خلوة مع النفس بصوت مسموع
المتاعب الإضافية للنشطاء في منظمات المجتمع المدني
كاظم حبيب .
تشكل المشاركة الطوعية الفاعلة والمؤثرة في أي من مجالات العمل الإنساني النبيل، في منظمات المجتمع المدني الديمقراطية، التي تتجه صوب الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق المرأة وحقوق الطفل أو حقوق أتباع الديانات والمذاهب، أو دفاعاً عن السجناء والمعتقلين والموقوفين بذمة التحقيق وحماية حقوقهم التي تقرها الدساتير الديمقراطية والقوانين المرعية ورفض أي شكل من أشكال التعذيب النفسي والجسدي بهدف انتزاع اعترافات غير مشروعة منهم أو بهدف الانتقام الأيديولوجي أو الديني أو السياسي او الحق العام من السجين أو المعتقل والموقوف، إضافة إلى الدفاع عن الأمن والسلام في المنطقة والعالم، وضد العنصرية والطائفية والتمييز الديني ومن أجل الحقوق المدنية والمهنية… إلخ. ومن يعمل في هذه المجالات في بلدان مثل العراق أو سوريا أو مصر أو جميع الدول العربية دون استثناء وفي غالبية الدول النامية، امرأةً كانت أم رجلاً، لن يجدا أمامهم وروداً ورياحين مفروشة على طريقهما غير المعبد، بل غالباً ما يتعرضان للملاحقة والمساءلة والاعتقال والتعذيب والسجن بل حتى الاغتيال أو الاختطاف والتغييب. ولكن في نفس الوقت يجد المشارك والمشاركة في هذه النشاطات المدنية والديمقراطية لذة خاصة حين يجدا أن نضالهما وعملهما الشاق في هذا المجال قد أثمر عن إطلاق سراح سجين أو إيقاف تعذيب معتقل أو حقق نجاحاً في ضمان بعض أو كل حقوق أتباع الديانات والمذهب المختلفة وحقهم في ممارسة عباداتهم وطقوسهم المحترمة بكل حرية واطمئنان أو حقق النازحون بعض حقوقهم المصادرة. كما يسعدهما أيما سعادة حين يجدا أن المرأة قد حققت بعض أهم حقوقها وصولاً إلى التمتع بكل الحقوق والواجبات كبقية المواطنين الذكور، لا من حيث التشريع فحسب، بل والممارسة اليومية.
لا يمكن للعاملات والعاملين في حقل النشاط المدني الديمقراطي دفاعاً عن حقوق الإنسان وكرامته وحرياته العامة أن يتحكموا بأوضاع بلدانهم وما يتعرضون له على أيدي حكوماتهم وأجهزتها الأمنية أو غيرها، كما لا يمكنهم التحكم بما يعانون منه على أيدي الميليشيات الطائفية المسلحة أو قوى الجريمة المنظمة أو قوى الإرهاب الدولي إن لم تمارس الدولة بسلطاتها الثلاث دورها في التصدي لهذه القوى ومنعها من إيذاء العاملات والعاملين النشطاء في منظمات المجتمع المدني الديمقراطية. فهم لا يملكون السلطة ولا القوة ولا يمارسون العنف في نشاطهم، بل هم يمارسون عملهم على وفق أسس حقوقية وسلمية وديمقراطية يهمهم إيقاف كل أشكال مصادرة حقوق الإنسان. كما لا يمكن إخفاء حقيقة مشاركة الحكومات ذاتها وعبر أجهزتها الأمنية والإدارية والاقتصادية في إنزال المزيد من التعذيب على مواطنيها بصيغ كثيرة ومتنوعة ومدمرة، كما هو الحال في العراق وسوريا ومصر والسعودية … وغيرها.
إن عمل النشطاء المدنيين في الحقول المتنوعة لمنظمات المجتمع المدني لا يخلو من عثرات ومشاكسات وانفعالات وأوضاع نفسية معقدة بالارتباط مع أوضاع بلدانهم، وكذلك المنافسات والاختلافات في وجهات النظر والخلافات الشخصية التي كلها لا تؤثر على العلاقة الشخصية السلبية بين شخصين مثلاً، التي يفترض أن تكون مهنية وخاضعة للمعايير الأساسية التي يعتمدها الناشط المدني في مجال حقوق الإنسان، وفي المقدمة منها كرامة الإنسان، فحسب، بل إنها تؤثر مباشرة وشكل سلبي على مجمل عمل هذه المنظمة أو تلك من منظمات المجتمع المدني، أو حتى على أكثر من منظمتين وعلى النتائج التي يفترض تحقيقها في العمل الإنساني الذي أخذ الجميع على عاتقه تحقيقه دون أن ينتفعوا كأشخاص من وراءه. إن أقسى وأقصى ما يحصل هي الإساءات الشخصية التي تترك جروحاً وندباً لا تزول بسرعة وسهولة. وكم يتمنى الإنسان أن يجري التفكير بما يقال قب خروج الكلمات من فمه إذ بعدها لا يمكن إعادتها. وكان الإمام علي مصيباً بما نسب إليه قوله: “ليت رقبتي كرقبة البعير، كي ازن الكلام قبل النطق به“.
لقد تسنى لي خلال العقود الأربعة الأخيرة من العمل في عدد غير قليل من منظمات المجتمع المدني، أحياناً كعضو في الهيئات العامة، وأخرى في هيئاتها الإدارية، أو في أماناتها العامة، أو كمؤسس أو مستشار متطوع لها. وخلال هذه الفترة عشت تجارب غنية زادتني وعياً وإدراكاً وقناعةً بأهمية وضرورة هذا المجال الحيوي من نشاط الإنسان دفاعاً عن الإنسان والمجتمع من جهة، وزادتني قناعة بوجود كثرة كبيرة من البشر، نساء ورجالاً، ممن لا يهتم بأي موقع في هذه المنظمات، بل همه يتركز على مخرجات العمل لصالح الإنسان، ويسعى بكل الجهود الممكنة تلافي حصول احتكاكات أو مشكلات أو انفعالات أو إساءات مؤذية للعمل بشكل عام من جهة ثانية. كما تكونت لديَّ قناعة بأن هذه المجالات لا تخلوا من مشكلات تحصل أثناء العمل من الممكن معالجتها، ما لم تتغلب النزعة الذاتية في علاقات العمل في الشأن العام. فقد عرفت صيغاً أخرى من عمل بعض العاملات والعاملين في هذه الحقول الحيوية ممن اعتقد أنهم ما كانوا يقصدون الإساءة أو الإيذاء، ولكن أسلوب عملهم وطريقة تعاملهم مع الآخر والزاوية التي ينظرون منها إلى طبيعة عملهم، إضافة إلى عدم تعرفهم وتعودهم على العمل الجمعي، أو رغبتهم في العطاء الذي يبرزهم كأفراد في المقدمة قياساً لزملاء لهم يشاركونهم العمل وفي المنجزات المتحققة، كانت تساهم في تعقيد العلاقات الشخصية مع زميلات أو زملاء لهم وتتحول الأمور إلى نزاعات شخصية تترك أثرها البالغ على مجمل العلاقات الإنسانية والحضارية الضرورية للعمل.
لا شك في أن العمل التطوعي في هذه الحقول الإنسانية النبيلة هو شرف لكل العاملين، ومن حق العاملين فيه أن يعتزوا بذلك وأن يتنافسوا بكل ود في تقديم الأفضل لا من خلال المنافسة غير الودية والإيقاعية بالآخر، بل من خلال المنافسة الودية التي تحرك الآخر صوب تقديم الأفضل والأمثل لصالح الناس الذين تسعى هذه المنظمة أو تلك تقديم الخدمة لهم ودعمهم أو خلاصهم من أوضاع غير إنسانية.
لقد مررت بتجارب غنية، دافعة ومحفزة وأخرى محبطة ومضرة. فعلى سبيل المثال عمل بعض الأعضاء، شاؤا أم أبوا، بتجميد فعلي للعمل في منظمة كبيرة ومهمة في ألمانيا بأمل الهيمنة الشخصية الكاملة عليها، واعتبارها تابعة لشخص واحد لا غير، وبالتالي توقفت هذه المنظمة عن العمل لصالح الجميع وغابت عن النشاط الفعلي لصالح الإنسان في الدول العربية، وأعني بها “منظمة حقوق الإنسان في الدول العربية/ألمانيا (أمراس)”، التي قطعت حتى علاقتها بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة.
إن العمل في هذه المجالات تطوعي ويحق لمن يعمل فيه أن ينسحب منه في كل لحظة دون أن يسبب له ولغيره مشكلات لا مبرر لها، رغم إن الأمل يحدو بي وبغيري أن يواصل الجميع هذا العمل الإنساني ويساهم في زيادة المؤيدين والملتحقين بالعمل التطوعي والإنساني. يكفي الجميع ما يعانونه من حكومات بلدانهم أو قوى عدوانية فيها، ولا حاجة لهم لنشوء مشكلات وخلافات شخصية لا أساس ولا مبرر لها. فنحن جميعاً نشكل جزءاً من جمهرة كبيرة من العاملين المخلصين على الصعد المحلية والإقليمية والدولية في هذا المجال وعلينا الانفتاح العقلاني والإنساني على الجميع.
يحق للحزبيين وغير الحزبيين أن يعملوا في هذه المجالات شريطة أن يتخلى الحزبيون عن حزبيتهم حين يمس العمل مجال نشاط منظماتهم وأن يتحلوا بالحيادية والوقوف إلى جانب المبادئ التي تمليها عليهم مبادئ المنظمة وقواعد العمل فيها. وأن يمتلكوا الشجاعة والحزم في نقد او إدانة حزبهم حين يرتكب خرقاً لحقوق الإنسان مهما كان صغيراً. إن قواعد العمل في منظمات المجتمع المدني صارمة ويستوجب علينا دارستها واتقانها والالتزام بها ما دمنا قررنا العمل في هذه الحقول الإنسانية النبيلة.