«كليوباترا» ودورها في التاريخ والسينما
كان الاستعراض العسكري للجيش الروماني عام 29 ق.م في روما مناسبة مهمة تطلع إليها سكان المدينة، حيث كان الحدث الأهم في احتفالات دامت ثلاثة أيام متتالية، بمناسبة عودة الجيش الروماني منتصرا من إحدى حملاته، وبحضور ديكتاتور الجمهورية الرومانية بنفسه أوكتافيان، الذي أصبح أول الأباطرة الرومان في ما بعد. كانت حماسة الجمهور لا توصف وهم يتفرجون على الجنود الرومان وغنائم الحرب الكثيرة، محدثين تدافعا وضوضاء شديدين. وتميز الاستعراض كالمعتاد بالعدد الكبير من أسرى جنود العدو المكبلين بالسلاسل، الذين كانوا سيشتركون في فعالية مرعبة في نهاية الاستعراض، ألا وهي إعدام أغلبهم أمام معبد الإله «جوبيتر» في روما. ولم يقتصر الاستعراض على هذا، بل كان يشمل أيضا مشاهدة الجمهور للملك، الذي كانت الحملة ضده وانتهت باحتلال بلده واستعباد مواطنيه وأسره وهو يسير مهانا مكبلا بالسلاسل لينتهي به المطاف إلى الإعدام خنقا على الملأ. ولكن الملك الأسير للأسف لم يكن متوفرا هذه المرة، لأنه كان قد لقي حتفه في موطنه، ولذلك قام منظمو الاستعراض بعمل تمثال من الشمع، ليمثل ذلك الملك المتوفى، الذي لم يكن في الواقع سوى الملكة المصرية الشهيرة كليوباترا.
شهرة كليوباترا
لم تكن كليوباترا ملكة عادية، فقد أسهب المؤرخون الرومان في الكتابة عنها وعن علاقاتها الغرامية مع يوليوس قيصر ومارك أنطونيو اللذين غيّرا تاريخ الدولة الرومانية، صاحبة التأثير الأكبر في الثقافة الغربية الحالية. وبدأت شهرتها في الأدب الحديث عندما قام أكبر كاتب مسرحي في تاريخ بريطانيا شكسبير بكتابة مسرحية شهيرة عنها. ومع تعاظم شأن بريطانيا وتوسع امبراطوريتها، زادت شعبية أعماله المسرحية، وبالتالي شهرة كليوباترا نفسها وعرفها العالم أجمع. ولكن شكسبير، لم يكن الوحيد حيث كتب عنها بعد ذلك سبعة عشر كاتبا مسرحيا، ومنهم الكاتب البريطاني برنارد شو. وبالنسبة للعالم العربي، فقد كان أشهر من كتب عنها الشاعر المصري أحمد شوقي، إذ كتب مسرحية «موت كليوباترا» عام 1929. وظهرت الشخصية في واحد وثلاثين رواية على الأقل وأربعة وثلاثين عملا تلفزيونيا. ومع ظهور صناعة السينما واعتمادها سريعا على مسرحيات شكسبير، فقد كان من الطبيعي أن تظهر كليوباترا في أحد أشهر أفلام السينما الصامتة، وكان ذلك عام 1912 ثم 1917. وكان ذلك بداية لسلسلة من الأفلام بلغ عددها أكثر من عشرين فيلما، اختلفت في مستوياتها الفنية ونجاحها التجاري وطريقتها في معالجة شخصية كليوباترا. ولكن أول ممثلة شهيرة مثلت الشخصية كانت كلوديت كولبرت في فيلم من إخراج سيسيل بي دميل عام 1934. وبعد ذلك قامت الممثلة فيفيان لي بتمثيل الدور عام 1945. وأما أشهر من مثل كليوباترا، فكانت الممثلة الأمريكية اليزابيث تايلر عام 1963 مع ريتشارد برتون (مثل دور مارك أنطونيو) وريكس هاريسون (مثل دور يوليوس قيصر) في فيلم أثار الكثير من الجدل، بسبب المشاكل التي صاحبت العمل فيه، وطريقة تعامله مع الشخصيات التاريخية. وقد سخر بعض النقاد من الفيلم لأنه ركز على اليزابيث تايلر نفسها أكثر من شخصية كليوباترا، حتى أنهم أطلقوا اسم «ليزباترا» على الفيلم، إذ كان ليز، وهو اسم الدلع لاليزابيث تايلر. وهو كذلك الفيلم الذي كاد أن يعرض الشركة المنتجة للأفلاس، حيث كلف أكثر من أربعة وأربعين مليون دولار، ما جعله ألأكثر تكلفة في تاريخ السينما الأمريكية حتى تلك السنة.
ولم يكن الفيلم ملتزما بالحقائق التاريخية، بل اعتمد على مشاهد الديكورات الضخمة، والمعارك التي لم تكن سهلة في تلك الفترة، بسبب عدم توفر التكنولوجيا المتاحة في الوقت الحاضر. وإذا أعتقد المشاهد أن اليزابيث تايلر لم تبدُ مصرية أو يونانية، فإن ريتشارد برتون نسي أنه كان يمثل في فيلم وليس على خشبة المسرح، ما جعل مشاهد الفيلم غير طبيعية. وزاد الطين بلة نشر الصحف عن علاقة غرامية بين اليزابيث تايلر وريتشارد برتون، ما سبب فضيحة كبيرة بمعايير تلك الفترة. وكان الفيلم طويلا جدا، حيث بلغ طوله مئتين وثلاثة وأربعين دقيقة. ولكن إذا اعتمد الفيلم على ما نعرفه من المعلومات التاريخية عن كليوباترا الحقيقية، لكان أقصر بكثير بسبب قلة ما نعرفه عنها من المعلومات المؤكدة.
بدأ التدخل الروماني في الشؤون الداخلية المصرية في بداية القرن الأول قبل الميلاد. واشتمل على التدخل في الحياة السياسية والاستفادة من الاقتصاد المحلي، ما سبب أضرارا اقتصادية واجتماعية بالغة. ووصل تدخل روما إلى حد التدخل في تحديد من يتولى عرش مصر. وكان سبب اهتمام روما بمصر بالذات كونها مصدر الحبوب الرئيسي للدولة الرومانية، وكذلك رغبة الرومان في احتلال جميع شواطئ البحر الأبيض المتوسط، للسيطرة على التجارة فيه ومنع ظهور أي دولة قادرة في المستقبل على تحديهم. كانت كليوباترا من سلالة أسسها بطليموس الأول الذي أصبح ملك مصر عام 305 أو304 قبل الميلاد، ولكنه لم يكن مصريا، بل يونانيا، حيث كان أحد قادة الملك اليوناني الاسكندر المقدوني، الذي أسس امبراطورية واسعة، شملت مصر ومناطق مجاورة. واعتبر الكهنة المصريون ملوك هذه السلالة اليونانية كفراعنة مصريين. وحسب تقاليد تلك الفترة، كان تنصيب الملك يتم بمباركة وأشراف الكهنة المصريين، على الرغم من أن أيا منهم، أي الملوك، لم يتكلم اللغة المصرية، إذ كانت اللغة اليونانية القديمة اللغة الرسمية للدولة، كما كان أغلب سكان عاصمتهم، الإسكندرية، من اليونانيين.
كان أوكتافيان يعتمد في مطالبته للعرش على كونه وريث قيصر. ولكن وجود ابن كليوباترا من قيصر كان يعيق طموحه، ولذلك كان مصير ابن القيصر الاغتيال بعد أن كان فرعون مصر لمدة ثمانية عشر يوما فقط، وهو في السابعة عشرة من عمره.
بدأت مشاكل كليوباترا، عندما أخذت العلاقة بين قطبي السياسة الرومانية، بومبي ويوليوس قيصر، تزداد سوءا، حتى تطور الأمر إلى صراع مسلح عام 48 ق.م، وكانت كليوباترا في تلك الفترة في صراع مع أشقائها، للاستيلاء على السلطة في مصر. وخسر بومبي المواجهة فلجأ إلى مصر، حيث كان متحالفا مع شقيق كليوباترا، الذي دعاه للاجتماع. ولكن ذلك الاجتماع كان في الحقيقة فخا، حيث قتل شقيق كليوباترا بومبي، وقدم رأسه هدية ليوليوس قيصر عندما قدم إلى مصر للحاق بغريمه. واستطاعت كليوباترا لقاء يوليوس قيصر وتمكنت من أغوائه والحصول على دعمه للإطاحة بشقيقها (الذي كان في الرابعة عشرة من عمره وزوجها في الوقت نفسه) بنجاح. وبعد أحداث كثيرة عين يوليوس قيصر كليوباترا ملكة على مصر بالاشتراك مع شقيق (وزوج) آخر لها بلغ من العمر اثني عشر عاما. وأنجبت كليوباترا طفلا من يوليوس قيصر، الذي كان آنذاك متزوجا من سيدة رومانية، وسمته كايساريون، وطلبت من قيصر التخلص من شقيقتها كي تنفرد هي بالحكم.
وغادر قيصر مصر عائدا إلى روما، حيث أخذ شقيقتها إلى روما وأهانها بإشراكها في العرض العسكري المعتاد وهي مكبلة بالسلاسل، ما أثار شفقة الكثيرين وجعلهم يضغطون على قيصر كي لا يحكم عليها بالإعدام. ولذلك، أمر قيصر بنفيها في أحد المعابد الرومانية. وكانت كليوباترا قد لحقت به إلى روما، وحضرت الاستعراض العسكري، الذي ظهرت فيه شقيقتها، وسكنت في أحد منازل قيصر الفخمة كعشيقة له، ما أثار حفيظة بعض كبار السياسيين الرومان. ولكن قيصر تعرض للاغتيال في مجلس الشيوخ، ما أثار مشكلة بالنسبة لكليوباترا، حيث حاولت الحصول على اعتراف بأن ابنها كان الوريث الشرعي لقيصر، ولكن وصية لقيصر ظهرت، مدعية أنه عين قريبه أوكتافيان وريثا له، فعادت كليوباترا إلى مصر غاضبة. ومع ذلك فإن علاقتها بروما لم تنتهِ هنا، حيث تقاسم «أوكتافيان» الدولة مع شريكه مارك أنطونيو، الذي حصل على الجزء الشرقي منها. ولذلك سارعت كليوباترا إلى إقامة علاقة مع أنطونيو وأقنعته بإعدام شقيقتها المنفية في المعبد الروماني، وكان لها ما أرادت مثيرة فضيحة في روما، حيث أمر أنطونيو بقتلها في المعبد، ما اعتبر إهانة للدين الروماني. وفي نهاية المطاف أقام أنطونيو في الإسكندرية، وأنجبت منه ابنين وابنة. ولكن الخلاف سرعان ما دب بين أوكتافيان وأنطونيو وتطور إلى حرب بدأت بمعركة بحرية في تركيا عام 31 ق.م.، وقيل إن أنطونيو خسرها بسبب قيام كليوباترا بسحب أسطولها من المعركة، تاركة قوات أنطونيو بمفردها. وكانت النتيجة خسارة المعركة وعودة الاثنين إلى مصر. وقام أنطونيو بالانتحار عام 30 ق.م. عندما كان أوكتافيان يقترب من الإسكندرية. أما كليوباترا، فعينت ابنها من قيصر ملكا على مصر، وانتحرت في السنة نفسها، عندما علمت أن أوكتافيان يعتزم أخذها مع أطفالها إلى روما كي يعرضها، أمام الجماهير في الاستعراض العسكري.
المرأة ذات الجمال الباهر
كان أوكتافيان يعتمد في مطالبته للعرش على كونه وريث قيصر. ولكن وجود ابن كليوباترا من قيصر كان يعيق طموحه، ولذلك كان مصير ابن القيصر الاغتيال بعد أن كان فرعون مصر لمدة ثمانية عشر يوما فقط، وهو في السابعة عشرة من عمره. وأما أبناء كليوباترا من أنطونيو، فلم يبقى منهم على قيد الحياة سوى الفتاة التي تزوجت في ما بعد من أحد ملوك شمال افريقيا التابعين لروما. كان الكثير من التفاصيل التي ذكرت عن كليوباترا من مؤرخين لم يعرفوها فحسب، بل عاشوا في فترات لاحقة، ولذلك فقد كانت المبالغات عنها كثيرة، فمثلا وصفها ديوكاسيوس بالمرأة ذات الجمال الباهر. أما بلوتارك فلم يقل ذلك فحسب، بل أضاف أنها تكلمت العديد من اللغات ومنها المصرية والعربية واللاتينية ولغات أخرى. ولكن الشكوك تحوم حول الكثير مما قيل عنها وتفاصيل حياتها. ومن هذه التفاصيل مثلا جمالها، فإذا أُعتُبِرَت التماثيل القليلة عنها والنقود المعدنية التي حملت صورتها مرجعا، فلا علاقة لكليوباترا بالجمال، إلا إذا كانت معايير الجمال في تلك الفترة مختلفة عما هي الآن. وبشكل عام وصفها المؤرخون الرومان على شكل المرأة الشرقية الخطيرة التي كانت تغوي بأساليب غير أخلاقية قادة روما وتحطمهم. وفي الواقع أن يوليوس قيصر ومارك أنطونيو، ربما فرضا إرادتهما عليها بدون أي أغواء منها، فلم يكن الاثنان من ذوي الأخلاق العالية. ومن الممكن القول أيضا إن كليوباترا كانت امرأة وجدت نفسها في ظروف غير عادية ووسط صراعات لقوى دولية أكبر منها بكثير، فحاولت بإمكانياتها المتواضعة استغلال الموقف لصالحها للبقاء على قيد الحياة بدون جدوى.
هنالك جهود حثيثة في الوقت الحالي للعثور على قبر كليوباترا، الذي قد يضم كذلك رفات أنطونيو. وعلى الرغم من الادعاء المستمر لبعض علماء الآثار بقرب العثور عليه، فإن أغلب العلماء لا يعتقدون بإمكانية ذلك. ويعلل هؤلاء أن القبر على الأغلب قد انتهى به المطاف في قعر البحر قبالة ساحل الأسكندرية. ومن الممكن القول أيضا إن القبر ربما لم يوجد أصلا، حيث أن وجوده قد ذكر من قبل مؤرخين لم يشاهدوه، ولم يذهبوا إلى مصر. وبما أن كليوباترا انتحرت بعد احتلال أوكتافيان، للإسكندرية، أو أنه أمر باغتيالها، وهذا احتمال، فمن الممكن القول إن جثتها ربما رميت في العراء لتأكلها الحيوانات.
انتهت السلالة اليونانية التي حكمت مصر بمقتل كليوباترا، ولا يعرف إن بقي أي من أفرادها على قيد الحياة بعد ذلك، حيث اختفى أي ذكر لشقيق كليوباترا الثاني، ويعتقد أنها اغتالته قبل أن تعين ابنها ملكا على مصر، وبذلك يكون ابنها آخر من حكم مصر كمملكة مستقلة، حيث أصبحت بعد ذلك منطقة تابعة للامبراطورية الرومانية، وكتب الكهنة المصريون بعد ذلك أن الفرعون الجديد يدعى أوكتافيان. وكان من نتائج هذه الصراعات في الإسكندرية احتراق منارة ومكتبة الإسكندرية الشهيرتين. على الرغم من تبني الأدب والفن الحديث لشخصية كليوباترا وتحويلها إلى رمز للدهاء والإغواء والرومانسية، فإنها لم تكن الملكة الوحيدة في هذا المضمار، نظرا لوجود ملكة تدمر زنوبيا التي أدعت أنها من أحفاد كليوباترا. ولكن الأكثر بروزا كانت الملكة الآشورية سميراميس التي حولها المؤرخون القدماء إلى أسطورة خالدة في الأدب القديم.
باحث ومؤرخ من العراق