مِحْنَةُ المُثَقَّفِ فِي عَصْرِ الظَّلاَمِ
هل انهارت الحياة إلى درجة أنها لم تعد تعني الشيء الكثير في الزمن الذي نعيشه؟ هل تخفي الجائحة الكونية التي تكاد تكون قدراً قاسياً على البشرية، معانداً بتحولاته، واضعاً مكتشفاتها الطبية في مدارات السؤال، هل تخفي الموت المبرمج من طرف كائنات لا حياة لها مثل الخفافيش إلا داخل الظلام؟ هذا النوع من الموت يحصد يومياً آلاف الأرواح عبر العالم لدرجة أن الكائن البشري لم يعد أكثر من رقم عابر؟ لا اسم له، وربما لا قبر له أيضاً. في الظلمة تُزهق الأرواح في صمت، فلا تجد حتى من يذكرها كرقم أو يبحث في أسباب موتها، وكأن الأمر تحصيل حاصل. موت مثل السيف الغامض، لا صدفة تحكمه ولكنه رهين قانون القتلة، ينزل على الرقاب بعدما يختار ضحاياه بلا رحمة، فيبدأ في عملية إبادة مقننة، الغرض من ورائها ليس فقط محو عقل جاء ليغير شيئاً في عالم عربي أصيب بالتخمة المالية التي بعثر جلها في الفراغ، فخور بانهياراته المتتالية دون دراية حقيقية بالمآلات الخطيرة، التي جعلت كل ما حقق خلال المائة الأخيرة عصفاً مأكولاً. ماذا بقي من سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، ماذا بقي حتى من مصر العظيمة التي كانت الأم الحامية في مواجهة عالم التكتلات الشرس؟ وعوضت بعقلية قبلية مقيتة وغير مسبوقة، فتعزل الأخ عن إخوته، وتحرض عليه الصديق والعدو لإشفاء حس قبلي أو طائفي غامض لم يمت، الدفع به نحو المزيد من التفكك والانهيارات، ونحو الحرب الأهلية التي تأكل اليوم في البلاد العربية الأخضر واليابس.
استراتيجية القتل تبدو كبيرة وتتسع كما بقعة الزيت المشتعلة، ليس في العدد ولا في الاختيار فحسب، ولكن أيضاً في الاستراتيجيات اللاحقة، والحسابات القادمة. من هنا يأتي السؤال الذي لا يمكن تفاديه: هل نحن في عصر حقيقة في الظلام، كما وصفه ابن رشد وهو يواجه محرقة الكتب، وجُوِّع من طرف آلة الضغينة والجهل الحاكمة التي تزعمها الأمير الموحدي المنصور. حينما شهدت السياسة في أرض الأندلس انقلاباً عنيفاً في القرنين الخامس والسادس للهجرة ومأسسة «حرق الكتب». في عهد «أمراء الطوائف» أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري، وبدا ذلك كأنه مقاومة ضد الهرطقة والابتعاد عن الدين. وفي عهد أمير المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين تم حرق كتب الإمام الغزالي، وهو الذي كان قد كفر الفارابي وابن سينا، قبل أن يرد عليه ابن رشد. هل هو عصر المظلمة الذي يأكل فيه القوي الضعيف، كما رآه ابن المقفع وهو يشوى حياً على تنور جاء في عهد المنصور الذي أمر سفيان المهلّي الذي كان حاقداً عليه، بقتله؟ أو كما عاشه الحلاج وهو يفقد أعضاءه الواحد تلو الآخر، وتعلق بقاياه على أبواب بغداد، ثم يحرق ويرمى رماده في النهر الأعظم دجلة، من أعالي مآذن بغداد في حالة تكاد تكون طقسية بوذية.
هل هو خطأ التاريخ الذي رسخ تقليد الدم في مجابهة المثقف غير المنساق للظلم والضغينة، أم هو خطأ الحاضر الذي أخفق في القطيعة الشاملة مع ماض معطل لأي تطور، لدرجة أن تحول إلى إعاقة حقيقية؟ لم يجد عصرنا أي حرج في قتل المختلف، كما في الزمن الماضي. نفس آلة الماضي اغتالت حسين مروة، ومهدي عامل، والفنان المقعد نور طوقان، وغيرهم كثير. نفسها التي سرقت روح أهم علماء الجزائر وسوريا والعراق. التهمة نفسها، واليد نفسها، غيرت السلاح قليلاً، من السيف إلى كاتم الصوت.
بغض النظر عمن قتل اليوم حارس العربية وعقلها الجريء، لقمان سليم، لأننا نعرف التقليد الذي سنه القتلة، بتقييد الجريمة ضد مجهول لأن القاضي يعرف جيداً أن المجهول إذا أصبح معلوماً، يُقتَل. ويسبق القاتل الجميع في العبور نحو بيت العزاء والخروج منتشياً بتصديق الحاضرين لدموعه المدرارة. وكما قالت أخت لقمان سليم، رشا الأمير، لقد خسروا محاوراً كبيراً، لأن الآتين على إيقاع الدم لن يكونوا كذلك. كان لقمان رجلاً حياً، متماهياً في اسمه ووصاياه وحكمته. لم يكن متطرفاً.
لا يمكن لرجل أحب اللغة العربية ودافع عن حرية الرأي، أن يكون مناوئاً للحياة. لم يكن فقط صاحب دار نشر انتصرت للعقل الذي تم ردمه: دار «الجديد» لكنه أوسع من ذلك كله. فقد كان أيضاً منتج ومخرج أفلام وثائقية كثيرة، لعب دوراً كبيراً في أرشفة تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) بالخصوص ملف المفقودين في حرب أهلية عمياء أكلت الأخضر واليابس. وعلى الرغم من التهديدات المتتالية، فقد أنتج برفقة زوجته مونيكا بورگمان فيلمين وثائقيين مهمين، أحدهما عن مجزرة صبرا وشاتيلا الذي أدان فيه الجريمة واسترخاص الأرواح، والآخر حول سجن تدمر في سوريا، إضافة إلى نشاطه المميز في الدفاع عن حق الإنسان في الحياة والعيش، فوقف مع اللاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، ونصرتهم في وجه الطائفية والعنصرية، وطالب بالتضامن مهما كانت قسوة الظروف.
اللاجئ ليس معتدياً، بل ضحية. في سنوات قليلة، جعل من دار «الجديد» التي تديرها أخته رشا الأمير، انتصاراً حقيقياً للعقل والتنور. نشر ما منعه سدنة اليقين والمطلقات الوهمية، منها كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي الذي ظل مصادراً قرابة القرن بسبب سلسلة انطباعات أولية يمكن مناقشتها، وحتى دحض بعضها، لكن الرعب من آلة العقل جعلهم يتوارثون المصادرة منذ العشرينيات، حتى جاءت مجلة «القاهرة» التي كان يديرها المرحوم غالي شكري ونشرت الكتاب ووثائق المحاكمة، ثم دار «الجديد» التي وضعته في مدارات القراءة السجالية التي منحت الكتاب عمراً جديداً. الذين اغتالوا لقمان سليم، أو الذين أمروا بقتله، كانوا يعرفون ليس فقط حركة الرجل، ولكن قيمته أيضاً.
ما الفرق بين محنة الحلاج ومحنة لقمان؟ لهذا يعود السؤال اليوم بقوة: هل نحن في عصر الظلام؟ أي هل بلغنا القاع الذي يمحو كل اختلاف وكل تصور جديد لحياة ممكنة؟ الحقائق كلها هنا. القتلة يخدمون الآلة التي تحاول أن تقود العرب نحو مقصلة الحروب الأهلية المدمرة، ومطاردة أي إمكانية للعقل. أمر واحد لا شك فيه، هو أن قتلة العقل والنور يلتقون تاريخياً مع العقل المحبط، العقل التبعي الذي يقبل بالحال على ما هي عليه، من تخلف وبؤس وانهيار، ويبرر الاغتيالات والقتل المبرمج ضد كل مختلف، ويزهو في خلوته بإطفاء آخر الشمعات المضيئة.