بكاء صمت العراقيات .
«لأن الكلام عنك صمت، نرى وجوهنا في مرآتك، هذه هي أنت مرآة دموعنا، مرآة ترانا. لأن الكلام عنك صمت لا قياس لآلامنا، من يستطيع أن يقيس الصمت، من يستطيع أن يقيسنا؟». هذه سطور من مقطوعة أدبية وحيدة كتبتها خلال عملي محرراً للعلوم والتكنولوجيا، وذلك إثر القصف الأميركي لبغداد في حملة «ثعلب الصحراء» عام 1998. نُشرت المقطوعة مع تخطيطات للفنان العراقي العالمي ضياء العزاوي، وفيها وصفُ بكاء صمت العراقيات حتى الآن. «لأن الكلام عنك لا يكون إلا صمتاً يبكي الرمل الخالي، أيها الرمل الخالي.. من أين لعينيك هذه الدموع؟».
وفي 24 مارس 2016 كتبتُ عنها هنا مقالا عنوانه «عيد الأم العربية المُعَمّرة» ذكرتُ فيه: «عندما أرادت صفية السهيل، سفيرة العراق الجديدة في العاصمة الأردنية، الاحتفالَ بيوم المرأة، طلبت من الحاجة (أم سعد) أن تدعو لها نساء المجتمع العراقي في عمّان. وأم سعد أبعد ما تكون عن الصورة التقليدية لسيدات المجتمع، فهي تغسل وتكوي ملابسها بنفسها، وتبدأ يومها بصلاة الفجر، وبعدها الهرولة داخل حديقة المنزل». وفي الشهر الماضي هرولت الحياةُ بها وغادرت «أم سعد» عن عمر ناهز 94 عاماً.
وبكاء صمت العراقيات عبَر القارات، ففي الشهر الماضي قرّر مجلس بلدية مدينة قرطبة في إسبانيا إطلاق اسم «نُهى الراضي» على أحد شوارعه. و«نُهى الراضي فنانة البقاء العراقي الجميل» عنوان مقالة عنها منشورة هنا إثر وفاتها في أغسطس عام 2009. وإلى أن يحلّ الموت، كلّها حياة جميلة. فالرسم والنحت والخزف والطباعة الفنية، حتى الكتابة بالنسبة لنهى الراضي فقرات في مهرجان حياة يومية تمضي رغم أنف الحرب والمنفى، إذا صح التعبير. مهرجان يومي لحياة مبدعة ضد العسف والكذب والنفاق والحظر والنهب والخطف والقتل. كتابها «يوميات بغدادية»، الذي تُرجم إلى عدة لغات، وجاء ضمن قوائم أفضل الكتب مبيعاً، يبدو كسجل عائلي لتوافه الأحداث اليومية. الأمسيات البغدادية مع العائلة والأصدقاء، وولائم الشواء في الهواء الطلق، والاعتناء بالمزروعات والزهور، ومراقبة الطيور والنحل والفراشات، وملاحقة الأفاعي والفئران والحشرات المنزلية، ومشاحنات لا نهاية لها مع كلبها الشقي «سلفادور دالي». أجل، الكلب يحمل اسم الفنان السريالي المشهور، ويقيم مع نهى في بستان صغير شمال بغداد «فيه 66 نخلة و161 شجرة برتقال وفحول ثلاثة من النخيل الذكور.. الوحيدون المقيمون»، بعد أن هرب الجميع، إما إلى الخارج أو إلى أعماق الريف العراقي.
وإلى أن يحلّ الموت، كلّها حياة جميلة، وفي تسجيل تفاصيلها اليومية تكمن «عبقرية» نهى الراضي. فاليوميات التي شرعت بكتابتها في اليوم الثالث لحرب عام 1991 يراها المحرر الأدبي لصحيفة «نيويورك تايمز» «تعهداً بالحفاظ على توافه الحياة اليومية في مواجهة 42 ليلة متواصلة من قصف الحلفاء». فن البقاء العراقي الجميل أنقذ نهى الراضي من تعاسة «عزيز قوم ذُلّ». فهي امرأة موسرة ومثقفة، أبوها شغل منصب سفير العراق في الهند فترة 10 سنوات خلال العهد الملكي، وقد درست الفن ودّرسته في أرقى المعاهد الغربية والعربية، بينها ورشة الخزف المشهورة في تشلسي بلندن، والجامعة الأميركية في بيروت. و«يوميات بغدادية» التي كُتبت ونُشرت أصلا بالإنجليزية، تروي كيف أعادت الحرب نساء النخبة البغدادية المثقفة إلى «الحياة الفلاحية الشاقة جداً، حيث العمل لا يتوقف أبداً»، ووسائل العيش البدائية للطبخ وصناعة الخبز وزراعة الخضروات وحمل الماء بالدلاء من النهر.. كل هذا «يكون أحياناً مصحوباً بقصف جوي وأحياناً أخرى لا يكون». وفي تقييمه لليوميات، ذكر المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد كيف فتّش «عن كتاب صادر حديثاً يصف العراق كبلد حقيقي، وليس كمجرد هدف استراتيجي للولايات المتحدة، فلم يجد سوى هذا الكتاب الممتاز».