كاظم حبيب
ويسأل شعب العراق جيوب حكامه: هل امتلأت وتقول هل من مزيد!
حين يبدأ البحث في الإعلام والصحافة المحلية والإقليمية والدولية عن الفساد الجاري منذ عام 2003 حتى الآن في العراق، سيجد الباحث أو الباحثة أمامه كماً هائلاً من المعلومات الموثقة، بدءاً من منظمة الشفافية الدولية ومروراً بتقارير منظمات مالية دولية ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان ونقابات، وانتهاءً بمواقع التواصل الاجتماعي والمحاضرات التي تقدم في السكايب أو الزووم، أو حتى في محاضرات لأساتذة في الجامعات والكليات التي تُدرّس الاقتصاد ومشكلات التنمية والفساد المالي، كما سيجد أمامه مجموعة من الكتب الصادرة بهذا الصدد من عراقيين وعرب وأجانب. ولا شك في توفر إمكانية تقديم طلبة الدراسات العليا في سائر أرجاء العالم أبحاثاً غزيرة عن الفساد في العالم ويتخذوا من العراق أنموذجاً فريداً يصعب العثور على مثيل له في العالم من حيث: 1) العدد الكبير من قادة الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية وغيرها والنخب الحاكمة والمقاولين والمضاربين ومن شيوخ دين بارزين يشاركون بحيوية في ذلك؛ 2) الحجم الاستثنائي للأموال المنهوبة سنوياً من خزينة الدولة والنفط الخام خلال الأعوام المنصرمة والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية، سواء تلك المهربة نحو المصارف الأجنبية أو المحولة إلى عقارات في الداخل والخارج والمشاركة في غسيل الأموال، كما في مزاد العملة في البنك المركزي رسمياً؛ 3) علنية النهب لتلك الموارد والحديث عنها من جانب كبار المسؤولين النهابين انفسهم وفي قمة السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضاء ورئيس الدولة؛ 4) بيع وشراء المقاعد النيابية ابتداءً من رئيس المجلس وانتهاءً بمعاونيه ونوابه وعدد هائل من الوظائف العامة في جميع المستويات والمجالات؛ 5) مشاركة دول وشركات إقليمية ودولية بهذا النهب والسلب عبر صيغ مختلف كالعقود المتنوعة (نفط، سلاح، أجهزة مختلفة، مقاولات بناء)، إضافة إلى دورهم في إعاقة التنمية الإنتاجية والخدمية في البلاد لصالح اقتصادهم وتجارتهم الخارجية مع العراق، كما في حالتي إيران وتركيا.
لم يقتصر الفساد في العراق على الجانب المالي والإداري المباشرين، بل امتد إلى مجالات أخرى تساهم في تدمير الحياة العامة، ومنها العلمية والثقافية والصحية والاتصالات ومجمل الخدمات العامة للشعب، لاسيما الماء والكهرباء، وفي مجال تعيين المعيدين والمدرسين والأساتذة الجامعيين وفي الكليات والمعاهد على وفق تسعيرات معينة، إضافة إلى شراء الشهادات من الخارج وإلى حدود غير قليلة في الداخل وبأساليب ذكية ومن ثم تزوير الشهادات في مستويات واختصاصات مختلفة. وهذا الأمر يشمل قطاع الصحة والأدوية وما إلى ذلك. لقد أدى ذلك إلى انخفاض شديد جداً في مستوى التعليم في جميع المراحل الدراسية والمعاهد الفنية والمهنية، وكذلك في جميع مجال الرعاية الصحية والطبابة وغيرها.
نحن أمام أنموذج استثنائي متقدم جداً في الفساد، إنه نظام متكامل ومتناغم في فلسفته والأيديولوجية التي تقف وراءه، وفي سبله وأدواته ومجالاته وعلاقاته وبنيته التحتية، كما يجسد في أداءه خبرة متراكمة في العراق مضافاً إليها خبرة دول الجوار والدولة الأمريكية والمملكة البريطانية وشركاتهما الكبرى والمتعددة الجنسية، لاسيما في قطاعي النفط والسلاح.
لقد اقترن الفساد المالي والإداري في العراق بنشوء نظام سياسي طائفي محاصصي أولاً، وباقتصاد ريعي نفطي وبنية اقتصادية مشوهة ومتخلفة وفي إطار علاقات إنتاج رأسمالية طفيلية في بلد ما يزال يعاني من العشائرية وبقايا علاقات اجتماعية فاعلة شبه إقطاعية أنتجت مجتمعاً طبقياً مشوه البنية والدور، أثرت كلها على مستوى وعي الفرد والمجتمع. والنخب الحاكمة في البلاد تعمل على إبقاء هذه البنية الاقتصادية والاجتماعية والوعي الاجتماعي على حاله المتخلف، بل والسعي لتعميقه أكثر فأكثر. إنها خصائص لعملة واحدة هي عدم مشروعية النظام السياسي القائم في العراق وفقدانه للشرعية الموضوعية. لقد صادر هذا النظام الحرية والحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان، صادر حق الإنسان في الحياة والتعبير. يمكنك أن تنتقد، لكنك ستقتل أو تختطف وتعذب وتختفي من الحياة.. هكذا هي حرية النظام الطائفي الفاسد حتى اليوم.
لو دققنا في الأدوات التي تمارس في النهب والسلب لا لأموال الحكومة، وهي أموال الشعب، فحسب، بل وعمليات ابتزاز للشعب مباشرة من خلال أدوات الفساد المعروفة للمجتمع والدولة في آن. ويمكن تكثيفها في صيغ عديدة، منها: 1) ممارسة موظفي الدولة من مستويات مختلفة وفي كل المجالات بفرض رشوة مالية أو عينية على الأفراد والجماعات لإنجاز معاملاتهم مثل الزواج والطلاق في المحاكم، تسجيل العقارات الطابو في حالات الشراء والبيع، في الحصول على الرعاية الصحية، في مراجعة العائلات لأبنائهم في السجون والمعتقلات والمواقف، أو في الحصول على جواز سفر أو تعويضات عن مصادرة الدور في دائرة فض النزاعات…الخ؛ 2) ابتزاز أصحاب المحلات بذريعة حمايتهم من النهب والسلب أو حتى من أصحاب البيوت والعمارات؛ 3) التهديد بالقتل أو عبر الاختطاف وابتزاز العائلات بدفع فدية للمختطفين؛ 4) سرقة جزءٍ من الحصة التموينية المخصصة للعائلات بأساليب متنوعة، ودفع الرشوة للحصول على أدوية لأمراض خطيرة يعاني منها المواطنون مع دفع أسعار خيالية؛ 5) دور جمهرة كبيرة من شيوخ الدين الذين يبتزون الناس تحت واجهة عزاءات الحسين أو غيره من أئمة الشيعة وأبنا وبنات عائلة علي ابن أبي طالب وأحفاده وأحفاد أحفاد احفاده ..الخ، أو حتى إقناعهم بأن ما يتعرضون له هو قدر مكتوب له قبل أن يولدوا ومن ربهم، كلما زاد عذابهم في الأرض، زاد ثوابهم في الحياة الأخرة!!!
وأذ تمارس أجهزة الدولة في السلطات الثلاث كل ذلك، فأن الممارس الأكبر والمباشر لها أيضاً هي الميليشيات الطائفية والإرهابية المسلحة في البلاد والتي تجد تمثيلها الواضح في الحشد الشعبي المسجل رسمياً كرديف للقوات المسلحة العراقية، وهي ميليشيات مسلحة تابعة لدولة إيران في العراق، بغض النظر عن التباينات النسبية والمنافسات فيما بينها، إذ في الحصيلة أنها كلها تقف في موقع واحد ليس في صالح الشعب ولا استقلال وسيادة الوطن والدولة العراقية.
مثل هذا الواقع العراقي لا يُعالج بإصلاحات ترقيعية والابتعاد عن الجذر الأساس في هذه العملية كلها والمستندة إلى ثلاثة مساند هي: الطائفية السياسية ومحاصصاتها في الدولة أولاً، والفساد المالي والإداري والاجتماعي ثانياً، والتبعية الخارجية، سواء أكانت لإيران أساساً وبشكل مباشر وللولايات المتحدة وانكشاف كامل وتام للاقتصاد والمجتمع على الخارج.
هذا الواقع العراقي المرير هو وراء استمرار الإرهاب المتنوع والقتل والاختطاف والتعذيب والسجون والمعتقلات العلنية والسرية والحشدية أولاً، وهو وراء الفقر والجوع والحرمان لنسبة عالية جداً من العائلات العراقية والأفراد ثانياً، وهو وراء توقف عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وتدهور مستمر للخدمات الاجتماعية ثالثاً، وهو وراء إفلاس الدولة العراقية وطلب المزيد من القروض الداخلية والخارجية والخضوع المستمر للمؤسسات المالية الدولية وشروطها المجحفة بحق الشعب واستقلاله السياسي والاقتصادي رابعاً، وتدهور سعر صرف الدينار العراقي وارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات وتدهور القدرة الشرائية للسكان خامساً، رغم غنى العراق بشعبه وكفاءاته ونفطه وخيراته الأخرى وقدراته الكامنة وطاقاته المتوفرة في الخارج.
هذا الواقع لا يعالج بالوعود المعسولة والخادعة من الحكومة أو الأحزاب الحاكمة الفاسدة، بل يتم عبر قواه الحية التي يزداد وعيها الاجتماعي والسياسي، بل والطبقي تدريجاً، ويزداد انحياز المزيد من أبناء وبنات الشعب من جميع الفئات الاجتماعية المتضررة من هذا الواقع المرير والمدمر للإنسان وحياته وكرامته وإنسانيته، ويزداد تفاعل وتحالف قواه الحية، قوى انتفاضة تشرين 2019 بكل مكوناتها الحزبية والمستقلة والمعارضة لنهج الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي الفاسد والطائفي والتابع للخارج. هذا الواقع لا يعالج بمحاكمة سراق المال العام الصغار، بل برؤوس الفساد الكبار الجالسين على كراسي الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث وأحزابها الإسلامية السياسية وغيرها، فالسمك لا تجيف من ذيلها بل من رأسها ولا بد من قطع الرأس، رأس الفساد والطائفية والتبعية، ولا يعالج بالسكوت المطبق على قتلة المتظاهرين واختطافهم وتعذيبهم وتغييبهم.
وأخيراً، إذ تساءل قرآن المسلمين والمسلمات “يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ، يسأل شعب العراق جيوب حكامه الفاسدين: هل امتلأت وتقول هل من مزيد! لكم الخزي والعار في الدينا أيها الطائفيون الفاسدون، ولكم أن كنتم تؤمنون بالآخرة أيها الفاسدون المثقلون بجرائم ارتكبت بحق الشعب والوطن، جهنم وبئس المصير!!!