في خيبة المنجز النقدي العربي؟
هناك مشكل حقيقي يطرح على النقد في العالم العربي اليوم. لماذا لم يتميز ولا ناقد عربي واحد باستثناءات خارجية سأتحدث عنها لاحقاً، ليصبح جزءاً من آلية النقد العالمي، ومرجعاً حقيقياً، يثرِي ويثرَى ولا يبقى حبيس الجدار العربي؟
بعد أكثر من قرن من الممارسة النقدية الحديثة، ما يزال هذا السؤال معلقاً وكأننا نخاف من طرحه. قبل سنوات طرح أستاذي الكبير البروفيسور حسام الخطيب، المختص في الأدب المقارن، إشكالية كبيرة: ما هي السبل من أجل مدرسة نقدية عربية؟ وكان نقاشي معه: هل المدرسة النقدية قرار يُتَّخذ أم أنها محصلة ممارسة نقدية طويلة، باستراتيجيات واضحة، وخيارات ثقافية مسبقة. وعلى الرغم من جهوده العظيمة والنوايا الطيبة المرافقة، ظلت هذه المدرسة في مدارات الحلم. هل مرد كل هذه الإخفاقات، المسألة اللغوية بمختلف تشعباتها، أي أن الكتابة باللغة العربية تجعل النقد رهين المكان، ورهين اللغة بكل المحمولات السياسية والدينية المصاحبة لها؟ نحن في عالم لا شيء فيه حيادي أبداً؟ مع أن اللغة السلافية والتي لا علاقة لها باللاتينية التي تشكلت حولها الكثير من اللغات الأوروبية، فرضت أسماء نقدية ثقيلة مثل باختين الروسي، وجوليا كريستيفا وتودوف تزفيتان، لدرجة أن أصبحوا رواداً في النقد العالمي؟ ربما يعود الأمر لثقافة الناقد نفسه؟ أغلبهم تتلمذوا على النقاشات الفلسفية العالمية والفرنسية تحديداً، ما بعد الحرب العالية الثانية، مثل بنيويات كلود ليفي ستروس، وجاك دريدا، وميشال فوكو وغيرهم، والتعددية اللغوية التي تسمح للناقد بأن يرى عالم الأدب بعين أكثر اتساعاً تتجاوز المعطى الوطني والقومي. طه حسين، عميد الأدب العربي، على الرغم من تحصيله النقدي المهم، عندما نقرأه اليوم بالعين المجردة والمسافة الموضوعية، نجد أنه لم يستفد إلا قليلاً من الثقافة الغربية، الفرنسية تحديداً. كلها ثقافة سماعية بسبب فقدان البصر. لكنه من الشيء القليل، حاول أن يكون مفيداً لثقافته التي كانت ما تزال ترزح تحت قيود المنظومة الثقافية الإقطاعية. هل كان ذلك كافياً؟ ليس القصد التقليل من قيمة رجل أعطى الكثير، وفهم النقيصة الثقافية من منطلق السؤال القديم الذي طرحه شكيب أرسلان، ما يزال قائماً إلى اليوم: لماذا تأخر المسلون، ولماذا تقدم غيرهم؟ هو السؤال نفسه الذي يجب أن يخترق النقد. ألا يمكن أن تكون المعوقات السياسية ومعاداة العرب من وراء هذه الانتكاسات؟ هنا أيضاً تقف الحجة مضادة للمبرر المقدم. الحرب الباردة بكل ترساناتها النووية، وآلاتها التدميرية، واليقينيات الأيديولوجية، لم تمنع أقطاب البنيوية والشكلانية الروسية، والحوارية، والتناص، والسيميائيات من احتلال المراتب الأولى في مجال النقد الغربي، الفرنسي تحديداً. الشيء الوحيد اليوم، الذي لا يختلف عليه اثنان، هو الدوران المغلق على النفس للنقد العربي، والاكتفاء بالاستهلاك. كل ما أنتجته المؤسسة النقدية العربية، ظل حبيس الملحية، أو رهين المدارس الغربية التي تحكمت في كل مساراته، واكتفى عملياً بإعادة إنتاجها في غياب فهم حقيقي لها ولجذورها الفلسفية. مضى الجيل الأول في العصر الحديث، جيل طه حسين، لكنه لم يترك إلا علامات نقدية باهتة مستوحاة من مشروع نقدي غربي لم يفهمه جيداً. فقد كان رهانه الكبير ليس الإضافة، ولكن نقل المعارف الغيرية نحو الثقافية العربية لزحزحة صخرة التخلف. لقد كان اكتشاف الطهطاوي للثقافة الغربية والغرب مفجعاً سقطت أمامه كل الثنائيات الجاهزة: غرب غارق في ماديته وملذاته، مفكك أخلاقياً، وشرق روحاني متسام في معارجه العالية. ويكتشف غرباً هرب عن الشرق بسنوات ضوئية، وتكفي قراءة «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» لندرك تراجيدية اكتشاف الآخر المتقدم في القرن التاسع عشر، واكتشاف هزال الذات معرفياً وحياتياً. الأجيال التي تلت لاحقاً، وإلى اليوم، لم تخرج عن منطق طه حسين في التعامل مع الآخر، أي نقل المعرفة النقدية الغربية المتطورة نحو شرق يعاني النقائص المدمرة التي ثبتتها الاستعمارات المتتالية. لهذا، فمنطق الإضافة الإنسانية لم يكن هاجس النقد العربي. فقد ظل رهين هذه الدائرة التي كانت تتسع وتضيق عليه. الظواهر العربية الوحيدة والنادرة التي شاركت في الفعل النقدي العالمي وأضافت له من معارفها، هي تلك التي نشأت وكبرت في أوروبا وأمريكا. أي خارج مدارات الاكتفاء الذاتي، جمال الدين بن الشيخ الذي أسس في جامعة السوربون كرسياً للغة العربية وأشرف عليه، انخرط في الدراسات الفكرية والأدبية، ودرس باللغة الفرنسية خاصيات المخيال العربي من خلال نصوصه التأسيسية الكبيرة مثل ألف ليلة وليلة والإسراء والمعراج، والمنجز الشعري العربي القديم. نتج عن ذلك سلسلة من المؤلفات العالمية: ألف ليلة وليلة أو الكلمة السجينة (1988) الشعرية العربية (1998) معراج محمد، متبوع بمغامرة الكلمة (1988) قبل أن يقوم بترجمة ألف ليلة في صيغتها الأصلية العريقة برفقة صديقه أندري ميكاييل، وتطبع في أهم وأثمن سلسلة عالمية (الثريا). لقد كان تأثيره في الثقافة الغربية كبيراً، برفضه كلياً استشراق البازار. تحول جهده إلى قيمة مضافة. الشيء نفسه قام به الكاتب الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد في كتابه المرجعي الاستشراق (1978). وكان واحداً من رواد أدب ما بعد الاستعمار. وكتب: العالم والنص والناقد (1983) القومية والاستعمار والأدب (1990) الثقافة والإمبريالية (1993) الإنسانية ونقد الديمقراطية (2004) عن النموذج الأخير/ الموسيقا والأدب ضد التيار (2006) وغيرها من المؤلفات الكثيرة التي بينت أن النقد هو أولاً وأخيراً بنية فكرية وليس ترديداً لأطروحات المدارس النقدية العالمية. ثانياً، هو عمق ثقافي وفكري وفلسفي واسع. كلاهما، جمال بن الشيخ وإدوار سعيد، استفادا من منجز ما بعد الحداثة (فوكو ودريدا) لإعادة تفكيك البنية الثقافية العربية التي لم تستفد كثيراً من منجزهما بسبب غرقها في السهولة. من الصعب تخيل نقاد كبار مثل تودوروف، جيرار جنيت، أمبيرتو إيكو، رولان بارث، وغيرهم، خارج المكون الفكري والفلسفي واللغوي العالمي والمتعدد. المأساة أن الناقدين والمفكرين، ابن الشيخ وإدوارد سعيد، ظلا جزيرتين معزولتين وغير مأهولتين، في ظل نقد عربي متقادم فكرياً حتى في نماذجه الجديدة؟ ولم يتحول جهدهما، على الرغم من تأثيراته العالمية، إلى دينامية تخلخل البنية النقدية العربية المكتفية بذاتها بفخر، ولا تعيد النظر في بنياتها المتهالكة التي لم تفرز إلى اليوم، باستثناء ما ذكرت، ناقداً عالمياً بوزن تودوروف، مثلاً، يحرك بركة النقد الآسنة في الغرب نفسه، فرنسا تحديداً.