كاظم حبيب
إذا كانت الذهنية القومية والبعثية اليمينية المتطرفة والسلوك الفاشي هو الذي هيمن على المؤسسات الأمنية والاستخباراتية العراقية في فترة حكم دكتاتورية حزب البعث والدكتاتور صدام حسين وميَّز تعاملها مع المواطن والمواطنة في العراق ولعقود أربعة تقريبا، وإذا كان التعذيب في التحقيق والسلوك الهمجي في تحطيم إنسانية الإنسان وكرامته وعزة نفسه، وإذا كانت هذه الأجهزة قد أطبقت بقوة على أنفاس العراقيات والعراقيين وخنقت أنفاسهم وجعلتهم يعيشون في سجنين، السجن الصغير، دوائر الأمن والاستخبارات والسجون والمعتقلات السرية والرسمية، والسجن الكبير، هو العراق كله الذي عزل عن العالم الخارجي والثقافة والحضارة الإنسانية، لقد كان الناس يعيشون في ظلمتين قاهرتين. ساهم عدد كبير من الكتاب والكاتبات، والصحفيين والصحفيات في نشر الكتب والمقالات لفضح ذلك الواقع المرير والكشف عن المتسببين به وضحاياه الذين يعدون بمئات الآلاف من البشر في البلاد.
حين أُسقط نظام البعث عبر الحرب الأمريكية-البريطانية لم أتوقع من جانبي خيراً للشعب والبلاد، لأن الشعب العراقي وقواه المعارضة النظيفة والنزيهة لم تكن مهيئة لمثل هذا التغيير، ولكن غالبية الشعب في العراق كانت تأمل خيراً بأمل التخلص من نظام فاشي دموي مدمر للشخصية العراقية ووحدة الشعب والوطن. ولكن ماذا حصل؟ الذي حصل هو ما توقعته القلة ورفضت بسبب ذلك الحرب الخارجية. فمنذ أن احتل الأمريكيون العراق دأبوا على رسم مستقبله السياسي على أساس طائفي مذهبي يضعف قدرة البلاد على الوحدة والنهوض ورسم مستقبل مشرق للشعب والوطن، وهو الذي رحبت به القوى التي شاركت بالسلطة، سواء أدركت أم لم تدرك ما يراد للعراق وشعبه بهذا النهج الطائفي المقيت. وكانت في مقدمة من دعا إلى ذلك أحزاب الإسلام السياسي الشيعية التي تأسست في إيران أو بدعم إيراني على أسس مذهبية صفوية وتبعية تامة لإيران.
وأول من بدأ بتنفيذ النهج الطائفي المتطرف في الحكومة العراقية، التي تسلم زمامها رئيس حزب الدعوة الإسلامية في العراق حينذاك هو إبراهيم الجعفري (الأشيقر) رئاسة الحكومة، وبمباركة واضحة من بول بريمر، فهو الذي جعل أجهزة الأمن العراقية واستخباراتها جزءاً تابعاً وخاضعاً بالكامل لحزب الدعوة ومن ثم للبيت الشيعي ومرتبط مباشرة وخاضعاً لمستشارين وخبرا عسكريين وأمنيين إيرانيين، رغم وجود الولايات المتحدة الأمريكية وقدرتها على منع حصول ذلك، ولكنها كانت تريد ذلك لتعميق شق الصف الوطني العراقي وتنشيط الصراعات القومية والطائفية، وإيصاله إلى القوات المسلحة العراقية، ومنها بشكل خاص قوات الأمن والاستخبارات. من هنا جاء تنسيب أكبر عدد ممكن من أتباع حزب الدعوة الشيعة، ومن ثم أتباع أحزاب شيعية أخرى منافسة لحزب الدعوة في أجهزة الأمن العراقية كلها والاستخبارات العراقية والمخابرات العسكرية. وأغلب هؤلاء كانوا ضمن الميليشيات التي تشكلت في إيران أو التي شكلتها إيران في العراق، ولم تراع في هذا التعيين خمس مسائل جوهرية:
- الإيمان بالوطن العراقي وبالمواطنة العراقية والحرص على الشعب والنظرة غير التميزية والمتساوية لأبناء وبنات الشعب؛
- جرى التركيز عند التعيين على الإيمان بالمذهب الشيعي والالتزام بالطائفة الشيعية، وكراهية أو معاداة كل من يختلف عنهما، بسبب معاناة الشيعية من مظلومية لحقت بهم من أتباع المذهب السني!!!
- عدم الاهتمام بمدى توفر المعارف والمعلومات والكفاءات الأمنية والاستخباراتية لدى الذين يجري تعيينهم في قيادات وأفراد هذه الأجهزة بل كان ومازال المهم هو التزامهم الجانب الشيعي والأحزاب الشيعية وإيران. لهذا ولجت عناصر كثرة جداً ممن لا يمتلكون المعارف والخبرة والعلم، بل جمهرة منهم من مزوري الشهادات وقطيع من التوابع لإيران.
- التعاون الكثيف مع الأجهزة الأمنية والمخابراتية والاستخباراتية الإيرانية بسبب الارتباط المذهبي الشيعي وقناعة تلك الأحزاب بـ “ولاية الفقيه” الصفوية المعمول بها في إيران، وليس المرجعيات الشيعية التي لا تعمل على وفق هذه القاعدة الدخيلة على الدين والمذب الشيعي.
- تقديم أقصى الدعم تشكيل وتوسيع قاعدة الميليشيات الشيعية المسلحة التي تتعاون مع أجهزة الأمن والمخابرات والاستخبارات الإيرانية وتقويتها لتكون القوة المدافعة عن الحكم الشيعي المتعاون مع إيران. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المذهب اتخذ كغطاء لخدمة المصالح الإيرانية ومصالح أتباعها في العراق وليس سكان العراق الشيعية.
إن هذه النهج الطائفي والإجراءات غير الشرعية التي بدأ بها إبراهيم الجعفري طورها وعمقها ووسعها وشدد منها نوري المالكي الذي حكم العراق لدورتين من 2006 حتى 2014 وبذهنية استبدادية شرقية متخلفة وطائفية عدوانية بامتياز ومعادية لكل الديانات والمذاهب الأخرى وأتباعها، لاسيما المذهب السني وأتباع المذهب السني، كما اعتمد، كسابقه على الفساد والفاسدين والجهلة وغير العقلانيين من الخبراء والفنيين الفعليين لوضعهم في مواقع المسؤولية في الأجهزة الأمنية والمخابراتية والاستخباراتية، إضافة إلى خضوعها الفعلي والكامل للمستشارين والخبراء الإيرانيين العاملين في العراق وفي مكتب رئيس الحكومة. وكان على رأس هؤلاء حتى قتله من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ببغداد عام 2020 الجنرال الإيراني وقائد فيلق القدس والمسؤول الفعلي للدولة العميقة في العراق قاسم سليماني (1957-2020). واشتدت الهيمنة الإيرانية على قرارات الحكومة العراقية وقرارات أجهزة الأمن والاستخبارات ونشاطاتها وعلاقاتها بالحشد الشعبي والميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة في فترة حكم الجزار العراقي عادل عبد المهدي الذي حدثت في عهده انتفاضة الشبيبة العراقية والمجزرة التي نفذها بحق الشعب والوطن في عام 2019-2020 قبل تسليم الحكم لمصطفى الكاظمي.
هذه الاجهزة الأمنية المتعددة والمخابرات والاستخبارات العراقية لم تعرف التغيير في الموقف من الشعب والوطن والمواطنة، بل مازالت حبيسة الذهنية المذهبية الطائفية السياسية، ومازالت الأسماء تكشف عن واقعهم المذهبي، وبالتالي فأي تغيير في الأسماء لا يغير من حقيقة الطبيعة الطائفية السياسية لسلوكيات هذه الأجهزة، إضافة إلى استمرار الفساد فيها بسبب فساد المسؤولين عنها جملة وتفصيلا.
إن إجراء تغيير في مواقع المسؤولين في بعض الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية لا يعني سوى إزاحة أتباع هذا الحزب الإسلامي من البيت الشيعي وتلك الميليشيات التابعة له واستبدالهم بآخرين من أتباع حزب إسلامي آخر وميليشيات أخرى تابعة لهذا الحزب وليس لمستقلين نزيهين يؤمنون بالوطن والمواطن وبقضية الشعب، إذ إن هذا الاستبدال في الغالب الأعم لا يغير من سلوك الأجهزة، لأن الذين يتسلمون المسؤولية لا يختلفون عن الذين كانوا فيها وتقاعسوا عن العمل أو لفسادهم أو لضعف خبراتهم ومعارفهم لأنهم تعينوا على أسس طائفية وحزبية ضيقة جداً، وهم بالتالي يخضعون للبيت الشيعي، الذي ينحدر منه ويدافع عنه، كما يبدو، الكاظمي نفسه. وإلا بماذا نفسر عدم اعتقاله لقتلة المتظاهرين والكل يعرف من هم وأكثر من يعرف هو الكاظمي نفسه، إذ كان ومازال رئيس جهاز الاستخبارات.
إن مكافحة إرهاب عصابات داعش الإجرامية وما يماثلها من تنظيمات إرهابية، أو إرهاب الميليشيات الطائفية المسلحة ونزع أسلحتها والدولة العميقة في البلاد، يتطلب:
أولاً: تنظيف الأجهزة الأمنية والمخابرات والاستخبارات من كل الحزبيين الذين تم تعيينهم في فترات الحكومات السابقة وعلى أسس حزبية وطائفية بحتة، وجعل هذه الأجهزة بعيداً عن الحزبية والسياسة والإخلاص للشعب والوطن فقط.
ثانياً: تطهير هذه الأجهزة من الفاسدين والمفسدين الذين عرفوا بالرشوة وعدم الأمانة للشعب وقضية الدفاع عنه ضد الإرهاب والعنف، والذين يشكلون الثغرة المستمرة فيها.
ثالثاً: أن تكون للأجهزة الأمنية كلها استراتيجية أمنية طويلة الأمد ورؤية موحدة للمهمات وقيادة موحدة أو مشتركة يسودها الانسجام والتعاون المشترك وليس التباين والصراع الحزبي.
ثالثاً: أن يكون على رأس هذه الأجهزة قادة أمنيون وطنيون مدنيون مستقلون من ذوي المعرفة والخبرة والعلمية والعقلانية وبعيدين كل البعد عن الذهنية الدينية والمذهبية الطائفية، وأن يلتزموا بالعمل على وفق الدستور ومبادئ حقوق الإنسان وحقوق المواطنة الحرة والمتساوية والمحترمة.
رابعاً: إبعاد هذه الأجهزة عن العمل الحزبي والتدخلات الحزبية أو التدخلات الخارجية تحت أي واجهة أو سبب. وهذا لا يمنع من التعامل المستقل القائم على أساس الاحترام والمنفعة المتبادلتين ومصالح الشعب والوطن أولاً وقبل كل شي.
خامساً: توفير مستشارين وخبراء في الجهد الأمني والاستخباراتي من دول صديقة قادرة على تقديم الخبرة والمعرفة دون التدخل في الشؤون السياسية والداخلية، إضافة إلى خبراء ومستشارين فعليين من داخل البلاد.
سادساً: توفير أحدث الأجهزة والأساليب والأدوات والطرق العلمية لممارسة مهمات الأمن والمخابرات والاستخبارات الضرورية لمواجهة قوى الإرهاب الداخلي والخارجي.
بدون عمل الأجهزة الأمنية والمخابراتية والاستخباراتية الناجحة والموفقة من جهة وبدون سياسة وطنية ديمقراطية واعية ترافق عمل أجهزة الأمن من جهة ثانية، ودون قناعة الشعب وثقتها بهذه الأجهزة وسياسة الدولة من جهة ثالثة، يستحيل الوصول إلى تطهير العراق من هذه القوى الإرهابية المدمرة ومن الموت اليومي لأبناء وبنات الشعب. ومثل هذا العمل يفترض أن يقترن بمحاربة الفساد والفاسدين ونزع السلاح المنفلت من أيدي الميليشيات الطائفية المسلحة أو العشائر أو الأفراد وكذلك القيادات الفاعلة في الحشد الشعبي الميليشياوي، إضافة إلى جهد كبير ومستمر إعلامي تربوي وتثقيفي واسع النطاق مناهض للطائفية والفساد والعنصرية والتعصب الديني والمذهبي والتمييز ضد الآخر وضد المرأة وضد التدخل الخارجي في الشأن العراقي واحترام الدستور والمواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وحقوق المواطنة.
إن من يريد أن يحمي الوطن والشعب من العنف والإرهاب، عليه أن يتعامل بحزم وصرامة وعدالة أيضاً مع واقع الفجوة المتسعة في الدخل السنوي للأفراد وفي مستوى المعيشة والحياة وتفاقم نهب الخيرات النفطية وموارد البلاد وعدم ملاحقة القتلة والمجرمين الذي أولغوا في الدم العراقي، دم شهداء الانتفاضة الأبرار، وإلا فالانتفاضة لن تكون إلا الجواب الرادع لمن يسير بالدرب الذي يرفضه الشعب الذي ارتفع صوته مطالباً باستعادة الوطن المستباح والحقوق المغتصبة…