الجيش العراقي : 100 عام
هوية وتاريخ
ضرغام الدباغ
اليوم تمر ذكرى مئة عام على تأسيس الجيش العراقي. المعطيات معروفة، والشخصيات التي كان لها شرف البدء والإقلاع محفوظة، ونريد الإشارة هنا بالتحديد ملامح الشخصية التي كرست هوية هذا الجيش بشكل خاص، وهو ما جعل منه بفضل قانون التجنيد الإلزامي، مدرسة وطنية، فشل كل من حاول العبث بأسس المدرسة ومقوماتها التي حددت خلال قرن كامل شخصية الجندية العراقية.
التحق إلى الجيش منذ تأسيسه نحو 200 ضابط من رتبة العقيد وحتى الملازم ممن كانت لديهم خدمات ميدانية وخبرة قتالية في الحروب الثمانية، ولاحقا في الحرب العالمية الأولى، ومن بينهم من نال أوسمة وأنواط من دول أجنبية لأدوارهم الهامة في مجريات الحرب في مختلف الجبهات، الأوربية والقفقاس / القرم، وشمال أفريقيا، منهم : جعفر العسكري، ونوري السعيد، وياسين الهاشمي، وطه الهاشمي، وبكر صدقي، وإبراهيم الراوي،(ضباط قادة وأركان)، وضباط برتب صغيرة منهم : صلاح الدين الصباغ، كامل شبيب، محمود سلمان، فهمي سعيد، صالح صائب الجبوري وحسين مكي خماس
كان الرفض العراقي للوجود البريطاني في العراق قد عبر عن نفسه بأشكال مختلفة، كانت ثورة العشرين في مقدمتها، إضافة إلى ضغط النفقات التي تنفقها بريطانيا على قواتها في العراق يقف في مقدمة الأسباب الداخلي والخارجية التي دعت بريطانيا، إلى تحوير سياستها حيال العراق، وإلى منح العراق استقلالاً شكلياً.(1)
وكانت من جملة الأسباب أيضاً التي دعتها إلى تأسيس تشكيلات عديدة من اجل ضبط النظام وفرض السيطرة التامة، كانت نفس الأسباب التي دعتها إلى تشكيل قوات عراقية (هكذا كانت الأفكار البريطانية)، لذلك فقد تضمنت أول حكومة عراقية (قبل الانتداب) وزارة دفاع.
ولكن الإنكليز واجهوا مشكلة نفقات تشكيل الجيش العراقي، وتوصل مجلس الوزراء العراقي المؤقت في جلسته بتاريخ26 / أيار/ 1921 قرار تأسيس الجيش العراقي وسن قانون التطوع للخدمة العسكرية وفي 22 / حزيران/ 1921، ألقى وزير الدفاع خطاباً إلى الشعب العراقي، وأفتتح التطوع في صفوف الجيش.( 2)
لذلك صادق مؤتمر القاهرة على قرار المندوب السامي البريطاني، السير برسي كوكس، تأسيس جيش عراقي مؤلف من 15,000 رجل، واستخدام 15% من الموارد العراقية في هذا المجال، ولكن هذه النسبة تصاعدت فيما بعد إلى 25% . ولكن بريطانيا وتحت ضغط الأنشطة العسكرية الضرورية والحاجة المتزايدة إلى المزيد من القوات اضطرت لتشكيل قوات عاملة تحت قيادتها مباشرة ولكن جنودها من أبناء البلاد أطلقت عليها قوات الليفي(Leives) كما قامت ببناء ستة قواعد جوية معززة بالقوات، وقد انتخبت مناطق استراتيجية لتمركز قواتها.(3)
وإذا كانت الدولة هي البناء الفوقي للمجتمع، وبهذا المعنى هي أيضاً هيمنة الطبقة المسيطرة، وأن طبيعة البناء الفوقي هو انعكاس للنضال الاقتصادي والاجتماعي وتكمن في قواعده. ” أن تمركز سلطة الدولة مع المنظمات التي تقودها، على مبدأ تقسيم العمل، والجيش أحد أهم هذه المنظومات، بالإضافة إلى الشرطة والبيروقراطية، ورجال الدين وكذلك الجهاز القضائي”.(4)
وتضع الدولة في الجيش والشرطة الأهمية الكبرى وهي تحاول لأن تحكم السيطرة على هذه الأجهزة بوصفها قوى مسلحة للدولة من اجل بسط سيطرة قوانينها، وأنظمتها في توزيع الإنتاج، وقمع قوى المعارضة والحركة الشعبية.
” إن تركيز قوى الدولة في المجتمع البورجوازي، (يتكون في مرحلة فقدان السيطرة المطلقة)، في مؤسستان تحظى باهتمام الدولة قبل أي شيء، ألا وهي مؤسسة القضاء والجيش.”(5)
والعناصر الوطنية العراقية اعتبرت أن تأسيس الجيش هو إشارة مهمة من في سياق استكمال شروط تأسيس الدولة، وإن الظرف التاريخي والتطور الداخلي والخارجي الذي قاد إلى تأسيس الجيش العراقي، كان يتألف من عناصر وعوامل عديدة، بل أنه كان ينطوي على تناقضات كبيرة، ففي الوقت الذي أرادت منه سلطة الاحتلال أن يكون عوناً لها على السيطرة على البلاد، أرادت القوى الرجعية المحلية أن يكون القوة التي تحافظ على امتيازاتها، هكذا كانت الواجبات التي من المؤمل أن يتولى الجيش القيام بها، ولكن الجيش الذي كان معظم عناصره من الجنود والضباط الصغار من أوساط الشعب المتطلع إلى الاستقلال والحرية، لذلك كانت الأفكار المهيمنة على قواعد الجيش هي أفكار وطنية وقومية معادية للاستعمار.
لماذا إذن وافق الإنكليز على تأسيس الجيش العراقي ؟ كان لبريطانيا في ذلك مصلحتان : ـ
الأولى: كان الإنكليز يأملون من خلال الجيش العراقي أن يساهم ذلك في تخفيض عدد القوات البريطانية العاملة في العراق، ومن ثم تخفيض النفقات المالية التي يكلفها هذا الوجود. والتي كانت قد بدأت تثير تذمر دافع الضريبة البريطاني. (6)
وكانت بريطانيا تأمل أيضاً أن يقوم الجيش العراقي المزود بالخبراء والمستشارين والمفتشين الإنكليز، وبقيادة عناصر صديقة لبريطانيا، أن تقوم بلعب الدور الذي تطلبه منها بريطانيا، ألا وهو حماية المصالح البريطانية، مع العلم أن بريطانيا لم تخلي الساحة العراقية من القوات العسكرية فقد احتفظت بقواعد جوية استراتيجية وعناصر عسكرية مختارة، قادرة على التدخل، وبمعاهدة أبرمتها مع السلطات العراقية تتيح لها إدخال قوات بريطانية على وجه السرعة من الهند أو من قبرص أو عدن إذا لزم الموقف.
الثانيةً : إن الدولة التي قامت على أساس من تحالف زعماء القبائل (وهم يمثلون في الغالب قوة سياسية) مع الإقطاع (الذين يمثلون القوة الاقتصادية الرئيسية)، ونيلها مباركة المؤسسات الدينية، كان لابد لها أن تؤسس لنفسها القوة التي تضمن الحفاظ على الدولة ومكتسبات هذه الفئات.
على أساس من حسابات الواقع الذي يشير إلى تفوق هذا التحالف(المحتل والعناصر المحلية) تم تأسيس الجيش العراقي، وتولى الإنكليز تسليحه بأسلحة تكفي لقمع الانتفاضات الشعبية، ولكن حتى لهذه الأسلحة البسيطة كان لابد من استيراد الأعتدة وقطع التبديل لها من بريطانيا ومن ثم كان هناك الدور الخطير الذي كان المستشارون والخبراء والمفتشون يمارسونه في واجب مزدوج، الأول يتمثل في السيطرة على توجهات الجيش وواجباته، والثاني، في مراقبة عناصره الوطنية ومنع النشاط الوطني داخل صفوف الجيش، وكان هذا الدور هو لضباط استخبارات إنكليز ذو خبرة في هذا المجال.
وكانت العناصر الأولى التي أنظمت إلى الجيش، تتألف من الضباط السابقين في الجيش العثماني، وأبناء العشائر، وكبادرة تشجيع للانخراط في صفوف للجيش الجديد، قام الملك فيصل بإدخال نجله الأمير غازي إلى الكلية العسكرية التي تأسست في بغداد.(7)
ولكن كل هذه الإجراءات لم تكن تطمئن الإنكليز، فسرعان ما تقدموا باتفاقيات عديدة لعقدها بين العراق وبريطانيا على مختلف الأصعدة، بصفة خاصة الأتفاقية العسكرية(الموقعة ببغداد بتاريخ 25 أذار 1924 ) وهذه الاتفاقية العسكرية تنطوي على ذات الهدف للاتفاقية العسكرية بين العراق وبريطانيا الموقعة ببغداد أيضاً بتاريخ 10 تشرين الأول 1922 التي تتيح لبريطانيا التدخل في الشؤون الداخلية والسيطرة على العراق عندما يكون ذلك ضرورياً لقضايا الأمن.(8)
وكذلك اقتصرت الجهة الوحيدة لتدريب الضباط العراقيين على بريطانيا، وكذلك الأساليب والنظم العسكرية، وكذلك انتقلت التقاليد العسكرية البريطانية إلى الجيش العراقي. وبتاريخ 6 كانون الثاني 1921 ، افتتحت مقر ورئاسة أركان الجيش العراقي والدوائر الملحقة به، وبتاريخ 22 شباط 1921 عين أول رئيس أركان للجيش العراقي. والمجموعة الأولى من الضباط التي التحقت بالجيش، كانوا عراقيين وعرباً من الذين كانت لهم خدمة سابقة في الجيش العثماني.(9)
ولكن من الجهة الأخرى كانت التناقضات تتطور لغير مصلحة الإنكليز وحلفائهم المحليين، فإن هذا التدخل الواسع في الشؤون العراقية وفي الجيش بصفة خاصة، كان التناقض بين المصالح الوطنية والقومية تدفع العناصر الوطنية في الجيش العراقي إلى بلورة وعيها ونضجها. وكانت التطورات العديدة على مختلف الأصعدة تساهم في خلق حالة من العداء بين الإنكليز وقوى الشعب، وكان هذا التناقض ينتقل إلى الجيش عبر الجنود والضباط القادمين من صفوف الشعب ويدفع باتجاه المزيد من التناقض واحتدام القضية الوطنية.
وسوف تظهر لنا المراحل المقبلة، أن الجيش المؤلف من الجنود الذين ينتمون إلى أوساط الفلاحين والكادحين، ومن الضباط الوطنيين والقوميين، سواء ممن خدموا في الجيش العثماني وعملوا في النضال الوطني، تأثروا بمنجزات الثورة الكمالية، وبدأ هؤلاء الضباط بتكوين رأي عام داخل الجيش، يهدف إلى طرد النفوذ البريطاني من العراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1.كوتلوف: ثورة العشرين ، ص.112:” تصاعدت تكاليف الأنفاق على الجيش البريطاني في العراق إلى ما يناهز 35 مليون جنيه إسترليني.
- 2. الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية، جزء1 ص.25، بيروت/1974
- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ العراق السياسي الحديث، جزء1 بيروت/ 1975
- ماركس، كارل: الحرب الأهلية في فرنسا، المختارات جزء2 ص.186، موسكو/ 1960
- لينين،ف.إ: الدولة والثورة، مختارات جزء2 ص.384 موسكو/ 1960
- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الثورة العراقية، جزء 1 ص.28 بيروت/ 1974
- الأيوبي، علي جودت: خطاب يوم تأسيس الجيش،1956-1-6 ص.12 بغداد/ 1957
- الراوي، حسن: المعاهدات والاتفاقيات، ص.80-71
- الإدارة السياسية لوزارة الدفاع : خمسة وأربعون عاماً على تأسيس جيشنا الشجاع” ، ص. 32-30 بغداد 1966:” أول وزير دفاع للجيش العراقي كان الفريق جعفر العسكري، والفوج الأول (فوج موسى الكاظم) تأسس في تموز 1921 وكان آمر الفوج العقيد رمضان علي.