سارقو حليب الأطفال في النظام العراقي
بينما كان المسؤولون في الحكومة العراقية يبررون، كل الكوارث التي تحل بأبناء الشعب، حتى فترة قريبة، بأنها نتيجة « الإرهاب» و «القوى الخارجية» و«الطرف الثالث» برزت على السطح، في الآونة الأخيرة، تصريحات ذات وقع مختلف، تلقي اللوم أما على المواطنين أنفسهم أو تقلل من تأثيرها، باعتبارها أحداثا « عادية» مشابهة لما يجري في بقية انحاء العالم، خاصة بعد انتشار فايروس كورونا. ولعل أكثر الامثلة وضوحا هو مقارنة حالة الفقر وجوع الأطفال بين بريطانيا والعراق.
عاشت بريطانيا، في الأسابيع الاخيرة، أجواء حملة نافست بما أثارته من اهتمام انتشار الفايروس، وازدياد عدد المصابين، والضغط المتزايد على المستشفيات بالإضافة الى حملة التلقيح ضد الفايروس، التي يتابعها الجميع بلهفة ورصد دقيق. قاد الحملة نجم كرة القدم ماركوس راشفورد بعد أن رفضت حكومة حزب المحافظين تقديم وجبات طعام مجانية للأطفال الفقراء، خلال فترات العطل المدرسية أو وهم يدرسون في دورهم، في فترات الحظر للحد من انتشار الفايروس. أعاد القرار الحكومي الى الاذهان ما قامت به السيدة ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا) 1979 – 1990)، حين ألغت حصة الحليب التي توزع لأطفال المدارس تقليصا للميزانية، فاطلق عليها الناس لقبا لاحقها حتى وفاتها وهو «ثاتشر سارقة الحليب». شارك في حملة اطعام الأطفال، ايضا، المجتمع الأهلي (الأفراد والكنائس والجوامع) وعموم منظمات حماية الأطفال، ووقع اكثر من 2000 طبيب أطفال رسالة عبروا فيها عن صدمتهم من القرار. مذكرين بأن ضمان حصول الأطفال على ما يكفيهم من الطعام هو مسؤولية انسانية أساسية. ووصف حزب العمال المعارض القرار بأنه عار على الحكومة وأمر مخجل ان يتم تجويع الأطفال في بريطانيا الغنية في القرن الحادي والعشرين. إزاء هذه الضغوط الأهلية والمدنية، تراجعت الحكومة البريطانية عن قرارها.
عراقيا، يصرح المسؤولون بأن الحالة المعيشية المتردية في العراق، بضمنها وضع الأطفال، هي نتيجة الوضع الاقتصادي المتأزم، عالميا، جراء انتشار وباء الكورونا. ويذهب عدد من المسؤولين أبعد من ذلك بذكرهم بريطانيا وأمريكا كأمثلة، لدعم تصريحاتهم، متعامين عن حقائق عديدة اولها اختلاف مفهوم الفقر ودرجاته بين العراق والدول التي يستشهدون بها. ففي بريطانيا يعتبر عدم تناول الأطفال وجبة الطعام المجانية، خلال العطل، مثلا، تجويعا للأطفال وعارا على الحكومة. بالمقابل، ما هو وضع الأطفال في العراق الغني، في القرن الواحد والعشرين؟
بلغ حجم الأموال المهربة خارج العراق حوالي 239 مليار دولار، أي ما يزيد على موازنة البلاد لأكثر من عامين
في العراق، بات الجوع رفيقا دائما للطفل، يمتد على مدى الأيام والأعوام، ويتبدى لا في نقص وجبات الطعام فحسب، ولكن في أبعاد أخرى تجعله محصورا مع فئات السكان الهشة البالغة 42 بالمئة من السكان ممن يواجهون مخاطر أعلى، كونهم يعانون من الحرمان من عديد الأبعاد، وليس من بُعد واحد مما يلي: التعليم، والصحة، والظروف المعيشية، والأمن المالي. بالنسبة إلى الأطفال، هناك طفل من بين كل اثنين تقريبا (48.8 بالمئة كرقم منشور) أكثر عرضة للمعاناة من الحرمان في أكثر من بعد واحد من هذه الأبعاد الأربعة، حسب تقرير منظمة « يونسيف» لعام 2020. أما تأثير جائحة كورونا على الوضع الاجتماعي الاقتصادي، فقد قامت وزارة التخطيط، بدعم من اليونيسف، والبنك الدولي، ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، بتقييمه، وُجد أن 4.5 مليون شخص (11.7 بالمئة من السكان، أو ما يقارب واحدا من كل ثمانية أو تسعة مواطنين، أغلبهم أطفال) يواجهون خطر الوقوع تحت خط الفقر إضافة لمن سبقهم. ستسبب هذه الزيادة رفع معدل الفقر الوطني إلى حوالي الثلث (31.7 بالمئة ) بالمقارنة مع حوالي الخمس ( 20 بالمئة ) لعام 2018، وزيادة العدد الإجمالي للفقراء إلى 11.4 مليون.
وبتعبير آخر، كان واحد من بين كل خمسة أطفال ويافعين فقيراً قبل تفشي الكورونا،، ليرتفع الى أكثر من إثنين من بين كل خمسة أطفال. هذه الحقائق المخيفة دفعت اليونسيف الى إطلاق تحذير للحكومة من حالة الفقر التي انحدر فيها البلد ووضع الأطفال وفقدانهم حقوقهم الأساسية، كما أصدرت مجموعة توصيات الى الحكومة حول ايجاد حلول آنية سريعة لمعالجة الفقر الغذائي وأخرى استراتيجية لمعالجة جذور الفقر، حتى لا يحرم الطفل من حقوقه في الصحة والأمن والحرية والتعليم والماء النظيف واللعب. وهي حقوق على الحكومة ضمانها إذ أن العراق عضو في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل وملزم بما يضمن حقوقهم آنيا ومستقبلا.
الحقيقة الثانية المتعامى عنها، تعمدا، من قبل المسؤولين، هو حجم الفساد الذي ينخر المؤسسات، في حكومة تديرها مجموعة لصوص تتقاسم المغانم، وفق محاصصة سياسية طائفية وعرقية. وإن اللائمة لا تقع كلية على فايروس الكورونا الذي يعتبر تأثيره ضئيلا بالمقارنة مع حجم مأسسة الفساد الحكومي ومليشيات الاحزاب المنخرطة بالنظام. حيث بلغ حجم الأموال المهربة خارج العراق حوالي 239 مليار دولار، أي ما يزيد على موازنة البلاد لأكثر من عامين، حسب تصريح لجنة النزاهة النيابية في 4 كانون الثاني/ يناير. وتزداد الصورة قتامة حين نراجع ما نعرفه ويعرفه العالم من حقائق عن تجذر وتطويرالفساد منذ احتلال البلد عام 2003. فالعراق من بين أكثر الدول فسادا في العالم. الفساد يعني التدمير المنهجي والمنظم للانتاج والتعليم والصحة، واضطرار المواطنين جميعا للتعامل ضمن منظومة الفساد، وما يعنيه من انعدام الحدود الدنيا من الصدق والنزاهة في التعامل اليومي بين الناس ضمن هيمنة طبقة تتحكم بالعقود والعمولات والرشاوى وتهريب العملة، الموظفون الوهميون. شراء ذمم النواب والمسؤولين الحكوميين. تحويل السجون ومراكز الاحتجاز الى مصادر للابتزاز، وتمويل الإرهاب بأنواعه.
وتأتي تصريحات المسؤولين الحكوميين والنواب لإدانة الفساد لترش الملح على الجروح. فهم، جميعا، بلا استثناء يدينون الفساد وكأنه هطل عليهم من الفضاء الخارجي، متحدثين، دوما، عن امتلاكهم ملفات فساد سيظهرونها للعيان ذات يوم، لإثبات نظافتهم، وأن الفساد هو فساد « الآخر» محاولين بقولهم إن الامبراطور بلا ملابس أن يغطوا عُريهم. أما محاولتهم تقليل التأثير المدمر لفسادهم على البلد وأهله ومستقبله المتمثل بمستقبل أطفاله، فلن تمر مرورا عابرا، كما يتصورون. فالتاريخ قد يغفر للساسة أخطاءهم وقد يبرر جرائمهم، إلا أنه لا يغفر لهم سرقة حليب الأطفال.
كاتبة من العراق