ظلّت طنجة الحلم الذي يداعب عيونه الجواهري وحكاية “طوق الكفاية الفكريّة”
د. عبد الحسين شعبان*
في تمّوز (يوليو) 2019 لبّيتُ دعوةً كريمةً من “مؤسّسة المهرجان المُتوسّطيّ للثقافة الأمازيغيّة في طنجة” المعروف بـ “مهرجان ثويزا” للمُشارَكة في مجموعةِ مُحاضرات عن “كارل ماركس… اليوم” مع نُخبة من مفكّرين ومثقّفين مَغارِبة وعرب، بينهم عبد الإله بلقزيز وفوّاز طرابلسي ونور الدّين العوفي. وما أثار انتباهي في تلك المدينة التي أَطلق عليها الشاعرُ الكبير الجواهري “مدينة الغنج والدلال”، والتي أزورها على نحوٍ مُستمرّ منذ ربع قرن من الزمان، هو الاحتفاء الكبير بماركس وتفاعُل الجمهور المُتطلِّع إلى رؤيةٍ استشرافيّةٍ نقديّةٍ جديدةٍ له ولأعماله أيضاً وللتجربة السالفة بما لها وما عليها من مُحاوَلةِ تلمُّس طريق جديدة وأساليب جديدة.
وكنتُ قد بدأتُ مُحاضرتي الموسومة “عودة ماركس” بالحديث عن الشاعر محمّد مهدي الجواهري، وقصيدته عن طنجة التي “ينطلق اللّيل من جفنَيها …” وقد وعدتُ القارئَ بالعودةِ إلى حكاية الجواهري مع المغرب المُثيرة والمُلتبِسة خلال زيارته اليتيمة تلك العام 1974، والتي حرّكت بعض الأوساط لتوجيه انتقاداتٍ شديدة للجواهري، تارةً لاتّهامه بأنّه مدّاح الملوك وأخرى ليساريّته، مثلما استهدف بعضها دقّ إسفين بينه وبين السلطة في بغداد التي دعته للعودة من غربته التي دامت 7 سنوات عجاف على حدِّ تعبيره، وكرّمته ومنَحته راتباً شهريّاً يرقى إلى راتب وزير في تلك الأيّام، ولأنّ ذلك أغاظ بعض الأوساط داخل السلطة وخارجها، فانبرى قسمٌ من الأدباء والمُثقّفين العرب بتحريضٍ وتأليبٍ مُباشر أو غير مباشر لشنّ حملة عليه، وهو ما سنأتي للحديث عنه.
أمّا قصيدته عن طنجة فيقول فيها:
للهِ دَرّكِ “طَنْجُ” مِن وطنٍ
وقفَ الدلالُ عليهِ والغنجُ
تتخالَف الألوانُ في شفقٍ
ويلمّـها غـسقٌ فـتـنـمزجُ
قلتُ مقتفياً أثر الجواهري في تلك الأصبوحيّة التمّوزيّة أنّ طنجة التي تحتفي اليوم بعودة ماركس، وإنْ تخالفت الألوان في شَفقها، لكنّها تعود وتلتئم في غسقها بامتزاجٍ عجيب، وهكذا هي الرؤى حول ماركس، الذي يبقى الحلقة الذهبيّة الأولى في “التمركُس” وبين “الماركسيّة” من بعده، أي “الماديّة الجدليّة” وصنوها “الماديّة التاريخيّة”، وخصوصاً بالبراكسيس والتجربة العمليّة وما أفرزته، بما ينسجم ويتناسق مع تطوّرات عصرنا وعلومه، علماً بأنّ العالَم يدخل اليوم الطَّورَ الخامس من الثورة الصناعيّة في ظلّ العَوْلَمة، بتكنولوجيا الإعلام والمعلومات وثورة الاتّصالات والمُواصلات والقفزة الرقميّة “الديجيتيل” والتحوّل في “منظومة القيَم في العصر الرّقمي”، وهو عنوان آخر لقراءة ماركس… اليوم.
محمّد شكري
لا يُمكن ذكْر طنْجة من دون استحضار الروائي المغربي محمّد شكري “الشحرور الأبيض” وغوايته، وخصوصاً روايته الذائعة الصيت “الخبز الحافي” التي اشتهرت مثل حياته المُثيرة، فضلاً عن “مطعم اللّونغوستينو” الذي كان مُستقَرّاً له، وخصوصاً في آخر أيّامه لقربه من شقّته، والذي أصبح لاحقاً “مطعم الخبز الحافي” وهو أقرب إلى مَتحفٍ يضمّ آثار محمّد شكري ويؤرِّخ لحياته لما فيه من وثائق ورسائل وصداقات وقُصاصات. وفي كلّ زيارة لي إلى طنجة لا بدّ أن أحتسي كأساً من الشراب فيه؛ وبالمُناسبة فقد كان المهرجان المُتوسّطي قد أعدّ حلقة أكاديميّة لنقد أعمال محمّد شكري، وقد تسنّى لي حضورها كاملة والاستماع إلى المُناقشات الراقية التي تخلّلتها.
لم يكُن الجواهري وحده المُعجب بطنجة والرّاغب بالإقامة فيها، فقد سبقه فرانسيس بيكون الفيلسوف ورجل الدولة الإنكليزي (1561 – 1626)، وتينيسي ويليامس الكاتِب المسرحي الأمريكي (1911 – 1983)، وترومان كابوتيه الروائي الأميركي (1924 – 1984)، وصموئيل بيكيت الكاتب الإيرلندي (1906 – 1989)، وجان جنيه الشاعر والروائي والكاتِب المسرحي الفرنسي (1910 – 1986)، ورولان بارت الفيلسوف الفرنسي (1915 – 1980)، وويليام بوروز الكاتب الأميركي (1914 – 1997)، وباول بولز المؤلِّف والمُترجِم الأميركي (1910 – 1999).
عروسة المغرب
في طنجة يتعاشق البحران حيث يلتقي البحر المتوسّط مع المحيط الأطلسي (باب العبور إلى القارّتَيْن) وبالقرب من مالاباطا (رأس المنارة) و”مغارة هرقل”، وفوق التلال المُتعرّجة، يُواجِهك فضاء لا حدود له. فحتّى الشمس، ولاسيّما وقت الغروب، تتحوَّل إلى كرة برتقاليّة متوهِّجة مائلة إلى الاحمرار؛ أمّا الغيوم، فلَونها فضّي مُطعَّم باللّازورد. ويبقى سوق طنجة الداخلي مقصد السيّاح حيث رائحة السمك تفوح من جانبيه، مثلما تكتظّ المحلّات بشتّى الأنواع من البضائع والسِّلع والعطور والبهارات والأقمشة والمصنوعات الشعبيّة والثياب الجميلة.
مقهيان
مقهيان لا يُمكن زيارة طنجة من دون الجلوس فيهما، وقد يطول هذا الجلوس ويتكرّر، أحدهما وسط المدينة “كافّيه دي باريس” قبالة القنصليّة الفرنسيّة، وفيه واجِهة خارجيّة مُطلّة على الساحة وعلى شارعَين مُتّصلَين بها، مثلما لها أماكن جلوس داخليّة، وقد علمتُ أنّها مُسجَّلة في قائمة اليونسكو ضمن الأماكن التراثيّة المطلوب الحفاظ عليها، وقد كان الجواهري الكبير مُعجَباً بها وقارَنَها حينها بمقهى سلوفانسكي دوم التاريخي أو مقهى أوبزني دوم في براغ، على الرّغم من أنّها ذات نكهة أخرى.
وهناك مقهى “الحافة” الذي يُطالِع مضيق جبل طارق، والذي كتبَ محمّد شكري روايته “الخبز الحافي” فيه، وكان العديد من الأدباء قد زاروا هذا المقهى التاريخي الشهير ومن هؤلاء ألبرتو مورافيا ولوركا وجاك كروال وجان جنيه وشون كونري وبول بولز والطاهر بن جلّون وأدونيس وسعدي يوسف وبلند الحيدري ومحمود درويش ومارسيل خليفة وآخرون، كما ارتاده الجواهري مُتطلِّعاً إلى أُفقٍ لا حدود له باتّجاه الأندلس التاريخيّة وشاعرها ابن زيدون الأندلسي، حيث كان يرى من هناك إسبانيا بأضوائها التي لا تَبعد أكثر من 20 كلم.
استذكار
استعدتُ مع الشاعرة والمُستشارة الثقافيّة المَغربيّة وفاء العمراني زيارة الجواهري إلى المغرب، وما تَركَتْه من أجواءٍ إيجابيّة، وسألتْني عن بعض المُلابسات التي سَمِعتْها، وبالضبط ماذا حصل وكيف ولماذا؟ وكان جوابي لها أنّ تلك الزيارة والحفاوة الكريمة من المَملكة المغربيّة أثارت ردودَ فعلٍ مُعاكِسة لدى بعض الأوساط العراقيّة والعربيّة، التي حاوَلت النَّيْلَ من الجواهري همْساً أو جهاراً، وبالنميمة تارةً وأخرى بالتأليب حَسَداً، مثلما تَركَتْ ندوباً غير قليلة على الجواهري ومزاجه، وظلَّ مَهجوساً بردّة الفعل التي تسبَّبت بها تلك الحملة، ولاسيّما مُحاولات الإساءة الرخيصة والاستهداف المقصود.
أصل الزيارة .. أصل الحكاية
الحكاية كما رويتها في كِتابي “الجواهري جدل الشعر والحياة” وأحتفظ بتفاصيل أخرى عنها، أنّ موسى أسد الكريم “أبو عمران” أَخبر الجواهري أنّ الدكتور بهاء الدّين الوردي، وهو من عائلة الورد الكاظميّة المعروفة، يريد التعرّف إليه واللّقاء به، ولأنّ هناك كثرة كاثرة كانت تُكدِّر على الجواهري خلوته وتقطع عليه تأمّلاته وتُداهمه أحياناً في المقهى ومن دون موعد وحتّى من دون أن يَعرف مَن هُم، فقد اعتذرَ، وحين كرَّر موسى أسد المُحاوَلة، غضبَ الجواهري جدّاً وأَقفل السمّاعة بوجه الكريم، قائلاً له: لستُ فِرجةً ليأتي الناس ويلقون النَّظر عليَّ، وكنت حينها في منزل الكريم القريب من منزل الجواهري في منطقة بتشيني – براغ، لكنّ ذلك لم يثنِ الكريم من محاولة الاتّصال بالجواهري مرّة أخرى، وحاولَ أن يشرح له علاقة الضيف بعالِم الاجتماع علي الوردي، الأمر الذي جعَلَ الجواهري يستشيطُ غضباً أكثر وانفعالاً أشدّ، علماً بأنّني حذّرته من ردّة فعل الجواهري وانفعالاته، لكنّه حاول للمرّة الثالثة انطلاقاً من معرفته بالجواهري و”ميانته” معه، وثقته بنفسه وقدرته على إقناعه، وبالفعل نجح بذلك، فقد طلب من الجواهري الاستماع إليه إلى النهاية قائلاً له: إنّ بهاء الدّين الوردي أديب أيضاً وقد عاش في فرنسا ودرس فيها وتخرّج منها وهو يحمل الجنسيّة المَغربيّة ومقيمٌ في المغرب منذ تخرّجه في العام 1955 ومُتزوّج من فرنسيّة، فضلاً عن كَونه طبيباً للعائلة المالِكة واختصاصه بالأمراض النسائيّة، وهو في زيارة إلى براغ ويدعوك لزيارته في المغرب.
مطعم كوزموز
وبعد تردُّد وانتظار، حَزم الجواهري أمره فبادَر هذه المرّة هو إلى دعوة الضّيف وزوجته ومعهما أبو عمران إلى مطعم “كوزموز” القريب من منزله على العشاء، وقد استلطف الجواهري تلك الجلسة الحميمة وكرّر الوردي دعوته المفتوحة للجواهري لزيارة المغرب. وبعد عدّة أسابيع سأل الجواهري أبا عمران عن الدعوة، وبادر الأخير للاتّصال بالسفير العراقي نعمة النعمة الذي أصبح وكيلاً لوزير الخارجيّة بعد ذلك سائلاً إيّاه بطريقته المملّحة: “هل تذهب الطائرة العراقيّة من براغ إلى كازابلانكا؟”، وهنا فهِمَ السفيرُ اللّمّاح القصدَ وأَوضح له أبو عمران أنّ الجواهري يروم زيارة المغرب، فقال له بالحرف الواحد: إذا قرّر الجواهري زيارة المغرب، فالطائرة العراقيّة ستصل بالطّبع إلى هناك بكلّ ممنونيّة. وبعد أيّام أرسل تذكرة بدرجة رجال الأعمال للجواهري من براغ إلى الدار البيضاء ومنها العودة إلى براغ، وبالطبع ليس على الطائرة العراقيّة.
حين تحدَّد مَوعدُ السفرِ أعطى الجواهري خَبراً للوردي عبر موسى أسد الكريم بمَوعد وصوله، والأخير بحُكم علاقاته الوثيقة وصداقاته المتنوّعة ومَكانته في المغرب تواصَلَ مع الصحافة، لدرجة أنّ الجواهري فوجئ باستقبال مهيب وغير مُتوقَّع في المطار، واعتبرته وزارة الدولة للشؤون الثقافيّة والدينيّة ضَيفاً عليها، في حين كان هو يرغب بزيارةٍ شخصيّة. وتلك أصل الحكاية، وقد قوبِل الجواهري بحفاوةٍ بالِغة واهتمامٍ غير عاديّ، بما في ذلك من جانب البلاط، وقد أقام له الأديب الحاجّ امحمّد أبا حنيني حفلَ عشاء بمنزله في 17 حزيران (يونيو) 1974 المُصادِف 27 جمادى الأولى 1394هـ، دعا إليه نُخبة مُتميِّزة من رجال الفِكر والثقافة والأدب احتفاءً بالشاعر، كما حضرَ بعضُ الوزراء وعددٌ من سفراء الدول العربيّة.
طوق الكفاية الفكريّة
وباسمِ جلالة الملك الحسن الثاني وشَّحَ الوزيرُ أبا حنيني الجواهري بوسام “طوق الكفاية الفكريّة” وألقى كلمة عبّر فيها عن الأثر البالغ الذي خلّفته زيارة الجواهري للمغرب، وبادله الجواهري بكلمة جوابيّة عبّر فيها عن شكره لجلالة الملك على هذه الالتفاتة الكريمة، وألقى قصيدة بهذه المناسبة، كما تلقّى تهاني الحاضرين، وكان قد شرع حينها بنَظْمِ قصيدة جديدة.
وجاء في كلمة “أبا حنيني”:
حضرة الشاعر الأعزّ الأكرم، شاعر المَجد وشاعر اللّفظ وربّ المعاني الدقاق محمّد مهدي الجواهري؛ كلّفني صاحب الجلالة الحسن الثاني أطال الله عمره وأبقى الخافقين ذكره أن أُنيط بعنقك “طَوق الكفاية الفكريّة” تقديراً منه لآثارك وكفايتك، وهو العاهل الأديب العالِم بأسرار الإبداع أيّة ما كانت مَرابعه ومَغانيه وأزياؤه ومَبارحه… فما أعظم سعادتي بهذا التكليف وهذا التشريف!
ويُواصل أبو حنيني كلمته بالقول: “… لأنّك أَغنيتَ لغةَ آبائك وعشيرتك وأعليْتَ مَكانها بين اللّغات ورفعْتَ مَقامَها إلى ذروة الاعتزاز وقمّة الابتهاء وأنتَ تجلو وترسم المَشاعر وتبثّ الحقائق والخواطر وتَنشر الأفكار والألحان وتَنظم اللّئالي والجواهر”. وعبَّر عن لقاء المغرب بالعراق مُخاطِباً الجواهري بالقول “في شخصك الباسط جناحَيه على بلاد العروبة من أقصاها إلى أقصاها، وفي أشخاص محبّيك وإخوتك من هذا الوطن الذي ظلَّ عبر القرون وسيظلّ بعون الله على مدى العصور مَعقلاً حصيناً من مَعاقل العروبة ومَركزاً مرموقاً من مَراكِز إشعاع الفكر والثقافة”.
واختتمَ كلمته البليغة بقوله: “سيطول ذكرك بيننا أيّها الأخ الأعزّ الأكرم وسيمتدّ بامتداد الأجيال والأزمان وما أجدر هذه البلاد التي أصفت لك المودّة وأخلصت لك الإعجاب أن تذكرها في ما تذكر من أقطار ويحدوك الحنين إلى العودة والمآب…”.
وردّ الجواهري بكلمة مؤثّرة وبليغة جاء فيها:
“سيّدي مُمثِّل جلالة الملك المُعظَّم.. يا معالي الأستاذ الجليل الوزير الأديب العالِم أبا حنيني، إنّ لساني لقاصرٌ عاجزٌ عن التعبير عمّا تجيش نفسي به من أحاسيس ومَشاعر وعواطف يزدحم بعضها البعض ويُطفئ الواحد منها على الآخر، وإنّ مثل هذا المَوقف الكريم النبيل الذي تقفونه منّي مُمثّلين به تَكرُّمَ صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني العظيم عليَّ في ما يُشرّفني به من هذا الوسام الرفيع “وسام الكفاءة الفكريّة” وسام من ملكٍ جليل، هو بحدِّ ذاته شرَفٌ عميم، فكيف به وهو يحمل معه شرفاً ما أعظمه وما أجلّه، شرف أنّ حامله المتشرّف به ذو كفاءة فكريّة، وأنّ الذي يشهد عليها هو أعلى مقام في هذا الوطن المغربي العظيم الزّاخر بكلّ الكفاءات الخيّرة النيّرة وفي كلّ مجالات الفكر…”.
وبعدما أَعرب عن قبوله تسلُّم هذا الوسام الرفيع، شكرَ صاحب الدعوة أبا حنيني على الحفاوة وقال: إنّ هذه المناسبة الكريمة والتي حسبتها كرَماً وحسبي تكريماً أن تكون على يدكم وفي هذه الدار العامرة مع التماسة برفع ما لمستموه بأنفسكم من انفعالاتٍ مُعبّرة بما لا يُعبِّر عنه اللّسان ولا القلم إلى مَقامِ صاحب الجلالة.
ثمَّ أنشد الجواهري:
يا سيّدي… صاحب التاج الذي اعتمرت
به الخلائق من فهر ومن مضرِ
ويـا وديـعـة إقـبـال مـحـمّـدة
بـهـا تنزل “آيا” مُحكم السّور
ويا حفـيـظ حـضـارات مـورقة
ما زلت تطلع منها أطيب الثمرِ
تبقى… وتبقى مدى الآمـاد نافـحـة
بما نفحت بها من ذكرك العطرِ
قلّدتني من نجوم الفـكـر أروعـهـا
فليجزينّك عـنه أروع الفـكـرِ
وما عسى أن يقول الشـعـر في ملـك
غنى به شعراء البدو والحضـر
*****
يـا أيـّهـا الحـسـن الثاني… يئلنها
ولاة عهدكَ من أخلاقك الغـرَرِ
عهدتني قبل أن ألـقـاك مُبـتـكـراً
أَمّا لديك فإنّي غير مبـتـَكـَرِ
لم ألِف صورة حسن اسـتـجـاش بها
إلّا وعندك منها أحسن الصـور
ما عاقني غير لطف مـنك قـيّـدنـي
إني لفَرطِ ابتهاج منه لـم أطـرِ
سلـمتَ ذُخـر تـراث أنت رونـقـه
يا خير مـدّخرٍ… عن خير مدّخرِ
هنا.. هنا.. يا رسول الشِّعر في خـضل
من الجنائن مدح ملهم… نـضـِرِ
في ظلّ ملكٍ يُعيد الشِّـعر مـزدهـراً
وظلّ شعب لهديٍ منه مـزدهـرِ
“أرح ركابك من أين.. ومن عـثـر
كفاك جيلان محمولاً على خطـرِ”
وقد اقتبس البيت الأخير من قصيدته الرّائيّة الشهيرة التي ألقاها في الاحتفال الذي أُقيم له في كازينو “صدر القناة” في 3 كانون الثاني (يناير) 1969 بعد عودته من منفاه وكان قد حظي باهتمامٍ رسمي وشعبي مُنقطع النظير.
ويبدو أنّ قصيدته “المغربيّة” أثارت حفيظة، بل غَيض بعض المُتربّصين ضدّه، وكان الجواهري حينها قد قرَّر الإقامةَ لبضعة أشهر في المغرب على الرّغم من الحملة التي حرّكتها أيادٍ خفيّة لكنّها كانت معروفة. فقد كتبَ غالي شكري مقالةً مُدوّية بعنوان “سقوط آخر العمالقة”، وكَتب آخرون بأسماءٍ مُستعارة مثل “حمدان القرمطي”، وإن ندم بعضهم كما عرفت، وكانت الأجواء السياسيّة السائدة مُشجّعة على تلك الحملة، وخصوصاً وقد أزعجها اهتمام الحكومة المغربيّة من أعلى مَقاماتها إلى شتّى الهيئات الثقافيّة والاجتماعيّة والشعبيّة بالجواهري، الذي لم ينظم قصيدةً بهذا المستوى بأركان الحكومة العراقيّة، الأمر الذي جعلَ هناك مُقارناتٍ مُستتِرة تجري داخل الوسط الرسمي السياسي والثقافي، ناهيك بالعداء الخَفيّ والمُعلَن بين بغداد والرباط بحُكم توجُّهات البلدَيْن في تلك الفترة، وقد وَصلت أصداؤه إلى الجواهري وهو في المغرب فنظَمَ قصيدةً ألقاها في 20 أيلول (سبتمبر) 1974 بعنوان “تحيّة: ونفثة غاضبة” في مسرح محمّد الخامس في الرباط، وكأنّه يستبق الردّ فيها على المُستغلّين والنهازيّين كما كان يسمّيهم:
سماحاً إن شكا قلمي كلالا
وإن لم يُحسنِ الشعرُ المقالا
وإن راحت تُعاصيني القوافـي
بحيثُ الفضلُ يُرْتَجَلُ ارتجالا
أتبغونَ الفُتوةَ عند هِمّ
على السبعينَ يتّكلُ اتكالا
فما شمسُ الظهيرة وهي تَغلي
كمثل الشّمس قاربت الزّوالا
وقلتُ لحاقدينَ عليّ غيظاً
لأني لا أُحبّ الاحتيالا
هَبُوا كلّ القوافِلِ فـي حِماكُمْ
فلا تَهْزَوا بمن يَحْدُو الجِمالا
ولا تَدَعُوا الخصامَ يجوزُ حدّاً
بحيثُ يعودُ رُخْصاً وابتِذالا
وما أنا طالبٌ مالاً لأني
هنالِكَ تاركٌ مالاً وآلا
ولا جاهاً، فعندي منه إرثٌ
تليدٌ لا كجاهِهِمُ انتِحالا
وبعد عودته إلى براغ وصادف أن جمعَتنا ضهيرة في سلوفافسكي دوم بحضور موسى أسد الكريم، وكان الجواهري شديد الغضب وحادّ الانفعال، وبعد إلقاء التحيّة عليه والجلوس أخرج من جيبه رسالة شديدة اللّهجة ضمَّنها تعريضاً بهؤلاء “المُنافقين” كما أسماهم وبمَن أَوْعَزَ لهم عمليّة التجديف والتحريف كما أطلق عليها؛ وحين سألناه ما الذي حصل بالضبط؟ أجاب أنّه قابلَ المعروف والإحسان والتكريم بالشكر والامتنان، وهذه إذا صدرت عن لسان شاعر تأخذ شكل قصيدة وإن خرجت من أفواهكما أو أقلامكما تأتي على شكل رسالة شكر وعرفان بالجميل، وسألنا أليس كذلك؟ وكان جوابنا نعم بالتأكيد. وبعد عدّة سنوات أعدتُ السؤال عليه بخصوص قصيدته عن محمّد بن الرئيس البكر، فأوضح موقفه بالكامل بقوله: كما تعرف أنّ (الجماعة) كرّموني في حينها وعوملت بشكلٍ خاصّ “استثنائي”، وقد كتبتُ بدافِع “الوحدة الوطنيّة” والتئام الشّمل، بل إنّ ظروف المرحلة والواقع السياسيّ كانت تفرض بعض التوجّهات. وسبق أن أجابني على سؤالٍ سابق بالقصد ذاته بقوله: لم أكُن حينها خارج مزاجي وطموحي إلاّ مرّة واحدة وهي التي قال عنها في حوارٍ نشرته قبل نحو ربع قرن: لم أغتصب ضميري سوى مرّة واحدة والمقصود بذلك قصيدة التتويج التي كَتبها يوم اعتلاء الملك فيصل الثاني عرش العراق العام 1953 والتي يقول في مطلعها:
ته يا ربيع بزهرك العطر الندي
وبصنوك الثاني ربيع المولد
ولكنَّه كَتب بعدها قصيدةً رائعة بعنوان “كفّارة وندم” العام 1953، وقد نُشرت في جريدة الرأي العامّ في 20 حزيران (يونيو) 1954 التي يقدِّم فيها نقداً ذاتيّاً جريئاً حيث يقول في مطلعها:
سيبقى – ويفنى نيزكٌ وشِهاب –
عروقٌ أبياتُ الدماءِ غِضابُ
إلى أن يقول في كشفِ حِسابٍ وتعنيفٍ للنَّفس ومُحاسَبةٍ لها في قصيدة “غاشية الخنوع” التي نَظَمها في العام 1956 في حفل تأبين شهيد الجيش السوري عدنان المالكي ومطلعها:
خلفتُ غاشية الخنوع ورائي
وأتيتُ أقبس جمرة الشهداءِ
إلى أن يقول في النقد الذاتي:
حاسبتُ نفسي والأناة تردُّها
في معرض التصريح للإيماء
بيني لعنت فلستُ منك وقد مشى
فيك الخمول ولست من خلطائي
ماذا يُميّزك والسكوت قسيمة
عن خانع ومهادن ومُرائي
أبأضعف الإيمان يخدع نفسَهُ
مَن سنَّ حُبَّ الموت للضعفاء؟
ما أنت إذ لا تصدعين فواحشا
إلا كراضية عن الفحشاء
وعاد ليُحدّثني بموضوع الشاب محمّد نجل الرئيس البكر فقال الجواهري: لقد قُتل بحادث سيّارة مؤسف وقد ربطتني به علاقة خاصّة ولم أقُل كلمة يُشمّ منها رائحة التملّق، وقد كتبتُ رثائيّة له عام 1978، فما العيب في ذلك؟ وأنتم كُنتم في جبهتكم الغالية فرحون. وكان الجواهري على حقّ تماماً، ولكنْ للأسف لم يُدافِع أحدٌ من مَوقع اليسار حينها عن الجواهري يوم شُنَّت الحملة عليه وفضَّلت أوساطُنا السياسيّة والثقافيّة الصمت وكأنّها غير معنيَّة بالأمر. جدير بالذكر أنّ مطلع القصيدة المذكورة (الخاصّة بمحمّد البكر) كان مؤثّراً وهو الذي يقول فيه:
تعجـّلَ بـِشرَ طلعتـِكَ الاُفولُ
وغالَ شبابـَك الموعود غولُ
أمّا بشأن مقالته للردِّ على المُتخرّصين، كما أسماهم، ومَن يقف وراءهم، فقد حاول موسى أسد الكريم ثَنيه من نشرها ونجح بالفعل، إلّا أنّ أجواءَ غضبة الجواهري ظلّت مُسيطِرة عليه حتّى بعد انقضاء فترة من الزمن، وظلَّ يستعيدها بشكلٍ مُباشر أحياناً وبأشكالٍ غير مباشرة في الغالب، وعبرّ عنها في مُذكّراته الموسومة “ذكرياتي” (جزءان، دار الرافدين، دمشق، 1988).
جدير بالذكر أنّه في العام 1975 نشرَ قصيدته الرائيّة والموسومة “آليت” والتي يعود فيها إلى الحملة التي استهدفته، حيث يقول:
آليتُ أُبرِدُ حَـرّ جمري
وأديلُ من أمر بخمرِ
آليتُ أمتحنُ الرّجولةَ
يوم مَلْحَمةٍ وعُسر
ومُساومين على الحروف
كأنّها تنزيلُ ذِكر
مَدّوا لعُريانِ الضميــرِ
يداً بزعمِهِمُ تُعرّي
مـــاذا تُعرّي إنّـهـا
شِيّة الحُجول على الأغر
ومخنّثٍ لـم يُحتَسَـبْ
في ثيّبٍ خُطبتْ وبِكر
أقعى.. وقاءَ ضميرَه
ملآن من رِجسٍ وعُهرِ
كذُنابِ “عقربةٍ” لهـا سُمّ
على العَذَبات يجري
غالٍ كأرخصِ ما تكونُ
أجورُ غيرِ ذواتِ طُهر
لم يُعلِ قدريَ مدحُه
وبذمّهِ لم يُدنِ قدري
ثمّ يقول:
ومبارزينَ سلاحهم
أنْ لست ندَّ ذوات ظفرِ
أمنوا بعصمة صافح
عن كاشفي السوءات نكرِ
مثل “الفواحش” يحتميـ
ــــن بفحشهنّ، بأيّ سترِ
مُستعبدين توارثوا
حقب التملُّك، والتسرّي
ومُسخرين فهُم لدي
ــــك وهم عليك! لقاء أجر
وفي غمرة تلك الأجواء نَظَمَ الجواهري قصيدته الاقتحاميّة الأخرى: “أزح عن صدرك الزبدا”، التي نشرتْها مجلّة الرابطة الأدبيّة في النجف (تشرين الثاني/ نوفمبر 1975)، انتقد العصر المليء بالزّيف والخداع وتحدّث عن سموّ النَّفس والكبرياء والشِّعر، وهو يعتبرها من أعزّ قصائده:
أزح عن صدرك الزبدا
ودعه يبثّ ما وَجدا…
ولا تكبت فمن حقب
ذممتَ الصبر والجلدا
ويصل في القصيدة إلى ذروة الكبرياء والشموخ:
أأنتَ تخاف من أحدٍ
أأنتَ مصانعٌ أحدا
أتخشى الناس، أشجعهم
يخافكَ مغضباً حردا
ولا يعلوك خيرهم
ولست بخيرهم أبدا
ولكن كاشف نفساً
تقيم بنفسها الأودا…
تركت وراءك الدنيا
وزخرفها وما وعدا
ورحت وأنت ذو سعة
تجيع الآهل والولدا…
وأعتقد أن قصيدته الموسومة “رسالة إلى محمّد علي كلاي” نُظمت في تلك الأجواء الانفعاليّة في براغ العام 1976 وكان أبو عمران يُردّدها بصوته الرخيم ويطلب شمران الياسري “أبو كاطع” إعادتها أو إعادة بعض أبياتها، حتّى أنّ “الدكتور” عمران نجل موسى أسد الكريم وكان حينها فتىً وهو لا يُتقن العربيّة، لكنّه ظلّ يُردّد بعض مُفردات قصيدة محمّد علي كلاي لكثرة تكرارها من قِبَلِنا مثل “زندٌ بزند” و”فداءُ زندك” وهو يعتقد أنّ المقصود هو صديقنا عصام الحافظ الزند، وكثيراً ما كنّا نتبادل بعض كلمات هذه القصيدة من باب السخرية الحزينة، ففي مقدّمتها يقول الشاعر “تلاكم وخصمه فهزمه وأدماه … فحاز على إعجاب العالَم وملايينه” والتي جاء فيها:
يا مُطْعِمَ الدنيا وَقَدْ هُزِلَتْ
لحماً بشـحمٍ منـه مقطوبِ
شِسْعٌ لنعلِكَ كلّ مَوْهِبةٍ
وفداءُ “زندِك” كلّ موهوبِ
وصدى لُهاثِكَ كلّ مُبتَكَرٍ
من كلّ مسموعٍ ومكتوب
***
يا سـالـباً بجِمـاع راحتِـهِ
أغنى الغنى، وأعزّ مسلوبِ
ما الشعرُ؟.. ما الآدابُ؟.. ما بِدَعٌ
للفكر؟.. ما وَمَضاتُ أُسلوب؟
شِسْعٌ لنعلِكَ كلّ قـافية
دوّتْ بتشـريـق وتـغـريـب
* * *
يا سيّدَ ” اللّكَماتِ” شـامخـةً
تهـزا بمنسـوبٍ ومحسـوب
***
يا سيّدَ “اللّكَماتِ” يَسْحَرُها
ذهباً، بِذِهْنٍ منهُ مَشبوبِ
نحنُ الرعيّة.. عِشْتَ من مَلِكٍ
بِمفـاخِـرِ “العَضَلاتِ” معصوب
زَنْدٌ بزندٍ.. والورى تَبَعٌ
لكما، وَ عُـرْقُوبٌ بعُرقوب
مَرّغْهُ.. مَزّقْ ثوبَ سَحْنَتِهِ
رَقّعْهُ من دَمِهِ بِشُؤبوبِ
لَدّغْـــه بـالنّـغَـزاتِ لاذعـةً
ما لـم يُـلدّغْ سُـمّ يعسوبِ
سَلِمَتْ يداك.. أأنت صُغْتَهما
أمْ صوغُ ربّ عنك محجوبِ
* * *
شسْعٌ لنعلِكَ كلّ موْهبةٍ
وَفِداءُ زندِكَ كلّ موهوبِ
وفي حوارٍ لي معه في الثمانينيّات (منشورٌ جزء منه في كِتابي عن الجواهري – جدل الشعر والحياة) يقول الجواهري: لقد كشفتُ عن نفسي وبنفسي بسبعة مجلّدات من دون تضخيمٍ للذات، بل كنتُ كما أنا، أحبّ وأتحدّى وأردّ الجميل وأذكر المعروف، حتّى وإنْ اختلفت أو اختصمت أو أخطأت أو تطرّفت، وأُشدِّد مرّة أخرى لو كان هناك الناقد النظيف والأديب النزيه والكفوء بالمعيار الأخلاقي الذي تحدّثت عنه، لكان قد أعفاني من كِتابة المذكّرات وكلّ شيء فيها موجود في المجلّدات السّبعة.
وخاطبني الجواهري:
أريدك أن تتذكّر شيئاً مُشابهاً لما قلته عن المُتنبّي العظيم، فقد انتقدَ نفسَه وكشفَها وعنَّفها في مَوارِد الغضب. ربمّا يكون ذلك غير معروف كثيراً أو لا يتردَّد على أفواه الناس، حيث ابتلى المُتنبّي بكافور مثلما ابتلينا أنا وأنت وغيرنا بمَن ابتُلي بهم بما يضطرّنا الواقع أو مُجتمعاتنا بأن نُبتلى بهذا الموقف أو بهذا الشخص أو بهذه المرحلة “وأن نقول فيه ما لا يستحقّ وأن نندم على ذلك وأن نكفّر عنه” فالمُتنبّي العظيم له غضبات نادرة، فحين ترك سيف الدولة وقصد كافور وكيف كان ذاك وكيف كان هذا، ثمّ كيف ندم على ذلك بالقول:
وغادرتُ خير الناس طراً بشرِّهم
وأصدقهم طرّاً بأكذبهم طرا
فعاقبني المخصيُ بالغدر جزيّة
لأن رحيلي كان عن حلبٍ غدرا
ويمضي الجواهري بالقول: أستطيع في هذا الميدان أن أعدِّد لكَ الكثير من الشواهد والنقدات والغضبات وأنا فخور بها أيَّما فخر لأنّني واجهتُ الأمورَ بشجاعة، عندما كتبتُ قصيدة “كفارة وندم” في عام 1953، وكلّ ما كتبته وما قلته كان ناجِماً عن قناعةٍ، سواء كنتُ مُصيباً أم مُخطِئاً باستثناء تلك الحادثة (يقصد قصيدة التتويج)، وأكرّر أنّها كانت مُجرّد قناعات على الرّغم ممّا لحق بي من تشويهاتٍ أو تأويلاتٍ لهذه القطعة أو تلك القصيدة أو لهذا البيت أو ذاك، فهناك الكثير من الأشياء لا تزال قائمة عندي فيما يعدّه الآخرون مدخلاً للانتقاد والتعريض والشكّ، لكنّني حتّى هذه الساعة ما زلتُ مؤمناً بها.
قلتُ للجواهري في الحوار المَنشور يا أبا فرات: النقد الذاتيّ قوّة وشجاعة، ولا يهمّ بعد ذلك أن يكون في الجبل الشامخ ثمّة مَغارات أو كهوف أو انحناءات أو انكسارات، لكنّه يبقى مع ذلك جبَلاً شامِخاً واضحاً للعيان، يراه المرء من بعيد بعلوِّه وكبريائه.
وبالطبع فالمُريدون والمُحبّون لا يريدون أن يروا الأخطاء والنواقص، حتّى وإنْ كانت بسيطة وطبيعيّة، ويُحاولون تنزيه مَن يُحبّون ويَميلون له، أمّا الناقمون والكارهون فلا يرون بمَن يكرهونه ويحقدون عليه سوى تلك الثغرات والمَثالب، حتّى وإنْ كان صاحبها عبقريّاً وأخطاؤه صميميّة تتعلّق بقناعة أو اجتهاد، فالبشر خطّاؤون بحسب فولتير وعليهم أن يأخذوا بعضهم البعض بالتسامُح، لأنّ التعصُّب والتطرُّف يُبعدان المرءَ عن العقلانيّة والموضوعيّة، وتلك المسألة تتعلّق بالسلوك الإنساني والانحياز العاطفي بالحُبّ أو بالكراهيّة، وحين ينتقل هذا السلوك إلى دائرة السياسة أو الثقافة أو الإبداع سيكون أكثر حدّة من المجالات الأخرى، والظاهرة الجواهريّة بما امتلكت من عبقريّة ليست بعيدة عن تلك التجاذُبات.
وأستطيع القول إنّه لا يوجد مثل هذا الاندغام بين شاعرٍ عظيم وحالةٍ شعريّة مُتجسِّدة في إنسان من لحم ودم، وأكثر مَن عبَّر عنها هو الجواهري نفسه في قصيدته عن الزعيم المصري الكبير جمال عبد الناصر الذي جمع المجد والأخطاء بقوله:
أكبرتُ يومكَ أن يكون رثـاء
الخالدونَ عهدتهم أحيــاء
لا يعصمُ المجدَ الرجال وإنّمـا
كان العظيمُ المجد والأخطاء
تُحصى عليه العاثرات وحسبهُ
ما كان من وثباته الاحصاء
لعلّ الجواهري يُعبِّر عن نفسه في هذه القصيدة، التي كان يتمنّاها لو قيلت بحقّه، إذا لم يكُن هو قائلها بحقّ عبد النّاصر، وكنتُ قد سألته لو لم تقُل هذه القصيدة بحقّ جمال عبد النّاصر بحقّ مَن ستقولها، قال كنتُ أريد أن يقولها أحدٌ بحقّي فقد جمعت المُتناقضات. وبتقديري أنّ كلّ تلك المُتناقضات هي التي صنعت اسم الجواهري بما فيه من ألقٍ وعنفوانٍ وهو الاسم الذي صار يُعرف به في ما بعد كأحد أعظم المُبدعين العالَميّين في القرن العشرين.
لقد ظلَّت طنجة مثل الحلم الذي يُداعِب عيون الجواهري ويأتيه بين الفينة والأخرى وكم كان يُمنّي النَّفسَ بالعودة إليها، وحين وصلته دعوةٌ للمُشارَكة في احتفاليّة مئويّة الشاعر الأندلسي ابن زيدون هتف قلبه أنّها طنجة مرّة أخرى على الرّغم من هواجسه المعروفة، والتي تمَّت الإشارة إليها. وبين التردُّد بالمُوافَقة أو الاعتذار عن المُشارَكة جاءه خبر تأجيل الاحتفال فحمدَ الله على ذلك، لكنّ طنجة ظلَّت عالِقةً بذهنه حتّى أيّامه الأخيرة، وكما يقول الشاعر سعدي يوسف:
لستُ أنا مَن يوقِظ طنجة
مَن قال الحلم ينام؟
*مُفكِّر وباحث من العراق