لقاء ريتشارد نيكسون والفيس بريسلي: كيف اخترق «نجم الروك» أعراف البيت الأبيض؟
قد تبدو الصورة وكأنها من أفكار أحد هواة تزوير الصور، فهي تبين لقاء بين أشهر شخصيتين على الإطلاق في العالم عام 1970، وهما الرئيس الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون، الذي يعد الزعيم الأكبر ورمز الثقافة السياسية في العالم الغربي، يصافح المغني الفيس بريسلي، الذي كان رمز الفن الاستعراضي في العالم. ولكن الصورة حقيقية تماما وتعتبر الصورة الأكثر مبيعا في تاريخ مؤسسة الأرشيف الوطني في الولايات المتحدة. ولها حكاية مثيرة للاهتمام، فعلى الرغم من أن الرجلين كانا في القمة في مجاليهما، وحديث الإعلام والعالم آنذاك، فإنهما كانا كذلك الأكثر تناقضا.
كان الفيس بريسلي يحتفل باكرا بأعياد الميلاد في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 1970. وشمل احتفاله إهداءه لأصدقائه عشر سيارات مرسيدس واثنين وثلاثين مسدسا، وبلغت تكلفة ذلك مئة ألف دولار، وكان ذلك مبلغا جسيما بالنسبة لمعايير تلك الفترة (أكثر من مليون دولار وفقا للمعايير الحالية) ما أثار حفيظة زوجته ووالده اللذين تشاجرا معه يوم التاسع عشر من ديسمبر 1970 حول كرمه المبالغ فيه. وغادر الفيس المنزل ساخطا واستقل طائرة إلى واشنطن العاصمة، حيث حجز غرفة في فندق واشنطن، ثم سافر إلى لوس أنجليس ليعود إلى العاصمة ليلة العشرين من ديسمبر مع أحد مساعديه.
رسالة إلى نيكسون
وكان على متن الطائرة عضو مجلس الشيوخ جورج ميرفي، الذي كان ممثلا سينمائيا قبل دخوله عالم السياسة. وتعارف الاثنان على بعضهما بعضا في الطائرة، وأبدى الفيس رغبته في الحصول على شارة مكتب المخدرات والأدوية الخطرة، وهو مؤسسة حكومية مسؤولة عن محاربة المخدرات، ولكن جورج ميرفي قال له استحالة هذا إلا عن طريق رئيس الجمهورية ريتشارد نيكسون. ولذلك طلب الفيس بريسلي من طاقم الطائرة أوراقا بيضاء، فأعطوه أوراقا عليها اسم شركة الطيران، وكتب رسالة تكونت من ست صفحات موجهة إلى رئيس الجمهورية يعبر فيها عن انزعاجه من الانحطاط الأخلاقي في الولايات المتحدة، والنفوذ الشيوعي فيها، ورغبته في مساعدة الحكومة الأمريكية للحد من كل ذلك، ورغبته في الحصول على شارة ذلك المكتب وتعيينه عميلا فيدراليا حرا. كما ذكر اسم الفندق الذي سيسكن فيه في واشنطن مع الاسم المستعار الذي كان قد استعمله في حجز الغرفة.
كان الفيس بريسلي طفوليا في أهوائه، حيث كان من هواة جمع الكثير من الأشياء الغريبة، وقد ساعدته ثروته الهائلة وشهرته في تحقيق ذلك. ومنها شارات مراكز الشرطة والأسلحة النارية، حتى أنه كان يحمل ثلاثة مسدسات مخفية في ملابسه في تلك الرحلة بالذات، بسبب سماح القوانين بذلك في تلك الفترة، وقيل إن تلك المسدسات كانت مرخصة.
وصل الفيس بريسلي واشنطن العاصمة فجر يوم الواحد والعشرين من ديسمبر وتوجه فورا نحو البيت الابيض، حيث وصل هناك حوالي الساعة السادسة والنصف صباحا، وتوجه نحو أحد الأبواب الخارجية للبيت الأبيض، حيث سلم الحارس الرسالة. وذهل ذلك الحارس برؤيته الفيس بريسلي أمامه، ولكنه أخذ الرسالة ليعود الفيس أدراجه.
دعاية سياسية لنيكسون
دخلت إحدى سكرتيرات البيت الأبيض في الساعة السابعة والربع صباحا مكتب دوايت تشابن، المسؤول عن مواعيد الرئيس نيكسون، قائلة السيد تشابن، لن تصدق هذا ما أثار رعب المسؤول، حيث اعتقد أن أمرا خطيرا قد حدث، ولكنها سرعان ما شرحت له الأمر، فتمالك الرجل نفسه واعتقد أن الأمر برمته مجرد نكتة مضحكة، ولكنه اكتشف سريعا أنه في الحقيقة كان جديا. وبعد التفكير مليا في الأمر اعتقد أنه قد يكون مفيدا كدعاية سياسية لنيكسون، لاسيما أنه، اي المسؤول، كان من المعجبين بالفيس. وعلى الرغم من عدم اكتراث نيكسون بالفيس، ولكنه كان قد سمع به. وبعد أن قرأ المسؤول الرسالة التي كانت مكتوبة بخط يد سيئ، وجد أن هذا اللقاء سيكون مفيدا للحكومة الأمريكية بشكل عام ونيكسون نفسه، بسبب عرض الفيس فيها لخدماته للمساعدة في حملة الرئيس ضد المخدرات. وبالتالي اقترح على رئيس موظفي البيت الأبيض الموافقة على هذا اللقاء. وفي نهاية المطاف تم الحصول على تأييد مسؤولي البيت الأبيض، وأخيرا موافقة نيكسون نفسه. واتصل مسؤول المواعيد بالفيس في فندقه وأبلغه بأنه قد حصل على الموافقة اللازمة لهذا اللقاء.
وصل الفيس البيت الأبيض ظهيرة ذلك اليوم مرتديا بدلة من القطيفة البنفسجية وحزاما مذهبا عريضا جدا، وكأنه حزام بطولة عالم للملاكمة (ربما بسبب كرشه) ولكنه لم يكن وحيدا، حيث كان في معيته مساعده وحارسه. وكان حاملا معه صندوقا خشبيا يحتوي على مسدس تذكاري جميل من الحرب العالمية الثانية كان من ضمن مجموعته التي في منزله، وكان أول ما فعله حرس البيت الأبيض هو أخذ ذلك المسدس، فقد يستطيع الفيس طلب موعد بطريقة مضحكة والدخول بملابس غريبة، ولكنه من المحال أن يدخل مسلحا. وكانت العادة أن يبقى زوار الرئيس في غرفة انتظار حتى يأذن لهم الرئيس بالدخول. ولكن الفيس استلم معاملة خاصة حيث أخذه المساعد الشخصي لنيكسون ونائب محامي البيت الأبيض، كروغ، إلى مكتب الرئيس نيكسون بينما انتظر مرافقا الفيس في غرفة الانتظار كما سُمِحَ، بعد نقاش بين مسؤولي الأمن، لألفيس بحمل ذلك الصندوق الخشبي الحاوي على المسدس لإهدائه لنيكسون. وما أن دخل الفيس المكتب حتى شعر بالارتباك للحظات، ولكنه سرعان ما استعاد تركيزه واتجه نحو نيكسون الذي كان واقفا بجانب مكتبه. وكان في الغرفة كذلك مصور البيت الأبيض، الذي كان يلتقط الصور طوال الوقت، وقام كروغ بتدوين ما جرى من حديث. وبدأ الفيس الحديث معبرا عن استيائه من أساليب الشيوعيين في غسيل الدماغ، مدعيا أنه استغرق عشر سنوات في دراستها، وانتقد فرقة البيتلز البريطانية متهما إياها بمعاداة الولايات المتحدة، لأنهم حسب الفيس، قد انتقدوا الولايات المتحدة. وقال الفيس إن أعضاء الفرقة يأتون إلى البلاد ويحصلون على أموال طائلة، ولكنهم يأخذونها معهم إلى بريطانيا. وعبّر الفيس عن شكواه من صعوبة العمل في لاس فيغاس، ومن الغريب أن نيكسون أبدى ملاحظة تعاطف معه حول هذا الأمر. وابلغ الفيس نيكسون أنه في صفه وركز على انتقاده لثقافة المخدرات ومنظمة الفهود السود والطلاب المنخرطين في الجمعية الديمقراطية والهيبيين، وأنه قادر على اختراق أوساط الشباب، وإقناعهم بالابتعاد عن تلك الأفكار. وقال إنه من الأفضل أن ينقل الرسالة لهم على شكل أغان عوضا عن خطاب عادي يلقيه عليهم في عروضه. وأيده نيكسون في ذلك، ونصحه عدة مرات بضرورة الحفاظ على مصداقيته، إن أراد التأثير في الشباب.
لم يؤثر هذا اللقاء في مسيرة نيكسون أو الفيس بأي طريقة. ولم تكن لتلك الشارة التي منحها له نيكسون أي أهمية حقيقية، وأوضح موظفو البيت الأبيض لألفيس بأنها شرفية، أي رمزية، فحسب، ولكنه لم يأبه بكلامهم واعتبرها توكيلا رسميا من قبل الحكومة الأمريكية.
وأخيرا طلب الفيس شارة مكتب المخدرات والأدوية الخطرة، حيث إنها في رأيه، ستعطيه دعما حكوميا، فأمر نيكسون بمنحه الشارة. وما أن سمع الفيس هذه الكلمات من نيكسون حتى فقد اتزانه فرحا وأخذ نيكسون بالاحضان بشكل مفاجئ، ما أثار دهشة، وربما ضحك، الموظفين الذين عرفوا كم كان رئيسهم بعيدا عن مثل هذه اللمحات، بسبب ثقل دمه وشخصيته المحافظة. وطلب الفيس أذنا من نيكسون لينضم إليه رفيقاه، وكان له ما أراد. وعندما حضر الاثنان عرض نيكسون على ضيوفه تذكارات لهم ولزوجاتهم. وفي نهاية اللقاء طلب الفيس إبقاء هذه الزيارة في طي الكتمان، كي لا يسيء المعجبون به وبنيكسون فهمها، وأيده نيكسون في ذلك. وبعد اللقاء، الذي استغرق خمسا وثلاثين دقيقة، حصل الفيس على جولة في البيت الأبيض، ألقى التحية خلالها على الموظفين وقبّل الموظفات، ولم يخف الجميع دهشتهم لمشاهدة الفيس في البيت الأبيض. وأثناء تناول الفيس الغداء مع الموظفين في مطعم البيت الأبيض، دخل احد صغار الموظفين المطعم بسرعة وسلم الشارة لألفيس الذي لم يستطع أن يخفي سعادته بها وسرعان ما غادر البيت الأبيض. كان نيكسون والفيس في قمة مجدهما في تلك الفترة، فنيكسون بدأ بخطوات إنهاء الحرب في فيتنام، وأقر بعض القوانين الاجتماعية التي نالت الاستحسان، وكانت شعبيته في أقصاها. وأما الفيس، فكان قد بدأ يستعيد شعبيته منذ ظهوره في برنامج تلفزيوني عام 1968، وكان قد وقّع عقدا للقيام بعروض كبيرة في كازينوهات لاس فيغاس، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو، لماذا أراد الفيس لقاء نيكسون؟
فرقة البيتلز
ذكرت زوجة الفيس في مذكراتها المنشورة عن حياتها مع الفيس، أنه اعتقد أن شارة ذلك المكتب كانت ستعطيه الحق في الذهاب إلى أي مكان في العالم، حاملا معه أي أسلحة ومواد مخدرة كما يشاء. ومن المعروف أن الفيس كان من هواة جمع هذه الشارات، ونجدها جميعا مع شارة ذلك المكتب في الوقت الحالي في متحفه. وأما حديثه عن فرقة البيتلز، فكان على الأغلب لأسباب تجارية، وليست وطنية كما ادعى، إذ كانت هذه الفرقة هي من أطاح به من قمة عالم الغناء في الولايات المتحدة الأمريكية أواسط الستينيات. ولم يكن الفيس يعرف أن جون لينين، أحد أشهر أعضاء فرقة البيتلز، كان من أشد المعجبين بالرئيس الأمريكي نيكسون. ولم يدم حقد الفيس على فرقة البيتلز طويلا، حيث تم إعلان حل الفرقة بعد لقائه الشهير في البيت الأبيض بعشرة ايام. ومن الغريب أن الفيس تكلم عن البيتلز بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة، وكأنه كان يتوقع أن يأمر نيكسون بعمل مؤامرة سرية ضد تلك الفرقة.
لم يكن ما قاله الفيس حول قابليته على اختراق أوساط الشباب صحيحا، فقد كان جمهوره في تلك الفترة من هم في الثلاثينيات من أعمارهم، اذ كانت شهرته بين الفئات الاقل عمرا قد بدات بالاضمحلال قليلا، مع العلم أن الفيس نفسه كان في الخامسة والثلاثين من عمره عام 1970. وعلى الرغم من كلامه عن المخدرات، فإنه كان معروفا بتعاطيه المخدرات حتى قيل إن من اسباب وفاته المبكرة في سن الثانية والأربعين كان المخدرات. لكن لماذا استعمل الفيس هذه الطريقة للقاء نيكسون، إذ كان يستطيع أن يطلب دعوة من البيت الأبيض لحضور إحدى الحفلات التي يقيمها رئيس الجمهورية الأمريكي، أو طلب لقاء رسميا معه عن طريق معارفه وكبار رجال الإعلام والسينما، فقد كان أشهر مغن أمريكي في القرن العشرين. وقد يكون السبب عقليته الطفولية واعتياده على النجاح في كل ما يفعله وفتح الأبواب له أينما ذهب.
لماذا قبل نيكسون أن يقابل الفيس؟ ربما اعتقد نيكسون أن عدم تلبية طلب الفيس كان سيسيء إلى سمعته كرئيس للجمهورية، وأن لقاءهما سوف يحسن من مظهره البالغ الجدية، لاسيما في الأوساط الشعبية، خاصة بين الشباب. ولم تكن تلك الزيارة العفوية الوحيدة التي فاجأت نيكسون، ففي إحدى المرات وفي يوم أحد، أي أنه كان يوم عطلة، شاهد الرئيس الأمريكي في التلفزيون مباراة لكرة القدم الأمريكية لفريق محلي، حيث كان من المعجبين بهذه الرياضة. وما أن انتهت المباراة حتى قام بالاتصال بمدرب الفريق مهنئا له بالفوز، وأنهم يجب أن يجتمعا يوما ما للتحدث عن كرة القدم الأمريكية، وكان ذلك تعبيرا مجاملا فحسب، ولكن بعد ثلاث ساعات استلم نيكسون اتصالا من أحد مساعديه يبلغه أن ذلك المدرب في باب البيت الأبيض، فارتبك لبرهة، ولكنه وافق على مقابلته.
على الرغم من أن الكثير من موظفي البيت الأبيض شاهدوا الفيس في تلك الزيارة، إلا أن خبر الزيارة لم يتسرب إلى خارج البيت الأبيض، ولعل نيكسون أمر بذلك. ولكن السر انكشف في كانون الثاني/ يناير عام 1972 في مقال كتبه الصحافي الشهير جاك أندرسن في إحدى الصحف الكبيرة، ولم يكشف الصحافي مصادره.
لم يؤثر هذا اللقاء في مسيرة نيكسون أو الفيس بأي طريقة. ولم تكن لتلك الشارة التي منحها له نيكسون أي أهمية حقيقية، وأوضح موظفو البيت الأبيض لألفيس بأنها شرفية، أي رمزية، فحسب، ولكنه لم يأبه بكلامهم واعتبرها توكيلا رسميا من قبل الحكومة الأمريكية.
كان هذا اللقاء الطريف مصدرا لفيلمين سينمائيين (1997 و2016) من إنتاج هوليوود، ولكنهما لم يكونا بالمستوى المطلوب بالنسبة لاختيار الممثلين والقصة.
باحث ومؤرخ من العراق