على ضفاف الإنتخابات
الباحث عبد الحميد برتو
كلما يُعلن موعدٌ أو تقديم أو تأجيل للإنتخابات العامة “البرلمانية” في العراق، تثار عواصف عن المناسبة وحولها. يبدأ التشنج والقلق والطحن والنطح وكواتم الصوت و”تحليلات الخبراء” والإفتفاء بشقيه السياسي والديني وحتى العشائري. لتزيد حالة الناس قلقاً وإرتباكاً فوق ما هم فيه، خاصة منهم، أولئك الذين كان سعيهم أو حظهم أو فرصتهم من الوعي أو الإطلاع أو المتابعة بسيطاً. ومن المصالح والإنتفاع معدوماً. وهم في حال يحثون الخطى فيه، نحو الجوع بدفع وعلى عجالة وتسليم. تُخلق وتغذى وتهيج تلك العواصف من قبل أصحاب المصالح المتنوعة لحاجة في نفس يعقوب، أو في نفس أعمامه أو أخواله ناهيك عن أسياده.
يبرز الإنقسام الأساسي في المجتمع بين جماعتين: الأولى تسخر من مهزلة الإنتخابات أصلاً، لأنها أسست موقفها على قراءة جادة لطبيعة تلك الإنتخابات تأريخاً وأهدافاً وشخوصاً. أما الجماعة الثانية فتعقد آمالاً عليها أو هكذا بعضها يتظاهر، لأنهم يعرفون ماذا يريدون من مصالح لأنفسهم، أو هذا ما أمْلي عليهم من أولي أمرهم، طبعاً الى جانب المنافع الخاصة. ولا أتجاهل وجود موهومين بشيء من النوايا الطيبة إتجاه أنفسهم، وربما إتجاه مدنهم.
تنقسم كل جماعة من الجماعتين الى أقسام، ربما لا حصر لها من حيث الأهداف العامة والخاصة. ومن واجب المخلصين حقاً لبلادهم أن يفرزوا بين الأطراف والفئات والأشخاص وأنواع المصالح، وألاّ يعمموا حكماً واحداً إتجاه الجميع، لأن مثل تلك الأحكام لا تخدم مصالح البلاد، بل تشتت القدرة على إنتخاب الأساليب المناسبة لإخراج البلاد من الوحل المميت الذي تخوض فيه.
تدفع الحالة المعقدة في البلاد الى تضارب التوقعات والحلول المقترحة. فالتوقعات يمكن إدراجها على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى ترى من العبث المشاركة في الإنتخابات، لإنها لن تسفر عن أية نتيجة. يوجد عند هؤلاء تشكيك مبرر بصدد عدم قدرة الحكومة على إجراء إنتخابات تحظى بشيء من الإحترام والمصداقية والنزاهة في ظل السلاح المنفلت. يقوم موقفهم على الإدانة التامة لما يعرف بـ “العملية السياسية”. ويؤكدون على أن إيران وضعت العراق كله والإنتخابات العامة فيه بميزان مساوماتها مع أمريكا، فالأحزاب الولائية تملك سلطات: النفوذ الرسمي، المال، السلاح والإعلام. كما إنتقلت الأوساط الشابة من حالة الإحباط الى السخرية، فيما يتعلق بالإنتخابات. تختزن ذاكرتهم مهازل كثيرة عن الإقتراع على الدستور وخمس إنتخابات سابقة بعد الإحتلال، وبصفة خاصة الأخيرة عام 2018، التي بالكاد إقترب نسبة المشاركة الإنتخابية فيها نحو 20%.
تقول قراءات الأخرى يمكن تحقيق التغيير. لكنها تضع إشتراطات لذلك، مثل: أن يتم ضمان حرية الإنتخاب، نزاهة العملية الإنتخابية ككل، تشريع قانون عادل للإنتخابات، سن وإقرار قانون الأحزاب، وضع قانون جديد للمحكمة الإتحادية واستكمال قوامها، حصر السلاح بيد الدولة، الكشف عن جرائم قتل المتظاهرين، محاكمة الفاسدين والقتلة وقيام إدارة إنتخابية مستقلة وغيرها من الشرط والمواصفات.
تبقى الأطراف المهيمنة على السلطة والسلاح والمال العام متفائلة. تعقد الآمال على الإنتخابات القادمة. هذه الفئة لا تريد فقدان مصالحها بأي ثمن، ولا تخطر على بالها الهموم الوطنية ومصالح البلاد.
إن رحم إنتفاضة تشرين الأول/ اكتوبر واسع، بحكم حجم الغضب والإستياء والحرمان الشعبي. هذه السعة تدع المجال واسعاً أمام التنوع على مختلف المستويات. ليس بالضرورة أن تكون كل عناصر ذلك التنوع إيجابية، إذ قد تنطوي الحالة على درجات عمق مختلفة، من حيث طبيعة الطموحات الوطنية والذاتية. تتدرج على سلم من 1 الى 100، أي من القعر الى الذروة.
كما إن نوع النظر أو الحذر أو الخوف من السلاح المنفلت، متنوع الرؤية والدرجة أيضاً. يتوهم البعض إمكانية الوصول الى السلطة عبر الإنتخابات البرلمانية القادمة، وهي حتى اللحظة إنتخابات مصممة بعناية من جانب ذوي النفوذ والمصالح والإرتباطات معتمدين على كل الخبرات المتراكمة عالمياً في جعل الإنتخابات مجرد مباركة رعناء للفساد أو القمع أو تغيب الوعي. وما زالت مساحة الفساد الكبيرة تتسع لفاسدين صغار.
إن روح وآلام إنتفاضة تشرين وشخصياتها البارزة مازالت تحمل أصالة دماء المئات من الشهداء وعوائلهم المكلومة وجراح المخطوفين والمغيبين والأسرى والمخطوفين. يقولون: لا لكواتم الصوت، لا لسكاكين الغدر وتقطيع الأوصال. نعم نريد وطناً.
ربما من خلال النظرة المتفحصة للوقائع اليومية، ناهيك عن النظرة الإجتماعية، التي تملك حساسية عالية وصادقة، إتجاه مصائر الفقراء خاصة، والتقدم الإجتماعي عامة، وإستقلال البلاد ووحدتها، ومن خلال تسليط الضوء على كل تضاريس الموقف الإنتخابي. قد يرى اصحاب هذه النظرة أبرياء يحملون دوافع وطنية للخلاص تثير حماستهم الإنتخابية ويندفعون إليها. مهما يكن عدد هؤلاء ينبغي التعامل معهم بصبر، والتمسك بحبل الأمل معهم، حتى ولو كان واهياً. يمكن أن تتسع النظرة لتشمل حالات على مستوى الجمعيات والقوى السياسية.
تأسيساً على هذه المرونة الواثقة والصالح العام. يوجد موقع ومجال للتعامل برفق مع غفلة هؤلاء، قِلَّة كانوا أم كَثْرَة، من طيبي النوايا. يتطلب الموقف حملة تبصير ودية معهم. هذا مع ضرورة إدراك أن وصف الغفلة يُعد نوعاً من الرحمة بهؤلاء. تحتاج تلك الرحمة الى جهود كبيرة لتمريرها أو تبريرها. أما الإفراد والجماعات والأحزاب التي تخوض هذه المعركة لمصالح شخصية ضيقة ترتدي ثياباً مهلهة من شعارات تبدو واقعية، ولكنها في جوهرها كاذبة، فيتطلب الموقف السليم منهم الإدانة المطلقة.
تجرى الانتخابات وعمليات التصويت في الدول المتقدمة والمستقرة بأريحية عادة، لاختيار أعضاء الهيئات التشريعية ـ البرلمانات، أو إختيار الشخص الأول في الدولة الرئاسية ـ رئيس البلاد، أو لقبول أو رفض اقتراح سياسي أو تبني دستور جديد للبلاد أو لإصلاح الدستور المعتمد، وما الى ذلك. تُجرى تلك الإنتخابات دون أن تضطر السلطات المتنفذة لممارسة البطش والتزييف والمخادعة، المعلن منها أو غير المعلن. لأن الزيف يكمن في النظام الإجتماعي نفسه، الذي يعبر عن مصالح طبقة أو فئة إجتماعية معينة. أما في الدول المتخلفة والمستبدة والفاشلة فتكون الإنتخابات شكلية تفتقد لجوهر فكرة الانتخاب الفعلية (الإحتكام الى الشعب) وحتى الى شكلياتها أيضاً. لا ينال الناخبون حرية الإختيار، وتكون الانتخابات غير تنافسية وقهرية تتعرض للتزييف والاختراق في كل مراحل العمليات الإنتخابية.
تختلف الأنظمة الإنتخابية في الدول “الديمقراطية” من دولة إلى أخرى. وقد تمارس الدولة الواحدة أكثر من نظام إنتخابي. يمكن تقسيم الأنظمة الإنتخابية إلى ثلاثة أنواع رئيسية: نظام الإنتخاب بالأكثرية، نظام الإنتخاب بالأغلبية، السماح للفئات المختلفة بالمشاركة في الحكم ـ ما يعرف بحكومة الوحدة الوطنية. كما هناك الإنتخابات المباشرة وغير المباشرة ـ مثل إنتخابات المجلس الإنتخابي، كما الحال في الولايات المتحدة. إن أركان الإنتخابات البرلمانية عادة، هي: القانون الإنتخابي، الإدارة الإنتخابية، الناخب، النائب، الدائرة الإنتخابية، صندوق الإقتراع. كل ركن منها يتطلب الكثير من التفحص والتقويم.
شهدت الإنتخابات العامة في العراق “الجديد” منذ الإحتلال عام 2003 الى يومنا هذا مهازل. قد لا نجد بسهولة نظيراً لها، ولا صعوبة في القول: إنها إنتخابات لا نظير لها في التخويف، الإبتزاز، التزييف، التزوير والتصفيات. ولا نظير لما يترتب على نتائجها من تدمير للبلاد.
يقولون إن الديمقراطية تعني حكم الشعب، أي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. وتكون آلية ذلك من خلال اختيار ممثلين عنه الى البرلمان. يلعب الأخير دوره في سنّ القوانين، تقويم عمل الحكومة، التصويت على مشاريع القرارات الحكومية وغيرها من الصلاحيات الضرورية لحماية حياة المواطن والوطن. ويجري الإنتخاب على الأساس الفردي والقوائم. لندقق بنصيبنا على كل هذه الصعد.
تلعب الأحزاب السياسية كذلك دوراً بارزاً في العمليات الإنتخابية على صعيد إنتخاب الأفراد والقوائم. يربط الحزب السياسي بصفة عامة بين أعداد من المواطنين يتبنون رؤية فكرية وسياسية وطبقية أو فئوية واحدة. يمارس الحزب السياسي المعني دور الوسيط بين أفراد الفئة أو الطبقة أو الشعب ونظام الحكم في الأنظمة الديمقراطية بأنواعها، ويصوغ البرامج التي تعبر عن احتياجات ومشاكل المواطنين الذين يمثلهم. ويطرح المقترحات لحلول المعضلات، التي تواجه البلاد والأوساط الذي يمثلها. لندقق بما فعلته تلك الأحزاب على إمتداد تاريخ هيمنتها على البلاد منذ عام الإحتلال عام 2003 على كل هذه الصعد. إن المراجعة لتلك المسيرة المشؤومة واجب شخصي ووطني أمام كل عراقي.
يستطيع الشعب بمعنى ما أن يعاقب ممثليه، في حالة فشلهم بالتعبير عن مصالحه وإنتزاعها، خلال الدورة الإنتخابية الماضية، عبر الدورة الجديدة اللاحقة. عندنا المتنفذون في كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وحتى الإعلامية هم يعاقبون الشعب.
لاحظنا في التجارب الحديثة بدول شرق أوروبا وجود حالات نادرة ينتخب فيها ذات الحزب أو التحالف في أكثر من دورة إنتخابية. هذه الحالة هي وسيلة المعاقبة التي يعتمدها الناس للرد على الأحزاب في حالات فشلها.
تختلف اللعبة الديمقراطية في الغرب، حيث وفرت خبرات التجارب البرجوازية، إمكانية تغير وجوه الأفراد والأحزاب في الدورات الإنتخابية، مع ضمان البقاء ضمن الإطار الطبقي لسلطة البرجوازية الحاكمة. بديهي أن قوة البرجوازية وخدمها السياسيين لا تقوم على القهر المباشر للناخب أو المرشح كما حالنا. إنما تستخدم آليات قوية منها: المال، الإعلام، الدعاية رفيعة المستوى، ثمرات ومعطيات الذكاء الاصطناعي وغيرها من الآليات المرنة والمؤثرة.
إذا إعتبرنا آلية الإنتخابات إحدى وسائل الإحتكام الى الشعب. فقد تناولت هذه مسألة في مقالين سابقين نشرا عام 2017 جاءا تحت عنوانين، هما: “الإحتكام الى الشعب” و”الإحتكام الى الشعب مرة أخرى”. شَخَّصَ المقالان “حالتين تخدم النضال العام، الراهن منه والبعيد. الأولى منهما أن موارد البلاد تراجعت لدرجة يصعب تجاهلها. (نتيجة للسرقات الكبرى والتبذير الأهوج وتراجع أسعار النفط). حرم هذا الوضع الحكومة وطغمتها السياسية والدينية الفاسدة من قدراتهما على الإرشاء. والثانية أن الشحن الطائفي فقد الكثير من زخمه، بفعل ما أظهر حقيقته شباب إنتفاضة تشرين. وهاتان الحالتان فتحتا آفاقاً جديدة، ربما تخدم القوى اليسارية والوطنية بصفة عامة، إذ أجادت التصرف إتجاههما. وأشرت بصفة خاصة الى القوى التي لم تتورط بالعملية السياسية التي صممها الإحتلال.
إعتبرنا أن مجمل القراءة تصب في صالح التأكيد على أن الشروط الموضوعية للتغيير في العراق باتت متوفرة، وحان الوقت للإحتكام الى الشعب مباشرة. والإحتكام الى الشعب ليس شعاراً رومانسياً أو إصلاحياً، بل هو ميدان للعمل الحقيقي، الذي يمليه واقع الحال. وبديهي أن الإحتكام للشعب وفق الإتجاه العام للمقالين نفسيهما لا يصبان في صالح وهم وجود إمكانية للخروج بأية نتيجة عبر الإنتخابات الهزلية المصممة النتائج مسبقاً، كما أكدت كل النتائج الإنتخابية السابقة. هذا الى جانب عدم تجاهل طبيعة الوعي الإجتماعي القائم والمتكون نتيجة لمجمل الحياة الواقعية الملموسة التي مر بها الشعب العراقي خلال عقود مديدة.
تلاعب العابثون بكل معاني وممارسات وقواعد الإحتكام الى الشعب، عبر كل المغالطات المعروفة تاريخياً، وما أبدعوا من جديد أيضاً. تم طَرْحُ الإحتكام إلى القديم الموروث وكل تقاليد السلطات القهرية السابقة، التي غيبت دور الإنسان. إذا لم ينفك أسر الجماهير المغيبة من الوهم المرجعي، الذي يصادر عقل الفرد الحر الواعي، فلا خير يرتجى.
يتطور العالمُ بصورة مذهِلة، لا يرافقه عندنا أي تطور ممائل أو يواكب ما يجري في العالم، على صعيد الفكر والعلم والتقنية والرفاهية ووو. إن البناء الفوقي الديني والفكري عامة يفقد قيمته إذا انفصل عن بنائه التحتي، الذي تمخض عنه. لا تحفز الأعرافُ المتخشبة الناسَ على طرق باب التفكير أو الفكر عامة، بل تردعه بعنف وقسوة بالغين. لا تحل معضلات الحياة عبر طريقة الأسئلة والأجوبة التلقينية الملائية، إنما بالبحث الجاد والمتواصل.