8 شباط والصورالمحفورة في ذاكرة العراق الجماعية
في 8 شباط / فبراير 1963، استيقظ العراقيون، في بغداد، على أصوات أعيرة نارية. كان ذلك انقلاب البعث الاول أو ما أطلق عليه البعث « ثورة رمضان». ومن يقرأ ما يتم تبادله على صفحات التواصل الاجتماعي، هذه الايام، من استعادة لأحداث الأيام والسنوات التي تلت هذه التاريخ، سيدرك أن العراقيين، من ذلك الجيل الذي عاصر تلك الفترة، وابناء ذلك الجيل الى حد ما، لايزالون يعيشون آثار ونتائج ذلك اليوم. فالمشاعر مشحونة بجروح عميقة لم تندمل على الرغم من مرور عشرات السنين، تغذيها ذاكرة تحتشد بالاعتقالات ودماء الضحايا. « إنه يوم مشؤوم في شهر مشؤوم» تقول سيدة ترفض أن تحتفل بأعياد ميلاد أفراد من عائلتها ولدوا في ذلك الشهر، معربة بذلك عن رغبتها في ألا ينسى أبناؤها ما حدث. يومها، شهد العراق اقتتال من ساهموا، سوية، في جبهة وطنية للاطاحة بالحكم الملكي واعلان الجمهورية المستقلة في 14 تموز/ يوليو 1958.
ما الذي تستعيده ذاكرة الشعب الجماعية عن تلك الحقبة التي استمرت تسعة شهور فقط؟ ماذا عن الجمهورية الاولى ( 1958 – 1963) والحكم الملكي الذي سبقها؟ هل هناك ذاكرة جماعية واحدة للشعب كله؟ لايمكن القول إن للعراقيين ذاكرة جماعية واحدة . بل تشير كل الدلائل التاريخية والشهادات الشخصية ومتابعة كتب المذكرات والبحوث الى أن هناك عدة مستويات للذاكرة، أو ذاكرات. ما يفرقها هو أكثر، احيانا، مما يجمعها، خاصة عند النظر الى مآسي تلك الحقبة ومن هو مرتكبها وانعكاساتها على الحاضر. ويدل اختلاف التسميات والمصطلحات المستخدمة للتحقيب على عمق الشروخ في الذاكرة والحاضر. فثورة 14 تموز، لدى البعض هي انقلاب دموي لدى البعض الآخر. وانقلاب شباط 63 الدموي لدى البعض هو عروس الثورات لدى البعض الآخر. ويقودنا الاختلاف بين الثورة والانتفاضة، حتى عند مراجعة معطيات الحدث الواحد، الى مسار يزيد من تعقيد قراءة التاريخ.
على الرغم من ذلك، وعلى اتساع اختلافات الأحداث المفككة للذاكرة الجماعية، ومعظمها اختلافات سياسية، بالمعنى السياسي الشامل للاقتصاد والبنية المجتمعية، هناك كوارث- مآس محددة رسخت في ذاكرة من عاصرها، بشكل صور دموية مرعبة لايزالون يعيشون دقائقها. ولا يزالون يستعيدونها ويقومون، في عصر التواصل الاجتماعي، بتناقل تفاصيلها وصورها.
من بين هذه الصور، أجساد العقداء الاربعة، قادة انتفاضة مايو 1941 ضد الحكم الملكي، الذين أعدموا وعلقت جثثهم أمام مبنى وزارة الدفاع، وسط بغداد، ليكونوا عبرة للجميع. «كنت في السادسة، سائرة بجانب والدي، حين رأيت الجثث المعلقة. أسرع والدي الخطى، ساحبا إياي بقوة، وركضنا خائفين. حتى اليوم، كلما أمر على المكان نفسه، استحضر ذلك المشهد كأنه يحدث اليوم» تقول مدرسة في الثمانين من عمرها. الصورة الثانية التي خلفها العهد الملكي هي إعدام قادة الحزب الشيوعي، يوسف سلمان يوسف (فهد) سكرتير عام الحزب، وعضوي المكتب السياسي زكي بسيم وحسين الشبيبي، فجر يوم 14 شباط 1949، وعلق الثلاثة، بعد اعدامهم، في ساحات متفرقة من بغداد. مما زرع بذرة اشاعة الترويع والإرهاب في الاماكن العامة.
خرج الشباب، وكلهم لم يكونوا قد ولدوا في حقب المآسي السياسية السابقة، مطالبين بوطن يوفر، للجميع بلا استثناء، حق الحياة والعمل والكرامة. على أمل ألا تكون أيام الاستذكار شحنا وتأجيجا للانتقام بل درسا جماعيا لوضع حد للاعتقالات والتعذيب والمجازر
وحصدت بعنفها حياة العائلة المالكة وعدد من سياسي العهد الملكي، بشكل أدخل على حياة العراقيين مفردات وممارسات عنف جديدة مثل السحل. واذا كانت رغبة ثوار 1958 هي تشكيل «حكومة تنبثق من الشعب وتعمل بوحي منه وهذا لا يتم إلا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة» كما جاء في البيان الاول، فان السنوات التالية جذرت خلافات، حفرت عميقا، في الجسد العراقي، مسببة من الجروح ما لم يكن في الحسبان، إذا ما افترضنا حسن النية ووطنية الأحزاب التي ذلقت طعم العمل الجماهيري العلني للمرة الاولى. فكانت الصراعات الشيوعية البعثية القومية التي أضافت الى بشاعة الماضي ودموية القتل والسحل وتعليق الجثث، غرز نواة المليشيات (تشكيل المقاومة الشعبية) وشعبوية الزعامة (سيادة الزعيم الأوحد الزعيم المنقذ ابن الشعب) وغوغائية الحشود المرتكبة للمجازر كما في مدينتي الموصل وكركوك.
هذه الصراعات المتراكمة عادت لتغرق بدمويتها، وروح الانتقام، العراق في الشهور التالية لشباط 63، حيث نجح البعثيون في حفر صور أخرى للقتل في ذاكرة المواطنين، أولها صورة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بعد اغتياله.
لم تقتصر رؤية الصورة على المارة في الأماكن العامة، كما كان يحدث في اعدامات النظام الملكي، مثلا، بل نجح النظام الجديد في ادخال الصورة الى كل البيوت، ليراها كل الناس، عن طريق البث التلفزيوني. وهو، الفعل الذي كررته قوات الاحتلال الانكلو أمريكي، بأيدي مستخدميها المحليين، باعدامها رئيس الجمهورية العراقية الرابع صدام حسين، عام 2006 وبث شريط إعدامه تلفزيونيا.
أشهر ما بعد 8 شباط، جلبت معها، أيضا، ميليشيا «الحرس القومي» والاعتقالات والتعذيب والإعدامات المستهدفة للشيوعيين، خاصة بعد أن أصدر الحزب الشيوعي نداء الى المواطنين يدعوهم فيه» الى حمل السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية» . وكان للمرأة حصتها في التعذيب والاغتصاب، ليصبح جسد المناضلة مشاعا للجلادين.
ان استذكار 8 شباط، ضروري باعتباره جزءا من الذاكرة الجماعية أو كيف نتذكر تاريخنا. آخذين بنظر الاعتبار ان تكّونها يتأثر بعوامل عديدة، قد يطغى فيها احد الجوانب على أخرى، خاصة حين تتعلق بالهوية الوطنية كموقف أساسي، وما تتعرض له من تقليل او تضخيم او حتى صناعة، كما نلاحظ حاليا في البلد، مع وجود التدخل الخارجي بأنواعه. ولكن غالبًا ما تكون هناك مواضيع مشتركة. فكل العراقيين، مثلا، يتغنون بتاريخ العراق البعيد وحضارته، كما أن معظمهم يرى أن الخلافات والصراعات في عراق ما قبل الغزو الانجلو امريكي، عام 2003، كانت سياسية بالدرجة الاولى ولم تكن دينية طائفية. الاعتقاد الذي استعاد قوته، تدريجيا، عبر مقاومة المحتل والاعتصامات والتظاهرات التي سادت سنوات الاحتلال، وجاء تأكيده الواضح في انتفاضة تشرين الأول / اكتوبر 2019، حين خرج الشباب، وكلهم لم يكونوا قد ولدوا في حقب المآسي السياسية السابقة، مطالبين بوطن يوفر، للجميع بلا استثناء، حق الحياة والعمل والكرامة. على أمل ألا تكون أيام الاستذكار شحنا وتأجيجا للانتقام بل درسا جماعيا لوضع حد للاعتقالات والتعذيب والمجازر الجماعية والاستهانة بالإنسان.
كاتبة من العراق