من هو الشيوعي ؟
محمد علي مقلد .
أول كتاباتي البحثية كانت عن الشاعر عبد المطلب الأمين. أعددت البحث بطلب من راعي الثقافة في الجنوب، الصديق حبيب صادق، الأمين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي. أذكر أنني كنت أنسخ النص ذاته أغلب الظن على “المبيضة”، وسمعي مشدود إلى تقرير كان يقدمه جورج حاوي أمام اللجنة المركزية في مقرها في منطقة الطريق الجديدة في بيروت، و ذكر فيه أن لبنان سيتعرض لاجتياح عسكري اسرائيلي قد لا يتوقف على أبواب العاصمة.
أعترف أننا جميعاً في قيادة الحزب وفي قيادات المناطق والقطاعات لم نتعامل بمسؤولية مع حجم الخطر الذي كان سيتهدد لبنان والذي نبهنا إليه التقرير، وأنني لم أكن وحيداً في التعامل مع هذا الخبر باستخفاف، وأشهد أن جورج حاوي وحده في الحزب تصرف على أساس ذلك التقدير، فيما تفاوتت تقديرات القيادات الحزبية المركزية والمناطقية لحجم الاجتياح بين بلوغه منطقة الزهراني أو على الأكثر مدينة صيدا، إذ كان الاختلاف محصوراً في تقدير مداه وفي النقطة التي يمكن أن تبلغها مسافة الأربعين كيلومتراً المحتملة. إن أنس لا أنسى، حين بدأ الاجتياح، سئل خليل الدبس، مسؤول التنظيم في الحزب، عما على القوات العسكرية فعله، فكان جوابه، افعلوا ما يفعله الفلسطينيون، ومخازن الذخيرة انقلوها إلى برجا.
لم يقلل انشغالي بتبييض البحث من اهتمامي بمضمون التقرير، لكن المحاضرة عن عبد المطلب الأمين فتحت أمام قلمي صفحة الكتابة البحثية، إذ قصدت شقرا، مسقط رأس الشاعر، وقرى أخرى والتقيت بأصدقائه وسمعت عن أخباره من عديدين من أبناء جيله، وزودني أخوه السيد حسن بديوان يضم القليل من قصائده . لكن البحث الذي وضعني على طريق طرح الأسئلة هو رسالة الدكتوراه التي بدأت أحضر لها عام 1984.
أطروحتي الجامعية أخذتني إلى قراءات جديدة كان من أهمها ما صدر في المغرب ، بعد أن تحولت حرية النشر نحو الدار البيضاء، وصارت ساحة للتفاعل مع الفكر الغربي. محمد عابد الجابري، في ثلاثيته عن الفكر العربي، فتح أمامي أفقاً جديداً شجعني على طرح السؤال: من هو الماركسي ومن هو الشيوعي؟ ذلك لأن قراءة الجابري التراث، وهو بدا مطلعاً على الماركسية من غير أن يدعي الانتساب الفكري إليها والالتزام بها، كانت أكثر إقناعاً لي من قراءة حسين مروه والطيب تيزيني، اللذين أنعم حزبهما عليهما بشهادة الانتماء إلى الشيوعية والماركسية، وتبين لي أن إفادة ممهورة بخاتم الحزب الشيوعي لا تكفي لمنح الماركسي “شهادة” بماركسيته، لأن الذين يحملون الختم هم أقل ثقافة من الفلاسفة والمفكرين الذين يستحقون الشهادة و يفنون حيواتهم في البحث العلمي.
أكد لي هذا الاستنتاج نص في مجلة الطريق كتبه رفعت السعيد، وكان يشغل منصب الأمين العام للحزب الشيوعي المصري، يروي فيه عن لسان حسن حمدان، مهدي عامل، أن الاختلاف الذي ظهر في حوارهما على مدى ست ساعات، وكلاهما يحمل شهادة حزبية بانتمائه إلى الماركسية، ناجم عن قراءتها بطريقتين مختلفتين: حسن حمدان قرأها من مصادرها الأجنبية ، بينما قرأها رفعت السعيد بعين سوفياتية.
تنويع مصادر القراءة أتاني من غسان الرفاعي الذي طلب إلينا، نحن شلة من العاملين في الحقل الثقافي في الحزب الشيوعي، سناء أبو شقرا، شفيق شعيب، مفيد قطيش، أحمد بعلبكي، نزار مروة، أن نقرأ نصاً لباحث مغربي لم أعد أذكر إسمه(ربما هو كمال عبد اللطيف) في نقد منهج حسين مروة، وعلى وجه التحديد، في نقد قراءته للتراث خلال كتابه عن النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية، وأن نبدي رأينا فيه. ومن جميل الصدف أن هذا النص الذي قرأته في نسخة مصورة ونسيت عنوانه والمجلة التي نشرته، هو الذي أحالني على الجابري وحفزني على ملاحقة ما يكتبه عن التراث العربي، بحثا عن سبيل للنهضة العربية المتعثرة، فوجدت نفسي في بيئة جديدة متحررة من ستالينية الثقافة الحزبية، ينتمي كتابها بأشكال شتى إلى الماركسية وطيفها الفكري ويتأثرون بالجابري أو يجايلونه أو يتتلمذون عليه أو يعارضونه (محمد الوقيدي، جورج طرابيشي، كمال عبد اللطيف، عبد الإله بلقزيز، صادق جلال العظم، كتنويعات وردود ماركسية على كتابات حسين مروة والطيب تيزيني).
فتحت لي هذه القراءات الجديدة الباب على فلسفات شاكست الماركسية وناكفتها من غير أن تضاهيها من بينها منهجا التحليل النفسي والبنيوية، وجعلتني أميل إلى البحث عن أسباب التخلف في بنية المجتمع العربي، في داخله لا في خارجه، وإلى اعتبار العوامل الخارجية عوامل إضافية وثانوية، وتوصلت إلى استنتاج لم أتمكن من البوح به في حينه ولمحت إليه في كتابي عن الأصوليات الصادر عام 1998، وهو أن الفكر التقدمي العربي الذي تبنيناه كان عبارة عن توليفة يسارية وقومية، وأن النزعة القومية الشوفينية تلقحت بالستالينية فأفسدتا منهج البحث العلمي عن الأسباب الحقيقية لتخلف العالم العربي، ما غلب الطابع السياسي الإيديولوجي على الطابع المعرفي في كتابات المفكرين الحزبيين.
رحت أميل بعد ذلك إلى الاعتقاد بأن الالتزام بالبنية التنظيمية الحزبية الستالينية يشكل في حد ذاته عائقاً أمام حرية التفكير والتحليل، وربما كان هذا هو ما دفعني إلى الاعتقاد بأن إحجام قيادة الحزب عن توفير احتضان معنوي لي عند نيلي الدكتوراه وانتقالي إلى حقل التعليم الجامعي، بل تعاملها معي بجفاء ورعونة، قد حرّراني من أعباء كان يفترض أن تمليها علي موجبات النضال اليومي.
فصل من سيرة ذاتية