السردية الفلسطينية للنكبة والتوازن المستعاد في الأدب والسينما
لا فرصة للمصدوم في الخيال. حالما يستعيد وعيَه، أو توازنه، أول ما قد يفعله هو التوثيق. وحديثي هذا يخص الصدمة الجماعية أولاً، ورد الفعل الفني ثانياً. بتحديدٍ أكثر، يخص النكبة وحالة التراوما التي دخلها الشعب الفلسطيني بقسمَيه، داخل الوطن وخارجه، ورد فعله الفني/الثقافي على ذلك.
أنطلقُ، في هذه الفرضية، مما قاله المخرج الفرنسي جان لوك غودار في فيلمه «موسيقانا» موصفاً حال الفلسطينيين إثر النكبة. يقول إن «اليهود دخلوا مجال (الفيلم) الروائي في حين دخل الفلسطينيون مجال (الفيلم) الوثائقي». فكان، كما نفهم من غودار، على الفلسطينيين منذ عام 1948 توثيق مأساتهم، وكان على الإسرائيليين اختراع سرديتهم. كان على الناجين تسجيل ما نجوا منه، ليبنوا عليه سرديتهم لاحقاً، وكان على الغازين لحظة تأسيس دولتهم على أرض غيرهم، إعادة اختراع الأساطير التي أتوا مظللين بها، إلى هذه الأرض، وإعادة تأسيسٍ لسردية تبدأ من هنا، فلسطين، تعتمد على الخيال.
بالعودة إلى النتاج الفني الفلسطيني، ما بعد النكبة، أدباً وسينما، ندرك دقة توصيف غودار، عطفاً على منطقيته في سياقات غير فلسطينية. فقد احتاج الفلسطينيون أعواماً امتدت حتى الستينيات للخروج من حالة الصدمة، فتجسدت سياسياً/نضالياً حالةُ استعادة الوعي والتوازن، بتأسيس تنظيمات الثورة وبدء الكفاح المسلح، وانعكس ذلك أدبياً. هنا انقلب الفلسطينيون على خيام اللجوء محولينها إلى خيام فدائيين، كما كتب غسان كنفاني عام 1969 في روايته «أم سعد» معلناً أن «خيمة عن خيمة تفرق».
هذه المرحلة من تاريخ الفلسطينيين انعكست أدباً وسينما، فكان الأدب توثيقاً لحظياً، وما كان هنالك من يعود عشرين عاماً ليستعيد النكبة ضمن سردية شاملة، كما هو الحال بعد سنوات طويلة من ذلك. فكتب كنفاني وكذلك جبرا إبراهيم جبرا وآخرون، توثيقاً للحظة التاريخية التي يعيشونها، كتبوا سياقاتهم. كتبوا عن الفلسطيني خارج فلسطين في زمن هو التالي للنكبة. هو زمنهم وقد استعادوا فيه توازنهم الجمعي والفردي. ومثلهم كتب إميل حبيبي توثيقاً للحظةِ الفلسطيني الباقي داخل الوطن، المواجه للحكم العسكري الإسرائيلي، المتثبت مكانه كنوع من استعادة التوازن، وقد فقد جيرانَه وأهله ممن صاروا لاجئين.
نجد، طبعاً، تنويعاً سريعاً (ولا أسميه استثناءات) في بعض قصص كنفاني التي تعود إلى النكبة، أو نصوص حبيبي التي تعود بالزمن كذلك. أما جبرا، ولذاتية كتاباته، فكان أقرب من رفيقَيه في كتابتة لحظته وتوثيقِها.
النتاج الأدبي الفلسطيني
هذه الأسماء هي النماذج الأساسية في النتاج الأدبي الفلسطيني آنذاك، وأسماء أخرى (عربية كذلك) مجانبة لها، كانت كذلك توثق لحظتها، حكت عن الفدائي ومعاركه، وكان، وهذا مبحَث آخر، النثر قد تركز ضمن هذا النتاج لدى الخارجين من فلسطين، في حين تركز الشعر لدى الباقين فيها (محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وآخرون). عن تلك الفترة كتب فيصل دراج: «كأن على الفلسطيني أن يسجل رواية المنفى، في انتظار زمن سوي. لا يكتب الإنسان المنفي عن هشاشة الوجود، بل عن الإنسان المقاتل من أجل العودة إلى وطنه. تدور رواية المنفى الفلسطيني حول النصر واليقين وعودة الحق الأكيدة». قائلاً إن ما يميز هذه الرواية هو «الأمل» فـ»تعوض رواية الأمل بؤس الحاضر بنعيم المستقبل، مقررةً، دائماً، نهاية سعيدة. ولعل النهاية السعيدة التي انتهت إليها الروايات الفلسطينية، في فترة صعود الكفاح المسلح، هي التي جعلت منها رواية واحدة، تبرهن على انتصار الأمل بأشكال مختلفة».
حديث دراج هذا تناول الرواية في سياقها، الرواية الفلسطينية التي كُتبت في زمن المد الثوري كرد على بؤس الحاضر لبناء نعيم المستقبل (اليوتوبي). زمنٌ كانت الثورة الفلسطينية فيه حلماً متحققاً، زمن أدب الثورة والمقاومة. فما كان للروائيين، آنذاك، سوى الاستسلام لهذه الأحلام ولرومانسيتها ومثاليتها (حيث الحتمية التاريخية، كمفهوم ماركسي، بالانتصار) لكتابة شخصيات في سياقاتها وحكايات منها وحولها، وصعبَت بالتالي العودة إلى أصل الحكاية، النكبة وما فيها من فقدان وتشرد ولجوء وخيام، في زمن الانتصارات الصغيرة وإن كانت معنوية. وكان الأدب الفلسطيني آنذاك، لذلك، نموذجاً لما قاله غودار، ككتابة أقرب للتسجيلية للحظةٍ كان لا بد من توثيقها أدبياً وكذلك سينمائياً.
«رجال في الشمس»
في موازاة هؤلاء، وبشكل أكثر مباشرةً، لطبيعتها التقنية أساساً، كانت السينما الفلسطينية تحكي عن الأمل الذي كتب عنه دراج، إنما بمضامين سياسية راهنة وأقرب إلى التقريرية، كانت تصور العمل الفدائي في تسجيلات وثائقية، في تصوير اللحظة التي يعيشونها. لعل أفلام مصطفى أبو علي النضالية هي النموذج الأوضح لذلك، لكن أيضاً، كانت هنالك أفلام «روائية» قليلة أنتجتها منظمة التحرير الفلسطينية، أذكر منها فيلم «المخدوعون» لتوفيق صالح، المأخوذ، كذلك، عن رواية كنفاني «رجال في الشمس». هذا كان حال السينما الفلسطينية آنذاك، لحظة أوج الثورة، حيث لا وقت للرجوع إلى النكبة، لاستذكار المأساة، لم يكن هنالك وقت ولا رغبة ولا «راحة بال» لاستعادة الأساس في كل ما حصل، ولا مكان آنذاك، للروائي بمعناه التخيلي، مقابل تسيد التوثيقي في مجالَيه، الأدب والسينما، وكان ذلك على كل حال، في لحظة كان لا بد من توثيقها أدباً وسينما.
لكن، لمَ تركّز النتاج الفني للفلسطيني اللاجئ/الفدائي في السرد، توثيقاً وخيالاً؟ وهل لا بد من الخروج من معادلة جان لو غودار تلك، أي خروج الفلسطيني من الوثائقي إلى الروائي؟ من كونه موضوع العمل (الرواية والفيلم) إلى كونه واضعه؟
أقترح إجابةً على ذلك من كلمات إدوارد سعيد. في سؤال له عن تركيزه على السرد مقابل الشعر، عموماً، يقول سعيد إن ذلك «منتَج مباشر للتجربة الفلسطينية» ويحيله سعيد إلى «الإجبار على الرضوخ لسردية الأسياد» قائلاً إن هذه السردية كانت مهيمنة إلى أقصى الحدود. يضيف: «من الأمور التي حاولت القيام بها، إعادة بناء مسألة السردية بكل قوتها وسلطتها، لكشف مدى تفشيها الاجتماعي السياسي في كل مكان. وبعدما فعلت ذلك، بدأت أبحث عن بدائل لها. ليس فقط عن سردية مضادة، كما في حالة إعادة بناء الهوية الفلسطينية بعد عام 1948، مثلاً، التي طالما أثارت اهتمامي، أو بداية ظهور موقف سياسي فلسطيني بالحصول على إذن بسرد روايته هو، وكل ما إلى ذلك، بل اهتممت أيضاً باستراتيجيات السرديات المضادة من نوع آخر».
يتحدث سعيد عن الحكاية الفلسطينية كسردية مضادة لتلك الإسرائيلية المتأسسة على أرض فلسطين (الحكاية التي دخلوها عام النكبة كما قال غودار) إنما بحكاية متأسسة خارج الأرض في المخيمات، والحكاية المقصودة هنا هي النكبة كمرحلة مؤسسة للهوية الفلسطينية المعاصرة وللثورة والنتاج الفني المتعلق بها، إنما، بدون أن تلقى المساحة الكافية لروايتها، لحكيها، لتصويرها، لصناعتها من واقعٍ، كما صنع الإسرائيليون حكايتهم من أساطير، كي تكون، فعلاً، حكايتُنا لما حصل وكيف ولماذا حصل، الروايةَ المضادة الندية لما يبثه الأسياد/المحتلون.
«السردية المضادة»
في مراحل تالية من زمن الثورة الفلسطينية، إلى اليوم، تقدمَ الفلسطينيون أكثر في العالم الروائي مبتعدين، قدراً ما، عن العالم الوثائقي. لا يكون ذلك فقط بالرجوع إلى ما قبل زمن الصدمة، إلى النكبة والبحث فيها، روائياً، لبناء سردية مضادة لسردية الأسياد، وفي ذلك روايات فلسطينية وعربية طرحت حكايات من النكبة وحولها، بل يكون كذلك في الاستعادة السينمائية للنكبة، فتروي الأفلام تلك الحكايات، وهذا تحديداً ما ينقص السردية الفلسطينية المنقولة فنياً اليوم، وهذا ما يجعل «السردية المضادة» للحكاية الأولى، للصدمة الأولى، مقتصَرة، اليوم، على الأدب، في بعض منه. أما السينما الفلسطينية فماتزال حيث كان الأدب في زمن الثورة، ماتزال محدودة بالأمل الذي تلاشى إثر الثورة، وإن صورت يأساً فيكون لحادث راهن. لم تخرج هذه السينما عن كونها تصويراً للراهن، توثيقاً بشكل روائي أو وثائقي لحدث آني، مسحوبةً، أكثر، إلى اللحظة التي يسهل استيعابها وتقبلها (عالمياً) لاعتبارات لا فنية ولا تاريخية، وهي اللحظة الراهنة.
هذا خلل في سرد الفلسطينيين لنكبتهم، في نقل حكاياتها روائياً ووثائقياً وبناء سردية مضادة وندية في أساس ما حصل عام 1948. وهذا يخل في توازن عموم النتاج الفني لنقلِ حكاية الشعب الذي استعاد توازنه الوجودي في ثورته المعاصرة.
كاتب فلسطيني