متفـائـلون… متشـائـمون *
ـ أنت متفائلٌ… أم متشائم؟ ..
سؤالٌ يطوّقك، هذه الأيام، في كلِّ مجلس ٍتجلسُ إليه، وفي كِّلِّ لقاءٍ مع كلِّ من تلقاه في كلّ مكانٍ في كلِّ وقتٍ من نهاركَ وليلِك، لا تستطيعُ الإفلاتَ من طوقه مهما حاولتَ الإفلات…
ولكنه سؤالٌ له دلالاتُه الواقعية، ولهذه الدلالةِ جانبان: إيجابي، وسلبي ..
إيجابيةُ السؤال كونُه تعبيراً عن لهفةٍ مكبوتة في سرائرِ الناس، مشتعلةٍ من الداخل بوهج ٍ شعوريٍّ نبيل يؤجّجُه قلقُ المصير ..
وهو قلَقٌ وطنيٌّ وقوميٌّ وإنساني معاً صادرٍعن هذا الشعورالعربي العام بوطأةِ ما أحدثَه العدوانُ الاستعماري الإسرائيلي في 5 حزيران الماضي من آثارَعسكريةٍ وسياسيةٍ ونفسية ذاتِ طابعٍ مأسويٍّ عنيف ..
أما الجانب السلبي من السؤال فهو وضعُ المسألة العربية في مواجهةِ المصير وضعاً يُداخلُه الاهتزازُالنفسي والفكري يتمثّل بهذه الحيرة المغلّفةِ بالضباب وبغموض الرؤية إلى حدِّ التردّدِ في المسألة بين عامليْن اثنيْن : التفاؤل والتشاؤم ..
ماذا يعني التردّد بين هذيْن العامليْن؟.. وماذا يعني التفاؤلُ أو التشاؤمُ في هذه المسألةِ عينِها ؟..
يخيَّلُ لي أنّ كلاًّ من المتفائلين والمتشائمين بشأن المصيرالعربي بعد حوادثِ العدوان، وقَعَ في شرَكِ الحرب النفسية التي يجهَدُ الأعداءُ أكبرَالجهدِ في إثارةِ غبارِها أمام الرأي العام العربي كيلا يرى وجهَ الطريقِ المضيء إلى المصير المضيء ..
فليست المسألةُ مسألةَ تفاؤل،ولا مسألةَ تشاؤم .. وقد كان جوابي لكلِّ سائل:أمتفائلٌ أنت أم متشائم ؟ .. أن أقولَ: لستُ هذا ولا ذاك .. لأنّ التفاؤلَ وحدَه كمثلِ التشاؤمِ وحدِه، كلاهما يعني الرؤيةَ الجزئية الجانبية للقضية .. وكلُّ إطلاقٍ على هذا الشكل يؤدّي إلى الضياع ِ والتيه، وهو انطلاقٌ من حالةٍ نفسيةٍ أو ذهنية يشدُّها جانبٌ واحدٌ من الأشياء، أوالقضايا، في حين يكون للشيء أو للقضيةِ جانبان أو عدةُ جوانب ..
على أنّ هناك مسألةٌ أُخرى .. هي أنّ التفاؤلَ أو التشاؤم مَعنَيانِ من المعاني النفسيةِ المحض .. أي أنّ كلَّ من يتَّصفُ بواحدٍ منهما يكون محكوماً بحالةٍ نفسيةٍ معيّنة لا تخضعُ لرؤيةٍ ذهنية ولا لمنهجٍ فكريّ، بل هي تضعُ صاحبَها في جوٍّ من الضغطِ النفسيّ لا يتسرّبُ إليه النظرُ إلى الأشياءِ أو القضايا بعيْن الفكر الموضوعي المنهجي، وبذلك تصبحُ نظرةُ المتفائل أو المتشائم نظرةً ذاتيةً خالصة ..
فهل نحن، في موقفنا الحاضر تجاه المصير العربي بعد 5 حزيران، مدعوّون أن ننظرَ إلى قضيتنا الملتهبة من خلال مشاعرنا الذاتية، أم من خلال تفكيرنا الموضوعي المنهجي ؟ ..
لعل من أهم ما أفَدْناه من ” النكسة ” الراهنة أنها دفعتنا دفعاً ديناميكياً إلى محاولة التغيير حتى في طريقة فهمنا لواقع القضيةِ التي نواجهُ من أجلها تحدّياتِ الأمبريالية والصهيونية العالمية .. وإلى محاولةِ التغيير حتى في طريقةِ تحليلنا لوجوه القضية ولعوامل وجودها ووسائل النضال في سبيل انتصارها .. فإذا عدنا، بعد ” النكسة “، إلى طرائقنا المتّبعة قبلها، ومنها الطرائق الذاتيّة الاعتباطية أو العفوية، انسياقاً من معطيات المشاعر وحدِها، فقد حكمنا على أنفسنا بما يَزيدُ الأعداء من تشكيكٍ في قابليتنا الحضارية ..
لا تفاؤلَ، إذن، ولا تشاؤمَ في رؤيتنا لأبعاد المعركة التي وضعتنا ظروفُ المرحلة القائمة الآن في خضمها مختارين أو مرغمين .. لا تفاؤلَ ولا تشاؤم، لأن التفاؤلَ أو التشاؤمَ من فعل النفسِ والشعور، لا من فعل العقل والتفكير ..
العقل لا يتفاءل ولا يتشاءم وإنما هو يفكر ويحلِّل ويخطّط و ” ينهج ” .. وهذا بعينه ما نحتاج اليه في هذه المرحلة الحاسمة من مراحل الثورة العربية، أو من مراحل المواجهة العربية للتحدّيات المتضافرة علينا من أعداء الحرية والسلم والتقدم…
***
ولكن، يبقى السؤال يفرضُ نفسَه على الذين لا يروْن وجهَ المصير رؤيةً واضحة من خلال الأحداث الأخيرة أو من خلال آثارها الأليمة الجاثمة على الصدور بثقلها الرهيب .. يقولُ هؤلاء : إذا لم يكن تفاؤلٌ ولا تشاؤم في حكم العقل والتفكير، فإنّ السؤالَ يُلحُّ علينا إلحاحاً مرهِقاً بصيغةٍ أخرى، ولتكنْ صيغتُه الجديدة هكذا:
ـ ما وجهُ المصير بَعدَ الذي حدثَ منذ 5 حزيران ؟.. أخيرٌ لنا أم شرّ ؟.. أمُشرقٌ هو أم مظلِم ؟ .. أنصرٌ هو أم استمرارٌ للهزيمة ؟ ..
إنّ وضعَ السؤال بمثل هذه الصيغة يقترب من منطقة التفكير الواقعي، ويبتعد بها عن منطقة النظر الذاتي ..
***
أما وجهُ المصير فليس ممكن أن نراه بوضوح ٍ موضوعيٍّ حاسم إلا حين نضعُ قضيةَ الصراع بيننا وبين أعدائنا في مكانها من قضية الصراع العالمي بين قوى الحريةِ والسلم والتقدم بين القوى المعادية لهذه القيَمِ الإنسانية التي تناضلُ شعوبُ العالم، في المرحلة الحاضرة، من أجل انتصارها في حياةِ الناس جميعاً على الأرض ..
فهل هي قوى الحرية والسلم والتقدم تنظم صفنا العربي الثوري في صفوفها .. ومن هي القوى المعادية لهذه القيَم الثلاث العظمى ؟ ..
الجواب عن هذا السؤال هو الذي يحدِّدُ مكانَ قضيتنا من الصراع العالمي، ويحدِّدُ موقفَنا من القضية، ثم يحدِّدُ رؤيتَنا وجهَ المصير الذي نريدُ رؤيتَه بوضوح ٍ موضوعيّ حاسم ..
قوى الحرية والسلم والتقدّم في هذه المرحلةِ من عصرنا، تؤلِّفُ جيشاً عالمياً يقفُ الاتحاد السوفياتي في طليعته مع الدول الاشتراكية الأخرى وتشتمل صفوفه الجرّارة على قوى التحرر الوطني في قارات آسيا وأفريقية وأميركا اللاتينية، وقوى السلم العالمية، وقوى الحركة العمالية والشبيبة في بلدان الأنظمة الرأسمالية بالإضافةِ إلى صفوف المثقّفين التقدّميين والوطنيين الشرفاء في بلدان العالم أجمَع ..
أما القوى المعاديةُ لحرية الشعوب وسلامها وتقدّمها فتؤلِّفُ جيشاً عالمياً معاكساً تأخذ الأمبريالية الأميركية بزمام زعامته وتأتي الصهيونية العالمية وإسرائيل في قافلة التوابع لهذه الأمبريالية ..
فقضيةُ مصيرنا العربي التحرري، ومصيرُ فلسطين والأرض العربية المحتلة كلِّها، هي ـ إذن ـ قضيةُ المصير لذلك الجيش العالمي الكبير، جيش ِالحرية والسلم والتقدم .. وقضيةُ الصراع بيننا وبين العدو القريب على حدودنا، هي ـ كذلك ـ قضيةُ الصراع بين هذا الجيش العظيم وجيش أعداء الشعوب جمعاء ..
بهذه الرؤيةِ الموضوعيةِ الحاسمة نستطيعُ أن نحكمَ في أمورَ كثيرةٍ حكماً واقعياً موضوعياً أيضاً .. نستطيعُ مثلاً، أن نحكمَ على دُعاةِ التشكيك بالمواقفِ المبدئيةِ الثابتة الصارمة التي يقفُها الاتحاد السوفياتي وسائر القوى الاشتراكية من قضيتنا برمّتها، لا جانبِ واحدٍ منها، ولا جزءٍ واحدٍ من أجزائها، ولا ظرفٍ واحدٍ من ظروفها .. ونستطيعُ أيضاً، أن نحكمَ على دُعاة التجزيء لقضيتنا هذه والتفكيك بين قضيةِ فلسطين، مثلا، وقضيةِ التورة التحررية والتقدمية العربية بصورتها الكلية المتكاملة .. ونستطيعُ، أخيراً، أن نحكمَ على دعاةِ التفتيت لقوى الثورة العربية هذه، وتفريق بعضها عن بعض، وتفجير” الألغام ” في هذا الصف منها أو في ذاك، لإضعاف وحدتها وتسعير الخلافات “النظرية” من فصائلها، والانحراف بمسيرتها المشتركة من خطّ الالتقاء الطويل بينها إلى منعرجاتٍ ومنعطفات تشتِّت شملها المجتمع ..
***
إذا حرصنا أن نرى قضيتَنا العربية بوحدتها وتماسك أجزائها وجوانبها ضمن هذه الوحدة الكبرى لقوى الحرية والسلم والتقدم العالمية، مقابل الوحدة الأخرى العالمية لقوى أعداء الحرية والسلم والتقدم، أمكننا أن نرى وجهَ المصير العربي ذاته ضمن المصير التاريخي الحتمي لقوى الثورة العالمية بأسرها، وأمكننا أن نسيرَ في كفاحنا التحرري التقدمي على ثقة بالنصر الأكيد مهما اعترضتنا النكَسات، لأن الطريقَ إلى النصر ليستْ مفروشةً بالريحان، بل لا مناص من أن يزرعَ الأعداءُ بعضَ مراحلها أو كلَّها “بالألغام” ..
***
وبعد فإذا شاء السائلون ان يُصِرّوا على سؤالهم :
ـ أمتفائلٌ أنت أم متشائم ؟ ..
فلا بد من الجواب: متفائل، متفائل، متفائل …
* هذه المقالة كتبها المفكرالشهيد حسين مروة في جريدة الأخبار ( جريدة الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك ) بتاريخ 6 / 8 / 1967، أي بعد النكسة بشهريْن.