كاظم حبيب
المثقف والشاعر والمناضل ألفريد سمعان في ذمة الخلود
[توقف قلب الشاعر المرهف ألفريد سمعان (أبا شروق) صباح هذا اليوم المصادر 05/01/2021 عن الخفقان وخسرنا به إنساناً كبيراً ونبيلاً، وشاعراً مجد الحب والوطن والشعب، مجد الإنسان المناضل ونضال بعناد من أجل وطن حر وشعب سعيد. في كتابي الموسوم: “مسيحيو العراق… أصالة… مواطنة…انتماء” نشرت المقالة الآتية عن صديقي ورفيقي الشاعر الفريد أعيد نشرها كما جاءت في الكتاب].
ولد ألفريد سمعان في عام 1928 بمدنية الموصل، ولكنه تنقل بين مدن كثيرة، منها البصرة وبغداد، بحكم وظيفة والده العسكرية. وببغداد العاصمة حط رحاله فيها حتى الآن. حصل على شهادة ليسانس حقوق ببغداد، ودبلوم عال في التخطيط من معهد الأمم المتحدة بدمشق. مارس العمل الصحفي في صحف ومجلات عديدة منذ العام 1952 في مجالات الأدب والرياضة والسياسة. وكان سكرتير تحرير مجلة الثقافة الجديدة لسنوات كثيرة في سبعينيات القرن الماضي وفي ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد أثناء حكم دكتاتورية حزب البعث وصدام حسين.
برزت موهبته الشعرية مبكراً وبدأ بكتابة الشعر ونشر قصائده الشعرية الحديثة، حيث صدر أول ديوان له في العام 1952 وكتب الشاعر الكبير بدر شاكر السياب مقدمة لهذا الديوان. التحق في وقت مبكر بالحركة السياسية اليسارية العراقية، وكان على مقربة من الحركة النقابية العمالية بالبصرة. وتعرف على الكثير من الشعراء والكتاب العراقيين البارزين، الكلاسيكيين منهم والمحدثين، وكان على علاقة حميمة مع الشاعر محمد مهدي الجواهري، وهو يعتبره أبرز شعرا العرب وأكثرهم غنى. كما كتب القصة والمسرحية والمقالة السياسية والثقافية والاجتماعية، ولكنه بقي بالأساس شاعراً بارزاً ومميزاً وأصدر “عشرين مجموعة شعرية وثلاث مجاميع قصصية ومسرحية شعرية ومئات المقالات في الصحف والمجلات العراقية والعربية، فأنا اكتب في صحيفة التأخي والحقيقة وفي طريق الشعب”، كما أشار الفريد إلى ذلك في حوار مع الكاتب علاء الماجد “بمناسبة صدور ديوانه الشعري (لائحة اتهام) وكتاب (مع المسيرة الثورية.. الخطوات الاولى).” في أيلول/سبتمبر من عام 2016 1 ، صدر عن دار الرواد المزدهرة السيرة الذاتية للشاعر والمناضل ألفريد سمعان حيث كتب يقول: ” لا أدري من أين أبدأ؟ … يرافقني هاجس وبعض الاعتذار لكي لا تكون هذه الكلمات أغنية أترنم بها وأتباهى أمام الآخرين، لأني أعلم أن لكل مناضل في هذا الوطن قصة، ولكل منهم خطوات أولى… وأكثر من ذلك لهم مواقف وبطولات لم يسمح لهم الزمن والظروف… وربما الاستشهاد بأن تروى ..).2
نذكر هنا البعض من دواوينه الشعرية:
في طريق الحياة (1952)، رماد التوهج (1957)، كلمات مضيئة (1960)، طوفان (1962)، أغنيات للمعركة (1968)، عندما ترحل النجوم (1971)، مراحل في دروب الآلام (1974)، الربان (1976). السنبلة (1999)، هم يعرفون (2010)، التعب المسافر (2006)، القطار (2011)، الطيور (2013). ليمونا مسرحية شعرية، كما وضع دراسة اقتصادية بعنوان: صناعة السكر في العراق.
الشاعر الفريد سمعان يعتبر رمزاً مميزاً من رموز الحركة الوطنية العراقية في نضالها المديد والمرير لتأمين مصالح الشعب وطموحاته في الحرية والديمقراطية والحياة الدستورية وممارسة حقوق الإنسان وحقوق القوميات. لقد تبنى ومنذ صباه الفكر التقدمي (اليساري) الذي اقترن بفكر ونضال الحزب الشيوعي العراقي وعرف منذ مشاركته في وثبة كانون الثاني عام 1948، ومن ثم في عام 1952 وفي العام 1963 على إثر انقلاب 8 شباط الدموي، وعاني في كل هذه المراحل من التعذيب والحرمان مع رفاقه المناضلين، كما كان أحد أبطال قطار الموت الذي نظمه ونفذه البعثيون والقوميون في صيف عام 1963 ليغادر بغداد باتجاه سجن نقرة السلمان، بأمل أن يموت الجميع في قطار التحميل الحديدي الموصدة أبوابه في شهر تموز اللاهب. وكان عدد الشيوعيين المحشورين في هذا القطار 500 مناضل مدني وعسكري، بينهم العامل والكادح والكاسب والطالب والمعلم والمثقف، بينهم الشاعر والكاتب والروائي والعالم، بينهم المهندس والطبيب والاقتصادي والمؤرخ…، وبينهم المسلم والمسيحي والمندائي والإيزيدي، وبينهم الكردي، ومنهم الكردي الفيلي، والعربي ومن قوميات أخرى ومن مختلف الأعمار.
لقد كان الفريد سمعان، وفي فترات مختلفة، واجهة نضالية متميزة للمثقف العضوي المناضل بحماس وصلابة. فكان سكرتيراً لهيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة في ظروف حرجة وتحمل المسؤولية بجدارة رغم المصاعب الجمة التي رافقت فترة العقد الثامن من القرن العشرين، وكان مقر مجلة الثقافة الجديدة ملتقى المثقفين والشعراء والكتاب والأدباء عموماً. وكان الشاعر حسين مردان أحد رواد الثقافة الجديدة ليلتقي بصديقه الشاعر ألفريد سمعان.
تحدث ألفريد سمعان عن دور العراقيين المسيحيين في مختلف مجالات الحياة بالعراق فقال:
“كان المسيحيون في العراق خلال القرن الماضي ذا عطاء كبير جداً في مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والصحفية، حيث كان الناقد عبد المسيح ثروت من أوائل من تحدث بالحداثة قبل ثلاثين عاماً، بينما كان عبد المسيح وزير ضابطاً في الجيش العراقي برتبة عميد، حيث قام بترجمة كل أجزاء البندقية وأسلحة المدفعية من الإنجليزية إلى اللغة العربية، بينما كان خالد سارة من الطيارين العراقيين المشهورين وكان آمر قاعدة جوية في محافظة الأنبار. وأضاف: هناك شعراء مشهود لهم، مثل الراحل يوسف الصائغ، وهناك مبدع مسيحي حمل اسم الصائغ أيضاً قام بكتابة رواية مهمة قبل مائة عام بحيث يعتبر عميد الرواية العراقية، وهناك الروائي يوسف حداد من محافظة البصرة، وفضلاً عن ذلك هناك فنانون مسيحيون منهم المسرحي روميو يوسف وريكاردوس يوسف وآزادوهي صاموئيل، كما أن مؤسس الحزب الشيوعي في العراق من الطائفة المسيحية، وكذلك كانت هناك عناصر مسيحية في الحركة الوطنية العراقية لعبت دوراً كبيراً في الدفاع عن القضية الفلسطينية”.3
تجسد دواوين ألفريد سمعان الشعرية شخصية هذا الإنسان النبيل، فهو شاعر الحب والأمل والعمل، شاعر يعيش بين مدينتين ويعشقهما وتغمرانه بالحب والقدرة على العطاء، بين المرأة الحبيبة، والوطن الحبيب، بين الحبيبة أم شروق وبين الشعب الذي لم ولن يكل عن الدفاع عنه وخوض المعارك في سبيله، بين الشعب العراقي وحزب الشعب الذي تبنى نظريته وأهدافه ولاقى الأمرين في سبيلهما. إنه شاعر الحب والمرأة والوطن والشعب، شاعر الخيال الخصب والرؤية الرحبة والمعمقة ورشاقة الكلمة ودفئها. لقد بدأ شعره بهذه المقاطع الجميلة والشفافة التي جسدت منذ البدء مسيرته الشعرية والنضالية:4
سليني كيف تنتصرُ الشعوبُ
ويقصـى عن مواطـننـا غريبُ
ويبسمُ عن سواد الليل فجرٌ
شــفيف النور ليس له نضوبُ
هجرتُ الحبّ لن أبغي حبيباً
فكلّ مناضلٍ عنــدي حبـيـبُ
ثم كانت قصيدة القطار في العام 2011 التي نورد مقاطع منها فيا يلي:5
مسافر مع المتاهات
قطار الحقد والأحزان والخوف
وأصداء الوعيد
المرتعش
يشقّ عبر غابات النخيل دربه
يرشّ بالتراب
أجواء البساتين
وجدران البيوت
كأنها غمائم الإرهاب
لا ندري كيف تعبر الساعات
ما يجري…
إلى أين …؟
قطار الموت … والآهات يمضي
مع شوارد الليل البهيم..
تحدو به …. متاعب
دامية الأوصال …
تخذل الخطى
تسير مثلما
تهيم في فضاء إسراء
الفراشات وباقات النجوم …..
ترتفع الأنفاس
ينساب صرير العجلات
وتحمل الأشياء ظلّ بعضها
وتكتم الأوهام أنغام الرجاء
ماذا يقولون غدا لأهلنا؟
أتموت دون أن يلقي عليك صغارك
نظرة؟
وتصيح زوجتك الحنون
لا ترحل..
أريدك أن تعيش
أريدك أن تظلّ معي
تحاورني … تقبلني
تناديني..
أريدك يا حبيبي
فكيف ترحل..
كيف ترحل
الموج والطرقات والأشواق
أنجم الغد
والحياة
ونورد أخيراً رائعته الجديدة “الطيور” التي نشرها في ديوان بتاريخ 2013:
الطيور
لا شيء في الأفق
وللأرض التي نسكنها
وتحتوي الأخطاء والأحزان
وكل ما تكتمه
رغائب دامية مغموسة بالغدر
والأحقاد
والقتل وحب الذات
واللعب على الحبال
والمحرمات
نائمة بغبطة فاحشة بين الضلوع
منذ آلاف السنين
لا أدري كيف غادرت
أعشاشها هذه النجوم
ولا كيف مضت.. لعلها سارت
مع قافلة.. مع الغيوم
لعالم
لا صوت فيه للإرهاب
لا موت يخطف الأرواح من بيوتها
ولا حمايات تصون قصر حاكم
مزيف وأدعياء
بلا هويات ولا أسمال تاريخ
ولا …
يوزعون الموت … والدمار
في ملاعب الأطفال
ولا مسدسات كاتمات الصوت
تسد أبواب الحياة
وتقتل الطقوس … والأنغام والحب
وأفراح الربيع
وتكتم الحقائق التي تشير
بالأصابع البيضاء
للأصابيع الملوثة
،،،،،،،،،،،،،،،،
ما كادت النجوم تختفي
وتهجر الأفق تجاعيد الظلام
تدافعت أنامل غريبة الألوان
تمتطي السحائب السوداء
في بحر الفضاء
تمردت على المسافات
أبحرت على خيول الكبرياء
تفرقت تلك الزهور
عبر متاهات بلا اسيجة
توغلت فيها ظلال الشرفات
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
تنفست أجنحة الطيور … في أعشاشها
وغادرت فراشها في نخلة شامخة
او بين أغصان.. تعيش في أمان
وانطلقت أجنحة فضية
تحاورت أصواتها
لتفترش الدرب بما تهوى
وتفتح الطريق
امام جيش الشمس
كي يمتد في مسارب الشمس
حتى النور للأشياء
والأكواخ … والمزارع العتيقة المخضرمة
وكل ما تحمله مخالب الجوع
للإنسان
للمعذبين
الحالمين بالرغيف والنساء
وشرشف ملون
مع شفاه … امرأة جذابة
ونشوة وأمنيات
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
أواه كانت الخرائب التي تناثرت أحشاؤها
كانت بيوت الفقراء
تهجر في صمت قناديل المساء
وترتدي ثوبا يليق بالأنسام
والعطر
وافياء الصباح
وتفتح الأزقة التعبى
لمن يريد شرفة
للضوء يعشق الأغصان والورود
وباقات الفراشات
وأصداء النواح
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
قولي لنا
أيتها الطيور التي تهيم
دونما رقيب
في عالم بلا شوارع.. ولا أرصفة
ولا علامات مرور
او شرطة مدججين بالسلاح
لكنهم يعاقبون بالرصاص
قولي لنا
أيتها الأجنحة المهاجرة
ردي على أسئلة
تعيش في أعماقنا
كل الطيور
في شتى بقاع الأرض
تشتهي الغناء … والرقص
على الأغصان
أو تناجي بعضها
إلاك … يا طيورنا
فأنت آثرت البكاء والنحيب
(كوكو اختي وين اختي بالحلة
وشتاكل باجلة وشتشرب ماي الله
وين اتنام ابيت الله)
لعل بعض الوفاء
للجثث المقطوعة الرؤوس
والأشلاء
التي تفرقت على بلاط الأرصفة
والتحمت ببعضها
ولم تعد تعرف من هو القتيل
او لمن تعود هذه الأطراف
لم يعد لحم فلان او تلك
لحمه
ولا عيونه التي نعرفها
نفس العيون
فقد تفجرت بالأمس عبوة
مجبولة بالحقد
صبة نارها على الرؤوس
والتحمت ببعضها الأجساد
سالت الدماء
لونت مضاجع الحب
والستائر الجذلى
وأفراح المساء
تبعثرت حقائب الطفولة الملونة
وأطبقت على الملاعب الخضراء
مزقت أحلى الشفاه … والنهود
،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ماذا نرى؟
ماذا تقولون يا أحبتي؟
الطيور حول ما يجري
وأنتم تعلمون أنهم يلوحون بالسيوف
لعلهم لا يعرفون
ان الصواريخ التي تأتي بلا إجازة ولا مواعيد
ودون ان تعلن عن وجودها.. جبانة
تريد ان تقنع من يرسلها
بأنهم سحابة في للموت
تغتال الحدائق الغناء
او تحاول الرقاب بالسكين
حيث يرسم الأوغاد أمجادا لذبح الأبرياء
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يا أيها المتوضئون
بالقتل والرعب وإهدار الدماء
لكل صرخة صدى
لكل مقلة دموع
لكل شلال هدير صاخب
لسوف تأتيكم غدا
رسائل الحقد العراقي الأصيل
وسوف تنهال على أوكاركم
عواصف من الغضب
غدا تمزق الإرادة الشماء
رايات الدمار
غدا يقودكم الى مزبلة التاريخ
جيش الشرفاء
،،،،،،،،،،،،،،،
صبرا
عرفناكم ومن تكونون
ومن يأتي بكم الى ديارنا
أي سقوف للعار تأويكم
وتحمي مضجع الآثام
والدناءات … وأسرار السقوط
اجل عرفناكم
جئتم مع قوافل الرعب
تمضغون لقمة ملوثة
مكشوفة صارت مراسيم الأكاذيب
صرتم فوهة للعار
أقزاما
وفرسان انتهاكات
لصوصا أدنياء
،،،،،،،،،،،،،
أيتها الطيور
احملي أنفاسنا الى بيادر الحب
الى خمائل اللذات
والجنائن المعلقة
وضمدي الجراح والآهات
بباقات الأمل
وحلقي فوق جباه
الساسة المخضرمين واللصوص
وغردي لفجرنا الآتي
لكل جرح مثخن
لكل ثكلى لا يجف دمعها
لكل طفل أبعدته عبوة ناسفة
عن الحياة والوطن6
المصادر:
[1] أنظر: علاء الماجد، بانورامـا في ضيافة الشاعر والمناضل الفريد سمعان، بغداد في 16 أيلول/سبتمبر 2016.2 أنظر: رياض المعموري، سيرة مناضل ……. سيرة وطن ألفريد سمعان، مركز النور بتاريخ 11/02/2016.
3 أنظر: ناظم ناصر: قراءة في قصيدة الطيور للشاعر الفريد سمعان، موقع المنتدى… في جريدة، 27 شباط/فبراير 2015.
4 أنظر: حذام يوسف طاهر، لقاء مع الأديب الفريد سمعان في ضيافة النور، مركز النور، 25/04/2008.
5 أنظر: أنظر: آوات حسن أمين، دراسة جدل النضال والإبداع، قراءة في قصيدة (القطار) للشاعر ألفريد سمعان، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 370، تشرين الثاني 2014.
6 أنظر: أنظر: ناظم ناصر: طيور سمعا في فضائها الواسع، جريدة الزمان، بتاريخ 4 أذار/مارس 2015.