التحديد المسبق
إن المقطوعة هي جزء من القصيدة ككل ، من أسلوبها في التأمل الناضج ، هي تشبه الأوتار التي تؤلف معا لحنا جميلا، عذبا ، شجيا ، وأحيانا تصمت لتسمح للشاعر أن يسمو بأفكاره وهمساته وأحلامه ،إن العيب ليست في المقطوعة ذاتها ،إن حددت أكثر من اللازم ،وفجرت نفسها في محاولة منها للتنفس ، فان تحديد المقطوعة ،عبارة عن تخيل بصور كثيفة لصورة الواقع ،وفي نفس الوقت ، لمسة خفيفة للانسجام مع صور مجازية ، فإن عدم الدقة في التصوير ، يكبر دجنة النص بعيدا عن المكون الشعري ،ويصبح الانطباع مبهما .
فالمقطوعة عندما يحددها الشاعر لتفسير نقطة أو مخطط لصورة تتجلى بعدها صور أخرى محددة ،فهي تهدف إلى إطلاق القصيدة إلى عوالم واسعة ، من المعاني والإيحاء الفكري دون الغوص في متاهات مبهمة ، الشاعر النمساوي( ادوارد ف . اورتنر ) يبدو شغف تمرده على الواقع ،والواقع الشعري ، في تجليات مخيلته المميزة ،في التصور والتحديد ، من الصعب فهمها ، وكأنها ولدت لإيجاد حياة جديدة من المقطوعة الأولى ( التحديد ) إلى المقطوعة الرابعة ( الرضا ) .
( ضربت رأسي بالغوص في حياتك فلطالما انهج في الهواء سأحمل أسمك )
هذه الطريقة في الكتابة تؤدي الى المعاني المجازية ، التي تجهد أحيانا الفكر الآخر ، ولا يمكن الخلط بين الصورة والموضوع ، فهما جنبا إلى جنب ،أن التكثيف بينهما ليس هدف محدد للكتابة العامة ، على الرغم انه يحقق أهدافه المرسومة ،في النص الشعري المتألق بالعاطفة الإحساس ، فأن الحماس والانفعال حالة فنية للعقل ، عندما يحدد الشاعر ادوارد صور واقعية جريئة ،وتأملية في نفس الوقت ،يمسك بقوة تروض لصالح المقطوعة الشعرية حيث تجعلها منطقية ،بأسلوب معين ، وهكذا يطلق العنان للقوة العاطفية الإنسانية ، لأن تظهر عن المألوف ، والتعليق بما هو غير مألوف ، والإبحار في الرؤية النظرية والحسية بأفق أوسع ،بالاقتراب من التحديد المسبق ، لذا كلما كانت أكثر نجاحا وتأثيرا ، تركت مجالا أوسع لمخيلة القارئ .
( افتح عينيك , افتح أذنيك , افتح فمك , قبلة واحدة , تسد العيون والأذان )
إن عظمة الشعراء تكمن في اكتشاف وتفجير طبيعة الفكرة ، قديمة أو تقليدية ، بإيقاظها بأسلوب معين ،بفكرة جديدة حتى لو كانت محددة ، فقوة الشعور فيها بلا حدود ، في الخيال والإحساس ، ( لها وجه واقعي ) إذا الصورة واقعية ، يؤجج الشاعر ادوارد فوضى الحساسية بكثافة صورية فنية ، ليسمح للتأويل والتأمل العميق يأخذ دوره ، فقد صح قول أرسطو : ( إن الشعر هو ليس الفن ألأكثر تكثيفا فحسب ، بل هو أيضا الفن الأكثر فلسفة ) ربما يحتاج الشاعر إلى كلمة واحدة تكفي باقي الأسطر ، إلى كلمة حسية واحدة ، لتجعل الصورة الشعرية ،تقفز للذهن بسرعة فائقة ، على الرغم إن مخيلتنا قد تصور وتنتج صور عدة غير محددة ، لنفس الفكرة المحددة مسبقا .
( لها وجه واقعي , نهديها شامختان تضحك ، تأخذك بين يديها تتحدث ، صوب أعلى السلمسيدي : 300 يورو ! )
هذه الصور الشعرية تعري الواقع ، وهو جزء محدد لواقع كبير غير محدد ، في الانهيار الواقعي ، أو إفلات الحرية الواقعية ، في مجتمع لا حدود للحرية إلا ما ندر ، فكل شيء بثمن حتى الغانية حددت الثمن مسبقا ( 300 يورو ! ) انه إجهاد الشاعر لإعطاء الواقع فكرة معززة بحياة شعرية ،وتصعيد الفكر إلى مستوى أن تكون شيئا جديدا آخر . أن الشاعر ادوارد في المقطع الرابع ( الرضا ) ليس على عجلة من أمره ،فالسفر عنده شيء عادي ، روتيني ، ( نحن نسافر – فلسنا على عجلة ) يوحي إن السفر الدنيوي من مكان لآخر ، كالمأكل والملبس والماء لا يحتاج إلى عناء يذكر ، ( نحن الذين نحددها ) فلا روتين ولا ملل ولا أوراق ولا استعانة بأحد ، ولا تفكير في سعر التذكرة ، فهو يذهب إلى أي مكان وقت ما يشاء ، بأمان ،ويسر ،وحرية ،والكرامة الإنسانية محفوظة ، صور ايجابية للرضا بالواقع ، كل شيء متوفر فلماذا لا يرضى ؟ عنده ( السعادة – قبلة ) آخر الليل ، وينتهي كل شيء .
( نحن نسافر فلسنا على عجلة والسرعة نحن الذين نحددها وما السعادة إلا قبلة تداوي الليل )
هكذا يكشف لنا الشاعر ادوارد حقيقة الواقع بصور مكثفة ، من معنى تجربته الشخصية ،فلم يبحث طويلا عن الصور ،فهي موجودة أصلا في واقعه الغير المحدد ،وفي ذاكرته الشعرية الغير محددة ، ولها مطلق الحرية للتجول في الواقع لكن حددها الشاعر مسبقا لمعنى وغرض شعري وفكري واضح .
الشاعر ادوارد ف . اورتنر
- مواليد 1955 م مدينة غراتس النمساوية
- اصدر ( 4 ) دواوين شعرية
- يعد النقاد قصائده محاولة فنية لترتيب وإعادة الحياة .
الشاعر ادوارد ف . اورتنز والتحديد المسبق.
بقلم الكاتب
عصمت شاهين دوسكي