الانتخابات المقبلة… اتجاهات وأبعاد
د. ضرغام الدباغ
الانتخابات لو جرت …أقول لو جرت لأننا نسمع تسريبات من هنا وهناك فكرة تأجيل الانتخابات، ويبدو بوضوح أنها، أقصد الانتخابات، ليست مهمة بصفة جوهرية، ففي العراق لا يحتاجون البرلمان إلا حينما يحتاجون تمرير قانون قذر ليضعوها بلحية النواب الكسبة على باب الله المساكين الذي يفعلون كل شيئ من أجل أن يأتي الراتب في آخر الشهر مع الامتيازات الأخرى اللازمة في بيع علني للضمير … فالنواب يهرولون إلى قوائم من يطلق عليهم مفاتيح الموقف، وهؤلاء يفحصون الأمر ليس من قبيل كفاءة ونزاهة المرشح، بل يتأكدون من سهولة إذعانه وطاعته، وسكوته عن التفاصيل المحرجة.
ولرئاسة المجلس هم يحتاجون إلى مهرج يلهي الجمهور بين الفقرات التي تقدم على السيرك، مهرج يقبض راتبا دهيناً، لا يأتي بكلمة الكرامة على طرف لسانه، شغله أن يكون ” ملهية الرعيان “، هذا العصفور النطاط الخبيث الخنيث الذي يعرفه أهل البوادي وتضرب به الأمثال، ومن أصول المصلحة أن لا يبقى في منصبه أكثر من دورة واحدة إلا إذا أثبت قدرات متميزة ليست السيادة والكرامة من بينها، فماذا يفعل إذن هذا المشوه، الذي يتحول أحياناً إلى حاجوز بين المتكافشين والمتكافشات من الدلالين والدلالات … وقد يناله بطل ماء، أو علبة كلينيكس … وعليه أن لا يغضب ولا يزعل فبين الأحباب تسقط الآداب وهو جالس في مكان، تبدو المقهى البرازيلية القديمة بالمقارنة أعلى منها شأنا ومقاماً .
الجولة المقبلة للانتخابات في الوطن الأسير، في بلد مستباح إلى أقصى حدود هذه الكلمة، ومن أبسط مظاهر الاستباحة هي وجود قوات مسلحة، بل وترتدي ملابس عسكرية وتحمل علامات وإشارات طائفية على الكتف، وينتظمون في وحدات عسكرية، ولهم من الأسلحة الساندة والساترة حتى الصواريخ والطائرات المسيرة الدرونز (موضة العصر)، ولهم سياسات وأهداف تختلف كثيرا أو قليلا عن سياسات الدولة. بلد في سجون قطاع خاص، وفيه محاكم، بلد يقيم أحكام الإعدام حتى خارج المحاكم الهزلية، فماذا نقول أكثر عن بلد فاقد للسيادة …!
إذن لماذا الانتخابات … قيل عن البرلمان الشرعي المنتخب في البلدان المحترمة، أن بوسعه أن يفعل كل شيء عدا تحويل الذكر لأنثى، فتشنا في زوايا المنطق بعد محاولات لا تخلو من الصعوبة البالغة عن مصلحة لهذا المجلس البائس، وحاولنا أن نكون موضوعيين لأقصى درجة، فلم نجد سوى وظيفة واحدة هي أن يكون المجلس كما يقول البغداديون ” ممسحة زفارة ” وما هي ترجمة هذا المثل في الواقع ..! هي أن يشتغلون في صياغة قوانين تسهل السرقات، وتغطية عورة النظام بأغطية لكي تكون لائقة بحكومة ترتدي العمائم، وتشريع الظلم … ولهذا يجب أن تكون لرئيس المجلس وأعضاؤه قابلية بدية خارقة في الرقص على الحبال والتخلي عن مصطلحات بائدة : كالعيب والناموس … والإتيان برجال ونساء درسوا أصول الفشار والردح، ودك الفج …! (الثرثرة).
كيف وصل السقوط إلى هذا المنحدر، وإلى هذه الدرجة من الانحطاط ..؟
ابتداء، الغزو والاحتلال عمل منحط وليس تصرفا راقياً، فهو عمل غير قانوني وينطوي على تخريب ووسائل عنفية، وسيبحث عن عناصر تتعاون معه من أهل البلاد، ولم يكن لأحتلال العراق أهداف تنموية وسياسية متقدمة، والمتعاونون مع المحلتين هم الفئات المنحطة وحثالات المجتمع، فماذا يمكن أن ينجم عن بداية منحطة، بأيدي عناصر منحطة وحثالات ..؟ ناهيك عن أن الاحتلال بأطرافه الثلاثة كانت مصممة على تفكيك وتدمير العراق لأنه بلغ علميا واقتصاديا واجتماعيا حداً ما ينبغي أن يصله، لذلك كان التدمير على رأس جدول الأعمال.
لمجمل هذه الأسباب الخارجية والداخلية، لم تنجح العملية السياسية، وإذا كان التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مستهدف أساساً، فإن برامج الحكومات المتعاقبة خلت من أي إشارة لمعالجة حقيقية لتراكم هائل من الإشكالات على كافة الصعد، والبرلمان في دوراته المتعاقبة لم يتمكن بل لم يتطرق ولو تلميحاً إلى إشكالات رئيسية هي تعتب من مقومات الحياة الأساسية وهي : التعليم، الصحة، الإسكان، المواصلات، الطاقة. بل تم تدمير ما كان موجوداً من أساسيات هذه القطاعات، والتراجع فيها بلغ حدوداً صعبة.
الفساد في البلاد لوحدة يمثل عقبة لا تقل خطورة عن الاحتلال. فالفساد في العراق اليوم ليس محصوراً في مجال معين، بل قد غدا للأسف جزء من الحياة الاقتصادية في البلاد، والفساد الذي يمثله موظفون فاسدون، قضية يمكن معالجتها بسهولة (نسبياً)، لكن ما يعانيه العراق اليوم هو فساد هيكلي (strukturell korrupten)، وعلاجه يستدعي تطهير شامل وواسع النطاق وهو ما سيدخل البلاد في أزمة، وعملية تطهير كهذه لا تقوم بها سوى حكومة قوية، ومؤسسات متينة، وهذه مستحقات لا تستطيع أن توفرها أنظمة منبثقة من بيئة سياسية فاسدة أصلاً، ومن ثم فالأمر ينطوي على توجه سياسي / اقتصادي / اجتماعي، من المستبعد أن يكون بوسع سلطة منبثقة من رحم العملية السياسية التي تدور من بعد الاحتلال.
لننظر للأمر من زاوية أخرى … هناك عدة عناصر متلاحمة ببعضها بشدة، المجلس النيابي ليس مكرمة من أحد، فهذه فكرة مرفوضة، وجميع السلطات تصغر أمام سلطة المجلس، الجميع موظفون يمكن إقالتهم أو تعينيهم، إلا البرلمان، وهو ليس قطعة ديكور وزخرفة لتجميل المشهد، وجميع السلطات الأخرى يمكن الاستيلاء عليها وتسخيرها في خدمة هدف معين إلا البرلمان، فهو أكبر من أن يدخل في جيب شخص أو جماعة. البرلمان يتقدم العناصر الأساسية التي لا يستقيم وجود الدولة بدونها: القضاء والحكومة.
عناصر أساس الدولة ووجودها تشكل منظومة واحدة كمؤسسات قيادية، أو كفروع، وإن أي خلل في فقرة منها، يضعف كيان الدولة ويعرضها لمخاطر جسيمة، بل وربما يعيق عمق سائر المؤسسات الأخرى. ولكن كيف يمكننا أن نتخيل وجود دولة سيادتها في مهب الريح، الفساد قد أنتقل لمرحلة من العلنية، قوى مسلحة تعمل لمصلحة أفراد وجماعات ودول أجنبية، سجون غير حكومية، وتنفيذ لأحكام خارج المحاكم، اختطاف لمواطنين ونقلهم خارج البلاد، مناطق واسعة من البلاد خارج سيطرة السلطة، جهات تستوفي ضرائب علناً، هل أوضاعا كهذه يمكن أن تسفر عنها برلمان …؟ وماذا يمكن لبرلمان كهذا أن يفعل …
عضو البرلمان يعلم متأكداً مقدر راتبه وما ينال من إكراميات وبقشيش، وحمايات وحراس وسيارات، لكن بشرط التزام الأدب وأتباع فلسفة ” التطنيش ” وهذه مفادها أن يكون لك أذن من طين وأخرى من عجين … وأتباع الحكمة المعروف ” لا أرى … لا أسمع … لا أتكلم “.
ناموا ولا تستيقضوا ما فاز إلا النوم