على هامش تقرير ستورا: بعيداً عن ثقافة الضغينة
منذ سنوات طويلة تثير قضية الاعتراف بجرائم الاستعمار والاعتذار، نقاشاً حاداً يسمم العلاقات بين البُلدان التي يجمعها تاريخ حربي مشترك. بالنسبة للجزائر، فقد انتهت اتفاقيات إيفيان الماراثونية إلى فكرة العفو الشامل من الطرفين، لكي يسمح للشعبين بالذهاب بعيداً في مشروع التعاون والعيش المشترك. لكن أجيال ما بعد الاستقلال، صارت تطالب بضرورة معرفة ما حصل لآبائها وأجدادها، وإعادة قراءة التاريخ المشترك، والوطني تحديداً، بعين ناقدة بحثاً عن الحقيقة. في التاريخ الوطني أيضاً الكثير من الزوايا التي ظلت في الظل، ومن حق الأجيال الجديدة معرفتها، واعتبارها جزءاً من التاريخ الوطني. مثلاً، ماذا حدث بالضبط بين المساليين والجبهويين؟ أحداث ملوزة؟ اغتيال عبان رمضان وغيره من القادة؟ لابلويت La Bleuïte، وعميروش وذبح المئات من المثقفين بسبب وشاية استعمارية غير صحيحة؟ معركة الجزائر وأبطالها الذين أصبحوا أعداء بعضهم البعض (يوسف سعدي وزهرة ظريف؟) وغيرها من الوقائع التي تحتاج فيها الجزائر اليوم إلى شجاعة كبيرة لوضعها في سياقها والحديث عنها. بذل الجهد بهذا الاتجاه وتحويل المسألة إلى قضية تاريخية يهم الأجيال التي تريد معرفة الحقيقة حتى ولو كانت مرة. للأسف، فقد ظلت الجهة الجزائرية، من هذه الناحية، صامتة وبلا اقتراحات ولا تقرير، وكأنها غير معنية بما يدور من حولها. على العكس من الجهة الفرنسية، فقد قدم المؤرخ والباحث المختص في الشأن الجزائري- الفرنسي، بن يامين (بن جامان) ستورا، تقريراً من 200 صفحة، لرئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون الذي كان قد كلفه به. الهدف المبتغى هو إخراج العلاقات الجزائرية الفرنسية من حالة الانسداد، إذ لا يمكن أن تظل الأجيال رهينة خطابات الكراهية، ومن أجل تنقية الأجواء النفسية بين الشعبين. التقرير بيّن أن الرحلة ما تزال طويلة. لا الجزائري عموماً، مستعد لنسيان 130 سنة من الإبادة والتقتيل، ولا الفرنسي قادر على القيام بقفزة كبيرة وشجاعة. اللوبي الاستعمار ما يزال قوياً وحاسماً. منذ البداية، استبعد الرئيس الفرنسي، استجابة للضغط، تقديم «اعتذارات» عن حرب الجزائر، عقب تسلمه التقرير، وتحدث عن خطوات رمزية لمعالجة ملف تاريخي شائك. فقد أعلن مثلاً عن مشاركته في ثلاثة احتفالات تذكارية في إطار الذكرى الستين لنهاية حرب الجزائر في 1962، هي: اليوم الوطني للحركى (عملاء الاستعمار الفرنسي) في 25 سبتمبر / أيلول، وذكرى قمع مظاهرة الجزائريين في باريس في 17 أكتوبر / تشرين الأول 1961 وتوقيع اتفاقيات إيفيان في 19 مارس / آذار 1962 التي أدت إلى استقلال الجزائر.
التقرير خطوة جبارة، مهما كانت النقائص، لزحزحة كتلة المسبقات الثقيلة والخروج من دائرة الصمت. على الرغم من كون ستورا من أهم المؤرخين المختصين في الحرب الجزائرية الفرنسية، وأكثرهم موضوعية وحساسية، فهو من مواليد قسنطينة، ويتنقل بين الضفتين في مهامه العلمية بسهولة، لكن نظرته في التقرير لم تكن شمولية كما انتظرها المهتمون بالشأن الجزائري-الفرنسي. فقد حصر موضوع تقريره بين سنوات 1954-1962، أي فترة الثورة الوطنية، بينما يتعلق الأمر في الجوهر بالمسألة الاستعمارية، أي منذ 1830. لا يمكن فصل السابق عن اللاحق، أي منذ ترحيل الداي حسين والاستيلاء على الخزينة والذهب كما جسدته الكثير من المؤلفات التاريخية الفرنسية الموضوعية، إلى المقاومات الوطنية التي كانت مخلفاتها في الأرواح والنهب كبيرة، كمحرقة جبال الظاهرة، والتشريد والتقتيل، والاستلاب الممنهج للأراضي. من المفيد جداً أن تعرف الأجيال هنا وهناك ما حدث في الجزائر. تاريخ الاستعمار كلي وليس جزئياً. هو فعل اغتصاب أرض بالقوة واستعباد شعب، وليست حقبة 54-62 إلا فصلاً صغيراً من فصول هذا الصراع المستميت من أجل الحرية.
من هذا المنطق قدم ستورا سلسلة مقاربات مهمة. فقد اقترح تكوين لجنة مشتركة «ذاكرة وحقيقة» تعتمد على المؤرخين، تختص في البحث عن الحقيقة، وتقدم سلسلة من المبادرات لتخطي معوقات الصمت. المشكلة الوحيدة هي، إلى أي مدى تكون اللجنة مستقلة من الجهتين ويسمع لمقترحاتها؟ لم يفت التقرير الإلحاح على تثبيت بعض التواريخ التي تجمع بين الشعبين، كالاحتفالات الرمزية: اتفاقيات إيفيان، ومظاهرة أكتوبر في باريس، والحركى. على الرغم من أن مسألة الحركى هي مسألة فرنسية – فرنسية وحلها يخص فرنسا، لكن امتداداتها في الجزائر كبيرة. لا يمكن منع الفرنسيين من الاحتفال بيوم الحركى في 25 سبتمبر، لكنه من المستحيل رؤيته من نفس الزاوية. هؤلاء كان دورهم قاسياً على شعبهم. من الصعب أيضاً تسهيل السفر للحركى وأبنائهم، بين البلدين. إذا كان الأمر عادياً بالنسبة لأبنائهم، إذ ليس للأبناء أن يدفعوا ثمن أخطاء آبائهم، سيكون الأمر صعباً بالنسبة للحركى. يذكّرنا هذا الأمر بما حدث في فرنسا مع «الكولابو Les colabos» ومطاردتهم من خلال موجة التصفية vague d’épuration في الأربعينيات التي اشترك فيها الجنرال شارل دوغول نفسه عندما رفض العفو على الكاتب برازياك مثلاً، المتهم بالخيانة والتعامل مع النازية، على الرغم من مناشدة كبار المثقفين. هذا الأمر يحتاج حقيقة إلى وقفة تأملية. ما حدث للحركى، في ظل فوضى الاستقلال الجزائري وتخلي الفرنسيين عنهم، كان درامياً، لكن من الصعب نسيان ما فعلوه في شعبهم. بين وضعية المتعاون ووضعية الخائن، يصعب الاتفاق.
ما قدمه التقرير من مقترحات كإعادة سيف الأمير، والبحث في مصير مدفع «بابا مرزوق» الذي تم استعماله للدفاع عن ميناء الجزائر عام 1830 وحجزته فرنسا قبل أن تنصبه في ميناء بريست، والاعتراف باغتيال المناضل علي بومنجل في 1957، والاهتمام بمقابر المسيحيين واليهود، على أهميتها الرمزية، ليست اقتراحات ذات قيمة استراتيجية، فهي تحصيل حاصل، لأن استرجاع سيف الأمير ومدفع بابا مرزوق، يمكن أن يحدث من خلال اتفاقية ثنائية في شكل هدية أو ما شابه ذلك، والاعتراف باغتيال بومنجل، وحتى تعذيب واغتيال الشهيد العربي ابن مهيدي الذي لم يذكره التقرير، لم يعد سراً. فقد اعترف الجنرال أوساريس في مذكراته بذلك، وكان مسؤولاً في القيادة العسكرية الفرنسية في معركة الجزائر. كان أجرأ من الإيتابلشمنت الفرنسي. بالنسبة لقضية المقابر المسيحية واليهودية، سبق أن أصدر منذ سنوات الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، أمراً بذلك وتم ترميمها، والممثل القدير روجي حنين الذي طلب أن يدفن في الأرض التي ولد فيها وأحبها، كان له ذلك، ودفن بشكل يليق بقيمته الفنية والثقافية في الجزائر. من المقترحات المهمة، نشر «دليل للمفقودين» الجزائريين والأوروبيين خلال النزاع) ؟) وإجراء أبحاث حول التجارب النووية الفرنسية في الصحراء وتداعياتها، وقضية استعادة بعض الأرشيف، ورفع السرية عن الوثائق، وإعادة تفعيل مشروع متحف تاريخ فرنسا والجزائر، الذي كان من المزمع إقامته في مونبلييه، وغيره. السؤال الكبير: هل هذه الاقتراحات كافية لإزالة الضغائن والأحقاد التاريخية؟ يكفي أن نتأمل ما حدث من ردود فعل في فرنسا بعد الإعلان عن التقرير. فقد كان رد فعل اللوبي الاستعماري سلبياً، وبدل التنبه للتقرير ومعالجة نقائصه، تم تحريك النقاش باتجاه آخر حول النظام الجزائري، وتقتيل الحركى، وصراعات الحركة الوطنية، غيرها من المهارب. الجزائر الرسمية ظلت غائبة وكأن الأمر لا يعنيها، وهذا أفدح.