. ويبدو أن أغلب شيوخ الدين المسلمين لم يدركوا إن صرخة الوليد عند خروجه من رحم أمه هي أول الأصوات الموسيقية التي ترن في أذن الطفل وأمه ومن يحيط به عند ولادته وتنطلق من حنجرته وتعلن عن وجوده في هذه الحياة. وبالتالي تصبح الموسيقى جزءاً منه، وحين يتخلى عنها يتخلى عن جزءٍ أساسي منه ومن تكوينه الثقافي والفني. شعب سومر العظيم اكتشف الات موسيقية عديدة ولكن أعظمها الهارب أو “الهارفة” واختار لها شكلاً جميلاً مغرياً للعزف عليها والاستماع للأنغام التي تصدر عنها. هؤلاء المتدينون الذين يرفضون الموسيقى لا يرفضونها بالمطلق فهم يشاركون في استخدام الطبول والصنجات وآلات أخرى في مسيرات التعازي الحسينية، إلا أنهم ضد موسيقى الحب والحياة والطرب والانتعاش النفسي. كما أنهم لا يحرمونها في الدنيا الآخرة، فهناك كل شيء مباح، لأنها من صنع خيال الإنسان الخصب وغير موجودة، وهم كرماء فيما لا يملكون وبما هو غير موجود، ولكنهم يدعون الناس الفقراء والمحرومين في الحياة الدنيا إلى الهدوء والسكينة والقبول بما هو مقسوم من فقر وبؤس وحرمان!
من لا يستمع إلى الموسيقى يفقد شيئاً كبيراً وأساسياً منه، ولا يعد إنساناً كاملاً بل ناقصاً، إنها جزء من الإنسان وثقافته ووجوده. هذا هو حال كثرة من سياسيي العراق “المتدينين” المتخلفين منهم. وكم كان غبياً وراغباً في التقرب إلى المرجعية الدينية الشيعية وإلى المتدينين المتخلفين منهم حين أكد حيدر العبادي أنه لا يتعاطى الموسيقى، وكأنه يقول “أنا لا أتعاطى الخمرة” المحرمة في القرآن! ونسى ما قيل عن العراقيين في عشقهم للموسيقى، وكذلك للعرق. فعلى سبيل المثال قال ابن خلدون عنهم ما معناه: العراقيون كانوا أذكياء فلم يطلقوا اسم الخمرة على الكحوليات، بل اسموها “عرق” وهو غير وارد تحريمه في القرآن. كما أن العراقيين يطلقون عليه حليب السباع، وقول شاربيه “ما طول بالنخل تمر ما جوز من شرب العرق”. الموسيقى تنعش العقل وتهذب الروح، وهي زاد عظيم للإنسان قل نظيره لمن يستمع إلى الموسيقى أو يمارسها.
المسالة السادسة: وهم المملكة الخامسة-الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً
السؤال المهم الذي تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ هذه الفقرة من الكتاب هو: هل المحرك الأرأس للنظام الرأسمالي العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية هو الدين وما ورد في العهد القديم من رؤية دينية للملكة الخامسة، أم إنها المصالح الاقتصادية للقوى الاستعمارية القديمة والحديثة في ظل نظام رأسمالي استغلالي متوحش؟ إن الغوص في المسائل الدينية والبحث فيها مهم ومفيد وضروري أيضاً يفترض أن لا يحرمنا من رؤية ما وراء الدين، أي ضرورة أن نرى الدين كوسيلة واحدة مهمة من الوسائل التي عمل بها الأمريكيون الأوائل الذين هاجروا من أوروبا إلى القارة الأمريكية وقادوا البلاد حينذاك وماروا كل الموبقات والجرائم للسيطرة واجتثاث أكبر عدد ممكن من سكان البلاد الأصليين، وما يسعى إليه القادة الجدد، أولاد وأحفاد هؤلاء القادة في ظل النظام الرأسمالي الاحتكاري وفي ظل العولمة الرأسمالية على صعيد العالم كله لا يختلف في الجوهر عن أولئك، إنه الاستغلال والهيمنة والسيطرة على العالم
علينا أن نتذكر الرؤية الخاطئة التي خرج بها علينا الأستاذ الجامعي الأمريكي صموئيل هنتنكتون (1927-2008م) والتي أطلق عليها “صراع الحضارات”، أو الثقافات، لاسيما الثقافات الثمانية العالمية وبشكل أخص بين الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية، التي حاول فيها تجاوز الصراعات الطبقية ودور العلاقات الاستغلالية ومحاولات الهيمنة في المجتمعات الرأسمالية عبر الصراعات الجارية على الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، كما علينا أن نتذكر نظرية الأستاذ الجامعي الأمريكي فرنسيس فوكوياما (1952م) عن نهاية التاريخ بعد انهيار النظم الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، واعتبار الرأسمالية هي الحل النهائي للعالم ثم تراجعه عن هذه النظرية التي انطلقت من رحم مفكري البرجوازية الأمريكية والمدافعين عن الاستغلال الرأسمالي. من الممكن ان يلعب الدين دوره في تأجيج الصراعات، ولكن ما هي الخلفية التي تقف وراء الدين أو المذهب، إنها المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية على هذا البلد أو ذاك أو على الإقاليم والعالم. هل إن ما يحرك إيران هو المذهب حقاً أم الرغبة الجامحة في السيطرة على الدول العربية وفي الصراع للسيطرة على الشرق الأوسط وإعادة بناء الإمبراطورية الفارسية؟ هل إن ما حرك الصراع الفارسي-العثماني هو المذهب على امتداد مئات السنين أم المصالح الاستعمارية في السيطرة على العراق مثلاً؟ وهل ما يحرك القادة الترك هو الدين والمذهب أم محاولة استعادة المستعمرات العربية للدولة العثمانية الجديدة؟ ويمكن أن نورد أمثلة كثيرة منها غزو مناطق واسعة من العالم من قبل القوات الإسلامية منذ أن بدأ ما أطلق عليه بـ “الفتح الإسلامي” لنشر الدين، ولكن في حقيقته كانت الرغبة في التوسع على الأرض والهيمنة والاستعمار وفرض السيطرة على شعوب أخرى وإخضاعها لعرب البادية المنحدرين من الجزيرة العربية.
حين نقرأ لما نشره فاليري جيسكار ديستان، (1926-2020م) رئيس فرنسا الأسبق، حول اتصال جورج دبليو بوش (1946م) تلفونياً به وبحث معه شأن الحرب ضد العراق وحديثه معه عن جيوش جوج مأجوج العراقية التي تهدد إسرائيل! لقد كان بوش الابن مهووساً بالدين وبنشر النموذج الأمريكي للحرية في العالم، إنه لم يكن راغباً بنشر نموذج الحرية الأمريكية في العراق بل كانت الرغبة في الهيمنة الاستعمارية على العراق، وكذل الموقف من منطقة الشرق الأوسط. بهذه الصورة كما أرى يفترض أن نواجه حقائق الأمور الجارية في العالم. وهذا الموقف الاستعماري لا يمثل كل الشعب الأمريكي بل يعبر بشكل خاص عن مواقف وأهداف وسياسات قادة النظام الأمريكي والاحتكارات الرأسمالية الأمريكية العابرة للقارات.
ليس كل اليهود في إسرائيل متفقون مع سياسة نتنياهو اليمينية المتطرفة أولاً، وأن السياسة التي يمارسها نتنياهو في إسرائيل لا تلتقي بالضرورة في جانبها الديني مع سياسة قادة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، بل الأساس هو الجانب السياسي – الاقتصادي والرغبة الجامحة في الهيمنة على هذه المنطقة الحيوية والغنية بالثروات من العالم، وفي الصراع مع الدول الناهضة الجديدة المنافسة للولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما الصين.
نعم، يلعب الدين دوراً محفزاً مرة ومخدراً مرة أخرى، إيجابياً أحياناً وسلبياً في الغالب الأعم، وهو خاضع باستمرار للمصالح الاقتصادية والاجتماعية، ولن يحل محلها، بل هو وسيلتها المهمة لتحقيق تلك المصالح الفئوية أو الدولية.
المسالة السابعة: الرحمة مقابل الخوف
طرح الزميل الدكتور فالح مهدي رؤيته العلمية لمفهوم الرحمة وناقش فيها رأي الدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي انطلق من أرضية دينية وعقل ما يزال دائرياً، كما أرى، رغم تعمق الأخير في دراساته الفلسفية والكتب والمقالات الكثيرة التي صدرت له، لكنه لم يستطع الخلاص من العقل أو الحيز الدائري الذي يميز عقل وتفكير أتباع جميع الديانات الإبراهيمية، ومنها الإسلام.
ليس الرحمة، هي المبدأ الأساس الذي يفترض أن يسود في المجتمعات البشرية، بل العدل، وهو أساس الحكم أيضاً. وحين يغيب العدل يبرز أمامنا مصطلح الرحمة. وينطبق هذا على مفهوم التسامح. لا نحتاج إلى التسامح حين يكون هناك اعتراف واحترام متبادل بين الناس، سواء أكان بين الأتباع القوميات أو الديانات أو المذاهب. وحين يغيب الاعتراف المتبادل يظهر مصطلح التسامح. حين تسود الحرية تنتفي العبودية، وحين تسود العدالة ينتفي الظلم. وليس في رؤية الدكتور عبد الجبار الرفاعي ما يميزه عن أتباع العقل الدائري في الموقف من الرحمة، وبالأساس من النبي محمد أو الإسلام أو من الفتح الإسلامي الذي اقترن بالحروب وقتل البشر واحتلال الأرض واغتصابها واستغلال الشعوب والقبول بعبودية الذكور والنساء (الإِماء). حين يغيب الود أو الحب تسود الكراهية. وغياب العدل ينمي الكراهية وينشط الأحقاد…إلخ. متى تظهر “الرحمة، التي يطلق عليها الدكتور الرفاعي بأنها، صوت الله ومعيار إنسانية الدين.”! أود أن أشير هنا إلى واحد من المواقف التي تسمى “رحمة”: حين يسود التمايز بين البشر وتتسع الفجوة الدخلية ومستوى الحياة والمعيشة، وحين يسود الفساد المالي، وحين تنتشر البطالة ويسود الفقر نسبة عالية من بنات وأبناء المجتمع، عندها تظهر مجموعة من الأغنياء التي تتبرع بوجبة غداء أو عشاء للفقراء والمعوزين والمحرومين من وجبة طعام ساخنة. هكذا يسمون هؤلاء بالرحماء. لكن هل كان يظهر هؤلاء الأغنياء رحماء لو ساد العدل بين البشر، والعدل الاجتماعي هنا لا يعني كأسنان المشط. فالرحمة تبرز حين يغيب العدل وتغيب المساواة وتتسع الفجوة، كما هو الحال في المجتمعات البشرية الراهنة كلها دون استثناء.
لقد اقترن اسم الله بالسيف في الإسلام دائماً وهو مازال كذلك، وهو الذي يجسده علم المملكة العربية السعودية “لا إله إلا الله محمد رسول الله – السيف”. وهذا ما تمارسه اليوم قوى الإسلام السياسي (الدواعش) التي غزت واجتاحت واحتلت الموصل وعموم نينوى. وهذه الرؤية الإسلامية والسلوك المتوحش نجده في عيّاري العراق الراهن، عيّاري فترة الردة الفكرية والاجتماعية في العراق، في الميليشيات الطائفية المسلحة التي ترفع راية الإسلام وتحتمي بالمذهب، ولكن هدفها السلطة والنفوذ والمال، أي الهيمنة.
المسألة الثامنة: السبّي البابلي
يقول الكاتب الأستاذ مهدي “إن وجود اليهود في بابل لم يكن سَبَّياً لأنهم لاقوا حسن المعاملة على العكس مما يذهب إليه العهد القديم.”. اختلف مع الجزء الأول من هذا النص، وأتفق معه في الجزء الثاني منه. فالمعلومات المتوفرة في كل الكتب التي بحثت موضوع الغزو البابلي للمدن اليهودية تشير إلى حصول سبّيٍ لليهود بعدد يصل إلى عشرات الآلاف، إضافة إلى قتل ملوكهم والمدافعين عن مدنهم. ماذا يعني، أو ماذا يمكن أن نطلق على عملية نقل عشرات الآلاف من البشر من دين معين أو قومية معينة بالقوة العسكرية وعبر الحروب والانتصار فيها من بلدهم إلى بلد آخر ومنعهم من مغادرة المكان الذي نقلوا إليه والعودة إلى المكان الذي ولدوا فيه؟ هل هذه نزهة وتغيير أجواء لهم أم سبياً فعلياً لهم؟ لقد درست هذه القضية بإمعان كبير وتدقيق وأنجزت بعده كتاباً بعنوان ” “يهود العراق والمواطنة المنتزعة”، عام 2015، وفيه أشير إلى تلك الحروب وعددها وعدد المرات التي تم سبي اليهود فيها وجلبهم إلى بلاد ما بين النهرين وتوزيعهم على مناطق عدة منها بشكل خاص بابل وعانة والمناطق المحيطة بها أو في منطقة كردستان من العراق. وقد حُرّمت عليهم العودة إلى بلادهم. ثم سمح لهم في فترة حكم الفرس (الساسانيين مثلا) وعاد البعض منهم وبقي الكثير منهم في بابل أو في المناطق الأخرى. وكان الصواب في رأي الزميل مهدي هو أنهم عوملوا معاملة اعتيادية. ولكن الغزاة البابليين لم يكونوا رحماء مع من قاوم الغزو او رفض الخضوع لهم.
وأخيراً، في هذا الكتاب الصغير حجماً كثير من المسائل الفكرية والاجتماعية والسياسية المهمة التي تستحق وتستوجب النقاش وإبداء الرأي. وفي هذا تعبير عن غنى الكتاب وأهميته. كما أتمنى ان يصبح موضوعاً للنقاش من قبل كتاب ونقاد لا من العراقيين فحسب بل ومن قراء وقارئات العربية. فهو كتاب تنويري مهم وقيّم.