الباحث عبد الحميد برتو .
إعترافات بفشل اللعبة الإنتخابية
يفعل الفقر عبر سياسة التجويع المتعمد ونقص التعليم وغياب السعي للتعلم فعلاً ضاراً وخطيراُ عند كل الإنسان، يعيش تحت وطأة مثل تلك الظروف، عن غير وعي وتصميم مسبقين. وتقرب سياسة التلقين، الفردي منه والجماعي من الحالة الغريزية حسب. كما يرسخ التقادم وقوة العادة ووهم القداسة، روحَ العنف وتغيب العقل وضعف الإرادة الفردية، طوعاً أو إكراهاً أو إحتياجاً ما. تستعرض عبر التدين الزائف الضغائن، التي يؤججها ما يمكن أن نسميه الثأر الذاتي، ضد الإحساس الداخلي غير المعلن، بالتعرض لهدر الكرامة الإنسانية لدى الشخص المطاوع خاصة.
تضخ بؤر النفوذ المتسلطة في المجتمعات المُسْتَعْبَدَة حالاتِ الفساد الإجتماعي والروحي والثقافي، سعياً للتحكم بالأفراد والمجتمع بأسره، عبر تعميماتها فلسفية غائمة أو كلامية بائدة أو لاهوتية غيبية أو أخلاقية مشوهة. يترك التكرار وهماً داخلياً، يتأرجح فيه وعي وموقف وضمير الإنسان المستهدف، ويتعزز عنده الإضطراب والذهان خلال عمليات التغيب. يجري التأكيد على إن النقد والتمحيص والتنقيح خروجٌ على المألوف وإنحراف لا يمكن السكوت عليه.
باتت للخرافات مؤسسات اجتماعية وعلاقات قائمة على السلطة والثروة، تشكل قوة قادرة على قمع العقل عند البسطاء مادياً وروحياً. تبذل الجهود للتطويع الاجتماعي الشامل، وإجلال قيم القطيع الكمية، القطيع الثمل ببؤسه. هذا الى جانب محاولات غسيل الدماغ الجمعي.
تقوم المغالطات بصدد موضوعة الاحتكامَ إلى الناس والعقل، على التفنن في محاولات تحويلها الى احتكام للإستعراضات الحاشدة والبائسة في الوقت ذاته. عبر محاولات انتزاع التصديق على فكرة معينة، بإثارة مشاعر الحشود وعواطفهم والوعود لبعضهم ببعض المصالح، بدلاً من تقديم حجج منطقية صائبة وصلبة. تكاد هذه الطريقة أن تكون أداةٌ من أدوات الإحتلال وعمل رجال الدعاية والإعلان والإعلام، والساسة الفاسدين ورجال الدين السياسي والأحزاب التي تمتلك بنادق قابلة للتأجير.
إستخدم الإحتلال وخدمه بعض خلاصات علم المجتمع البرجوازي عبر مقولات جاهزة يمكن تمريرها عبر التكرار، مثلاً: لتعميم قيم سرقة المال العام يقال: إن الجميع يعتقد ذلك ويفعله. تُلحق تلك المقولة الهوجاء بتأكيد يدعي القول: مادام ذلك حال الجميع فلا بُدَّ أن يكون صحيحاً. ومن أجل تهشيم قوة المجتمع تُفتح الطرق أمام المليشيات المسلحة المتناحرة، لتعميم العنف والسادية الإجتماعية.
جرى عن تعمّد تعميق التوسل بالمرجعيات عندنا، خاصة الدينية منها، مهما كان واقعها وصورتها وحتى حقيقتها. صارت هذه المسألة أحدى الحجج المنطقية المعتمدة بصلافة وتهور وعدم حياء من الشلة السياسية العصبوية المهيمنة والتابعة. تابعة ليس لجهة واحدة بل لكل من يضعها في مواقع السلطة والمال والنفوذ.
تتأسس المعرفة العلمية على الدليل والتجربة والخلاصة النظرية. وليس على التوسل بهذا الطرف أو ذاك. يترك التوسل خلفه عادة، قصوراً في الكفاءة وغدراً في الأهداف وعيباً في التعامل. إن التوسل أو التمسح لا يصمد أمام حقيقة التأكيد على أن حتى معطيات العلم تقريبية وتتغير. علينا أن نتجنب الغلو في النظر الى كل مستويات الأحداث السياسية، ومنها الإنتخابية. ولا نميل الى استهانة برأي الأغلبية ولا الأقلية، بمعنى أن تظل مسألة التدقيق والتنقيح والتحقيق قائمة. ونحذر من دمج مغالطتين معاً، لأن ذلك لا يعني إنتاج حجّة جيّدة. إن التقديس يضر المقدس، والمبالغة في التقديس ينتزع الإحترام عنه، خاصة عندما يتحول الى ستار سميك للجريمة واللصوصية والفحشاء والغدر.
جرى تحطيم مبرمج للروح الثورية، التي عُرف بها العراق بكل دأب. تضافرت من أجله جهود دول وجماعات لا يجمع بينها جامع. إنهم إقتنصوا لحظة نادرة تميزت بإتفاق المصالح الفعلية والموهومة فيما بينهم.
لا يوجد ما يثير السخرية أكثر من حديث قوى حكومية فاسدة عن الدستور، وعن السيادة من جانب قوى متنفذة في دولة الفاسدة الفاشلة، التي يجتاحها السلاح المنفلت، وضغط القوى الخارجية المؤثر، دولية منها وإقليمية. تخضع تلك القوى عملياً وفي وقت واحد بخنوع مذل لإحتلالين. مثل هذا الحديث عن السيادة والدستور خلال الحملات الإنتخابية من هؤلاء مجرد فضحية وضجة رعناء للتلهية العابثة.
يبالغ اللصوص الذين سرقوا البلاد والعباد، بالحديث حول الدور الدولي في الإنتخابات البرلمانية القادمة. هل هو دور مراقبة أم إشراف. بدأ اللطم والعويل على الدستور والسيادة الوطنية من خطر مسألة الإشراف، كأننا سويسرا، حرية ورفاهية وحيادية وكرامة في العيش. وهناك من يطرح إن الدعوة للإنتخابات المبكرة فيها تجاوز على الدستور، هذا الدستور الذي أعده سيدهم المحتل، الذي يتثاقلون منه اليوم لدوافع غير خافية على أحد. ذلك دستور الذي جرى سلقه على عجل. أي رقصة مريعة تجري في بلادنا عبر إتحاد نادر بين مأساة وملهاة، قد لا نبالغ إذا قلنا: إنها حالة قَلَّ نظيرها. إن منبع كل ذلك الردح هو الخوف على خططهم المُعدة للتزوير سلفاً. سنتناول تلك الأحداث المروعة التي مرت بها بلادنا، وكانوا جميعاً طرفاً أساسياً فيها. إعلموا أن ذاكرة الشعب العراقي حادة وعصية على أن يطويها النسيان أو الزمن.
عند الحديث عن الإنهيار المتواصل في بلادنا، لا نحتاج هنا الى ذكر ما يقوله الأحرار من أبناء شعبنا العراقي، الذين وقفوا منذ البداية بقوة ضد الحصار الإقتصادي المجرم والإحتلال الذي أعقبه. لنرى كيف بدأ ينظر بعض أشخاص والأطراف في “العملية السياسية” نفسها، حول ما وصل إليه حال العراق وعدم قناعتهم باللعبة الإنتخابية أيضاً، التي تدار من ذات الأطراف الفاشلة والقمعية على مدى خمس دورات إنتخابية سابقة.
وصل عدم القناعة بالإنتخابات الى أوساط أساسية ممن ساهموا بأدوار قيادية فيما يسمونه بـ “العملية السياسية”. فأول رئيس للحكومة العراقية تحت الإحتلال أياد علاوي أدلى في الفترة الأخيرة بأكثر من تصريح لوسائل الإعلام، قال فيها، بأنه يخجل حتى من المشاركة في الإنتخابات القادمة، وذلك بسبب هيمنة السلاح وغياب كل الشروط الضرورية لإجراء إنتخابات تحظى بالقبول والإحترام.
كما جاء في مقال موسوم بـ “انتخابات تسبقها تصفيات” للمتحدث الرسمي بإسم مجلس الحكم المنحل حميد الكفائي ما نصه: “كثيرون في العراق يعولون على الانتخابات المقبلة لتغيير النظام السياسي والإتيان بطبقة سياسية جديدة كبديل للطبقة الحالية المتهمة بتدمير العراق وسرقة أمواله، وربطه بالنظام الإيراني المحاصر دوليا وشعبيا والمرفوض عراقيا. لكن الانتخابات المقبلة لن تكون نزيهة أو شفافة بسبب غياب الأمن وتسيد المليشيات المسلحة التي بدأت ترهب المرشحين المحتملين حتى قبل أن يترشحوا”.
نذكر بعض تفاصيل آخر إنتخابات برلمانية في عام 2018. قالت لجنة تقصي الحقائق، التي شكلها البرلمان العراقي، الذي هو نفسه ثمرة تلك الإنتخابات، على أثر تشكيك الشعب العراقي بالنتائج الإنتخابية، وما سادها كالعادة من فساد فاق كل تصور. قالت اللجنة البرلمانية ما نصه بأن: “ثلاثة ملايين بطاقة إنتخابية، جرى تزويرها في الإنتخابات البرلمانية التي جرت في 12 مايو/ آيار 2018”.
بعد مرور شهر ونصف على إجراء تلك الانتخابات البرلمانية، لم يُحسَم مصير نتائجها، على الرغم من محاولة إعلانها مبكراً. لقد تأكد حدوث عمليات تزوير ضخمة، فشل أجهزة العد والفرز الإلكتروني، نشوء أزمة سياسية ما زالت قائمة، غياب الحديث عن الأغلبية الحاسمة وتقلبت حالة الائتلافات. وتلاحقت الأحداث المثيرة مثل حريق، الذي نشب بمخزن صناديق الاقتراع في بغداد/ الرصافة، تحطم الأجهزة الإلكترونية، مقتل أحد العاملين عليها في بغداد، وليس آخرها الاعتداء المسلح على منزل موظف في مفوضية الانتخابات وقتل أفراد عائلته في محافظة ديالى. ولكي تكتمل اللوحة الفجة فإن المحكمة الاتحادية جاهزة لإقرار جميع التعديلات في القانون الانتخابي، الذي شرع عشية الإنتخابات.
يواصل رئيس الوزراء العراقي المؤقت مصطفى الكاظمي حالياً التأكيد كل يوم على قدرة حكومته لتأمين انتخابات مبكرة بخطط عسكرية وأمنية محكمة، ويبرر تأجيل موعد الإنتخابات لإتاحة الوقت المناسب للترشيحات واستكمال عمليات ضمان انتخابات حرّة ونزيهةً وعادلة، دون تقدم أي دليل ملموس، يتجاوز حدود الكلام والوعود.
تعمّدنا هنا عدم نقل أي نقد أو رأي أو إتهام، جاء على لسان خصوم “العملية السياسية” الفاشلة والبائسة. إكتفينا بما جاء عن أوساطها، لأن حكمة الأمثال العربية كفيلة بتبرير أهمية ذلك. كل ما تقدم جاء من أطراف أساسية في السلطات المتنفذة في البلاد بعد الإحتلال، وجاءت بفترات مختلفة. ومن الأمثال الحجة في هذا المجال، القول: “أهل مكة أدرى بشعابها” و”صاحب البيت أدرى بالذي فيه”.
تهدف عملية تأجيل موعد الإنتخابات من 6 حزيران/ يونيو 2021 حتى تشرين الأول/ اكتوبر 2021 بالأساس الى تحسين صورة الأحزاب والكتل المهيمنة. تعمل المليشيات من جانبها على تعديل ميزانها. كما تبذل جهود واضحة وقوية بإتجاهات تتجاوز حدود التأجيل الحالي، على أمل دفعه لغاية العام القادم 2022. وبذلك تنتهي صفة الإنتخابات المبكرة، حيث يحل موعد الأربع سنوات المقرر منذ إنتخابات 2018.
يخدم هذا الهدف أو الدفع بإتجاه تأجيلات أخرى في الوقت نفسه أكثر من طرف واحد. فمليشيات إيران تريد إبقاء الورقة العراقية بيد إيران خلال المساومات الجارية بينها وبين واشنطن. كما تنال فكرة التأجيل مرة أخرى إرتياحاً في الأوساط الحكومية، إذ تمد بإعمارهم المهنية وإمتيازاتهم، وربما إحتمال الظفر بالسلطة مرة أخرى، وهنا يكمن إتفاق المصالح. إن نقطة الإلقاء عند كل الأطراف، التي تمسك بخناق الشعب العراقي، من أجل كسب الوقت لتزين صورتهم وتحقيق المزيد من المكاسب الشخصية.
يستحضر قادة المليشيات اليوم العامل الطائفي. يجري تفعيله بنشاط وهمة وإنعدام ضمير، لأنه البضاعة الوحيدة التي في حوزتهم. ينقسم الناس بصدد تقويم خطورة هذه التوجهات. ينبغي على القوى الحية في المجتمع أن تعمل بدأب وإنطلاقاً مما تم تأسيسه وتحقيقه على أيدي وتضحيات شباب تشرين في هذا المجال. نقصد إعادة الإعتبار للروح الوطنية العراقية، كما ينبغي في الوقت نفسه عدم الإستخفاف بخطورة المليشيات والأحزاب الولائية لأية جهة أو أهداف غير وطنية. إن هذا العامل الخطير مازال يمتلك مرتكزات فكرية وتعبوية ومالية ونفوذ في السلطة وسلاح ودعم خارجي.
يتبع: