بيريسترويكا غورباتشيوف ( 1 )
بعض الأوليات كتاب غورباتشيوف
أجهضت ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى 1917 على أيدي أبنائها وأحفادها، ومن خلال قيادة الحزب الذي أشادها، وعلى أيدي أعدائها أيضاً. ساعدت أسباب وظروف موضوعية وذاتية في ذلك الإنكسار المدوي، الذي بدا غامضاً وعسيراً على الهضم، وكذلك الحال بالنسبة الى تحديد ملامحه وأسبابه عند أوساط عديدة وعلى الرغم من ذلك التداعي السريع يَقْرُ اليوم أعداؤها قبل مؤيديها، أن الثورة العظيمة قدمت منجزات هائلة ودروساً وعبراً كثيرة وكبيرة، ربما لا حصر لها، مما لا يترك مجالاً لتحوّل الثورة الى حدث عابر يطويه الوقت والنسيان , تستدعي الإستفادة الدقيقة من دروس وعبر ثورة اكتوبر وإنكسارها، فرادى ومجتمعة، التأمل والتدقيق فيها جرى بعيون فاحصة وذهنية منفتحة.
ومن أبرز تلك الدروس والعبر، أن دور الطليعة السياسية الثورية رئيسياً في كل التحولات، ولا يمكن الإستغناء عنه، سواءً في تحقيق الثورة الاشتراكية، أو في بناء وتعزيز المجتمع الاشتراكي الجديد , ولكن في الوقت نفسه يبغي معرفة أن “الطليعة” يمكن أن تكون قوة أساسية في هدم البناء الإشتراكي أيضاً، وذلك في حالة هيمنة الإنتهازية على قياداتها، وتسرب قوى الثورة المضادة الى صفوفها، والتأثير على طريقة تفكريها ومعالجاتها. أرى حالياً بمناسبة مرور مئة عام على الثورة فائدة مهمة في عرض وتحليل ومناقشة كتاب ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشيوف, آخر أمين عام للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، الموسوم بـ (بيريسترويكا ـ والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع).
وهو أهم كتاب في رواية تفاصيل التحولات في المنظومة الإشتراكية العالمية والتمهيد لها، ومعرفة نوعية التفكير السائد والمتنفذ في قيادة أكبر وأهم حزب شيوعي وكذلك هو مهم من الناحية المنهجية عند تحليل البيريسترويكا، أو الحديث عن إيقاع خطواتها التدريجية والعمل على التعامل مع مصدرها مباشرة، وليس نقلاً عن أصدقاء أو أعداء البيريسترويكا ـ إعادة البناء. , كما يحمل الكتاب درساً ثميناً في التمرس، على معرفة اللغة التي يستخدمها، الذين يفقدون البوصلة الإجتماعية في الطروق الوعرة، بوعي وتخطيط أو بدونهما. ظهرت الطبعة العربية الأولى للكتاب في عام 1988، عبر دار الفاربي في بيروت ـ لبنان.
ونهض بمهمة ترجمة الكتاب خمسة مترجمين مرموقين، وشارك في الترجمة والمراجعة والتدقيق عن الروسية د. محمد أحمد شومان ولم تظهر أية طعونات بشأن مستوى الترجمة ودقتها الى يومنا هذا، بل على العكس من ذلك، نالت تقديراً من جهات تقف في مواقع مختلف من حيث المنطلقات الفكرية , تكمن أهمية الكتاب في أنه من صنع الشخص الأول بقيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، أو على الأقل وُقِعَ الكتابُ بإسمه، وهو تولى توجيه وقيادة فريق العمل , كما إن الكتاب ليس مجموعة مقالات أو خطب منثورة هنا وهناك، أو جاءت في مناسبات إحتفالية عابرة. إنه يمثل نظرة شاملة وموقفاً محدداً إتجاه عرض واقع الاتحاد السوفياتي وآفاق تطوره اللاحق، ويمثل وجهة نظر التيار المهيمن في المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب، وكذلك أجهزة الدولة السوفياتية.
ويمكن للقارئ في حالة القراءة المتأنية للكتاب، التعرفَ على مضمون البيريسترويكا الشامل والدقيق، كما عرضه رواده، ورصد العناصر غير الظاهرة في الكتاب للوهلة الأولى، أي المواقف الحقيقية لمبتدعي نهج “إعادة البناء” و”التفكير الجديد”، وهي الأهداف الرئيسية والأكثر أهمية، التي جرى السعي الحثيث للوصول إليها في نهاية الرحلة أو المطاف، هذا فضلاً عن أن الإطلاع على تجربة البيريسترويكا يخلق إستعدادات لبناء وعي مستقبلي في مجابهات مماثلة.
من المعلوم أن كل فعل إجتماعي يتطلب تنظيماً للسير به الى أمام، نحو أهدافه المعلنة أو غير المعلنة. وقد برهنت تجارب لا حصر لها، على أنه لا يمكن تحقيق أي فعل إجتماعي، حتى ولو كان في أبسط درجاته، دون تنظيم. وفي أي تنظيم يلعب الشخص الأول دوراً رئيسياً في توجيه مسار ذلك التنظيم، حتى ولو جاء ذلك الشخص بمساومات بين الأقوياء داخل التنظيم نفسه وأحياناً يكون دور الشخص الأول من الأساس سلبياً للغاية وغير محصن من المواقف الشائنة , وقد تلعب مسيرة حياته دوراً مؤثراً على التنظيم، منها: تأثيرات الإنحدار الإجتماعي، العيش فترات طويلة في السجون، وعقد نفسية وعائلية وتراكمات أخرى.
هذه حقائق يمكن إثباتها بسهولة على الرغم من كل ما يقال عن القيادة الجماعية أو الممارسة الديمقراطية أو الضبط الحديدي أو العلانية والشفافية الى آخره. وللتنظم أي تنظيم أمراضه كما جوانبه الصحية المشرقة. ومن عوامل التي تؤدي الى خلق تلك الحالات السلبية والايجابية في أي تنظيم يمكن الإشارة الى طبيعة كل التنظيم في ذاته، والى قوة العادة التي تطبع سلوك الأعضاء فيه، والى نوع الجرأة التي يتحلى بها الأعضاء والمحيطون، أو وجود حالات سرية داخل العمل السري، وتنظيم داخل التنظيم.
لاشك أن هذه المسائل معقدة للغاية، وتستحق جهوداً أكبر من علوم الإنسان والنفس والمجتمع، ما يهمنا هنا تصور الموقع الذي جلس فيه غورباتشيوف، ومنحه تلك السطوة على مقاليد الحياة الحزبية بأسرها, يقع الكتاب في 375 صفحة من القطع المتوسط، يضم مقدمة الى القارئ، وهو من قسمين: القسم الأول يضم فصلين: الأول البيريسترويكا، منبعها، جوهرها، وطابعها الثوري. الفصل الثاني عن البيريسترويكا، والاستنتاجات الأولى، ويتناول أربع زوايا أساسية، هي: لقد دبَّت الحركة في المجتمع؛ السياسية الاقتصادية والاجتماعية الجديدة في الممارسة؛ على طريق إشاعة الديمقراطية؛ والغرب والبيريسترويكا والقسم الثاني: التفكير الجديد والعالم. ويضم خمسة فصول: كيف نرى العالم المعاصر؛ البيريسترويكا في الاتحاد السوفياتي والعالم الإشتراكي؛ “العالم الثالث” في المجتمع الدولي؛ أوروبا في السياسة الخارجية السوفياتية؛ ومشكلات نزع السلاح والعلاقات السوفياتية ـ الأميركية وأخيراً خاتمة الكتاب. أسعى في هذا المقال الى تتبع خطوات غورباتشوف. وتناول كل خطوة في سياق كتابه على حدة، بأمانة وحرص على الحقيقة لا غير، دون محاباة أو كراهية أو مؤثرات أخرى. ولكن في الوقت نفسه أعلن أني أنطلق أو أرتكز في القراءة والتحليل والمناقشة من خلال تبنى موقف الاشتراكية العلمية.
أعرض وأناقش كتابَ غورباتشوف فقط، ولست معنياً بما قاله الغرب من قصائد مديح له، ولا في طعونات وإتهامات خصومه أيضاً. أكد القادة الغربيون على أن غورباتشوف وضع روسيا على طريق الديموقراطية، وإنهاء الحرب الباردة، ومنحه الجوائز والأوسمة. مُنح غورباتشوف آخر زعيم سوفياتي، جائزة “نوبل للسلام” عام 1990، وفي عام 2008 منحه مركز الدستور الوطني الأميركي، وعلى يد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (الأب) وسامَ الحرية لدوره في إنهاء الحرب الباردة، وجرت مراسم الفعالية ضمن الاحتفال بذكرى الـ 20 لسقوط جدار برلين.
بعد أعوام من تفكيك الاتحاد السوفياتي حوّل الغربُ غورباتشوف الى رجل إعلان ، وتحديداً في عام 1997، وذلك حين قام غورباتشوف وحفيدته بالظهور على شاشة التلفازات الغربية في دعاية للبيتزا Pizza Hut، وفي عام 2007 ظهر في إعلانات لشركة الأزياء الفرنسية Louis Vuitton، وشارك في عددٍ من الإعلانات الأخرى، تحت مبررات كسب المال لمؤسسته الخاصة في مجالات “البحث”، كما صرح غير مرة وقد سبق ذلك أن لعب غورباتشوف في عام 1993 دوراً في فيلم (بعيد، وقريب جداً ) للمخرج الألماني ويم ويندرس , كما شارك في العديد من الأفلام الوثائقي، منها سقوط “جدار برلين”.
إتهم خصومُ الزعيمَ السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف فترةَ حكمه بالإهمال وسوء الإدارة، ومن أبرز معالمها أو من أبرز ما أشاروا إليه منها، إنها شهدت أسوأ كارثة في تاريخ المحطات الكهرونووية ـ كارثة مفاعل محطة تشيرنوبل في أوكرانيا السوفيتية، والتي تُعد أكبر كارثة نووية شهدها العالم، وقعت يوم 26 نيسان/ أبريل من عام 1986، ولكن غورباتشوف زار موقع الكارثة مع زوجته رايسا في عام 1989، أي بعد مضي ثلاثة أعوام عليها , ذهب بعض منتقدي ودارسي التجربة السوفياتية بإتجاهات مختلفة فيما يتعلق بالأسباب وتحديد المسؤوليات، وتحركت القراءات بين الإشارة الى العوامل الداخلية، وأخرى الى العوامل والتدخلات الخارجية، وبين التطور الطبيعي وبين خيانة الاشتراكية، وهناك مَنْ جمع بين تلك العوامل الداخلية والخارجية معاً.
ولم تغيب عن الأسباب تلك التي تتهم وتشير الى النشاطات الخاصة، وتتهم الرئيس السوفياتي وعدد من أنصاره بعلاقات مع منظمات أجنبية معادية، وذهب في هذا الإتجاه على سبيل المثال الكاتب الروسي إيغور يرماكوف الذي أشار الى دور المنظمات الماسونية وغيرها. في البلاد العربية كانت نادرة التقويمات الجادة والمُغنية لمضمون البيريسترويكا، سواءً على مستوى التفهم أو النقد أو الإدانة. وربما ساعد في ذلك الإتجاه الحالةُ الثقافيةُ الغالبةُ عندنا
بقلم الكاتب
عبدالحميد برتو