العراق: الدولة كأداة للانتقام!
تحرّكت السلطات العراقية، بعد عملية إرهابية كبرى أدت إلى مقتل 32 شخصا وجرح 110 آخرين في سوق شعبي لبيع الألبسة المستعملة في بغداد، وبدأت، حسب بياناتها، بتنفيذ عمليات عسكرية بهدف «الثأر» من الجماعات الإرهابية، شملت العاصمة ومحافظات صلاح الدين ونينوى والأنبار، كما سارعت رئاسة الجمهورية العراقية، إلى إصدار قرار المصادقة على إعدام أكثر من 340 مدانا بقانون الإرهاب.
رغم أن العملية الإجرامية الشنيعة تحمل بصمات وأسلوب تنظيم «الدولة الإسلامية» فإن التنظيم المذكور لم ينسب، هذه المرة، العملية إلى نفسه، ولكن أحد المسؤولين الأمنيين سارع إلى القول، من ساحة الهجوم، إن التفجير «نفذه انتحاريان» متبعا ذلك بالقول: «ربما… بالتأكيد داعش» وتبعت ذلك تصريحات أخرى تحمّل التنظيم المسؤولية وعقد رئيس الوزراء، وهو أيضا القائد العام للقوات المسلحة، اجتماعا أعلن بعده عن إقالة بعض القادة الأمنيين وتحدث عن «المعركة الطويلة والمستمرة مع الإرهاب».
معلوم لمجمل العراقيين إن أي قضية سياسية في العراق هي قضية طائفية دائما، وأن من يدفع الثمن الأكبر للصراعات الدامية هناك هم المهمشون الذين كان بعض منهم يعتاشون على حدود الفقر في سوق الألبسة القديمة، وكذلك المهمشون الذين يقبض على كثير منهم بتهم الإرهاب، وتصدر أحكام الإعدام بحقهم، بالسرعة نفسها التي تم فيها الانفجار، ثم نسبته إلى تنظيم «الدولة» من دون أي حاجة للتحقق، ثم كنسه ومسحه من آثار الدماء البريئة التي سفحت في الموقع.
معلوم أيضا أن الاعتقالات في العراق تتم بمنهجية انتقامية، ولا تخضع للقانون، ويمكن أن تمر على المعتقلين سنوات من دون أن يعرضوا على قاضي تحقيق، ومن دون أن يعرفوا ما هي التهم التي سجنوا على أساسها، وأن القضاء يعتمد في أحكامه التي تصل إلى الإعدام على اعترافات انتزعت من المعتقلين بالتعذيب، وإجبار المتهمين على توقيع اعترافات، وأنه لا يسمح للمتهمين بتوكيل محامين عنهم إلا بعد انتزاع أقوالهم.
يقول تقرير حديث صادر عن بعثة الأمم المتحدة في العراق تمت فيه متابعة قرابة 800 حالة اتهام لأفراد متهمين بالانتماء لتنظيم «الدولة» إن «انتهاكات معايير المحاكمة العادلة عرضت المتهمين إلى غبن كبير» وفي إحدى المحاكمات، عيّنت المحكمة محامي دفاع في يوم المحاكمة فلم يستطع مقابلة موكله ولا قراءة ملفات المحكمة فظل صامتا خلال الجلسة التي انتهت بحكم بالإعدام.
منهج الانتقام الطائفيّ هو جزء مؤسس من بناء المنظومة العراقية الحالية، وهو يفسّر علاقة التبعيّة القائمة نحو إيران، والتطبيع القائم بين المؤسسات العسكرية والأمنية مع ميليشيات طائفية تعبّر بصراحة عن تبعيتها الإيرانية، وتقوم بممارسة إرهاب مشرعن ضد العراقيين من الطوائف الأخرى، وممارساتها الإجرامية، عبر تنفيذ عمليات الخطف والتعذيب وإنشاء السجون غير القانونية والإعدامات خارج القانون، عن خصمها الطائفيّ، تنظيم «الدولة».
ضمن هذا السياق، فلا شيء يتهدد هذه المنهجية الطائفية أكثر من الاحتجاجات الشعبية التي شهدنا ذروة لها في ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019، والتي انطلقت من بغداد والمحافظات الجنوبية (وتسكنها غالبية شيعيّة) وكذلك الحراك السلمي الكبير الذي تأثر بالثورات العربية عام 2011 في المحافظات السنية، وأمام هذا التهديد لا تتردد المنظومة الحاكمة، وميليشياتها، من القمع المباشر بغض النظر عن طائفة المحتجين، فيمارس الخطف والاغتيال والقنص، وتتواطأ أجهزة الدولة كلها لإسكات المنتفضين، وإعادتهم إلى قفص التفكير الطائفيّ، الذي يريح القتلة والطغاة والفاسدين، ويجعل الضحايا يتواجهون بدلا من مواجهة النظام.