هل مظاهرات العراقيين ضد إيران أو أمريكا؟
تحمل أيام هذا الشهر، حدثا كارثيا تحاول الذاكرة، عبثا، مسحه. إنه الشهر الذي ارتفعت فيه حمى التهيئة وتقديم «الأدلة» المبررة لغزو العراق، ومن ثم غزوه واحتلاله، من قبل امريكا وبريطانيا، بمساعدة «معارضين» عراقيين.
نلاحظ هذه الايام، انحسار تحميل البلدين مسؤولية التخريب الذي حل بالبلد والقائها، من قبل ساسة ومتظاهرين وبشكل كلي على إيران، التي لا ينكر أحد دورها التخريبي المتبدئ بأحزاب وعصائب وميليشيات ارهابية. الا أن محاولة فهم الخراب الاقتصادي والسياسي والمجتمعي لن تكتمل ما لم نعد خطوات الى الوراء لتعقب بداية المسار ومسؤولية امريكا وبريطانيا في الوضع المأساوي الحالي.
تم خلال شهر آذار/ مارس 2003، تسريع الترويج لكذبة، وتضخيمها بشكل مذهل ومبتذل في آن واحد، عن خطر عراقي يدعى أسلحة الدمار الشامل. أسلحة قيل ان بامكانها محو الشعب الأمريكي من على وجه الارض خلال ايام، وبامكانها استهداف الشعب البريطاني بيولوجيًا أو كيماويًا خلال 45 دقيقة، حسب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. كذبة تلقفتها الادارة الأمريكية، وقدمها الرئيس جورج بوش في عديد الخطب والتصريحات. « النظام العراقي يمتلك أسلحة بيولوجية وكيميائية، ويعيد بناء المنشآت لصنع المزيد، ووفقًا للحكومة البريطانية، يمكن أن يشن هجومًا بيولوجيًا أو كيميائيًا في أقل من 45 دقيقة بعد إصدار الأمر «، كرر بوش ما قاله بلير ثم أعاد المسؤولون في أمريكا وبريطانيا تدوير الأكذوبة. « ليس هناك شك في أن صدام حسين يمتلك الآن أسلحة دمار شامل. ليس هناك شك في أنه يحشدها لاستخدامها ضد أصدقائنا… وضدنا «، قال ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي. الخيار الوحيد هو الحرب « لإظهار أننا سوف ندافع عن ما نعرف أنه على حق، لإظهار أننا سنواجه أنظمة الاستبداد والديكتاتوريات والإرهابيين الذين يعرضون أسلوب حياتنا للخطر»، صرح توني بلير.
مع ازدياد قرع طبول الحرب، انتشر الخوف من الآخر، من العراق، ومن اسلحته المبيدة للحياة. تعميم دفع وزارة الداخلية الى ان تنصح الأمريكيين بتخزين الأغطية البلاستيكية والأشرطة اللاصقة لحماية أنفسهم من الهجوم الإشعاعي أو البيولوجي المتوقع. بهذه الطريقة الدعائية الإعلامية تم تجريد عموم العراقيين، وليس صدام حسين لوحده كما يدّعون، من انسانيتهم. لم يعد العراقي إنسانا يستحق الحياة بل إرهابيا يستحق الموت وبأي طريقة ممكنة حتى اذا خرقت القانون الدولي والإنساني، وحتى اذا أدى الى « التمرد ضد الولايات المتحدة و زيادة التعاطف الشعبي مع الحركات الإرهابية» كما حذر مجلس الاستخبارات القومي بوش في يناير 2003. ويشير سجل الاجتماع بين بوش وبلير في 31 يناير/ كانون الثاني 2003، أن بوش كان يعتزم غزو العراق حتى لو لم يعثر مفتشو الأمم المتحدة على دليل يثبت وجود أسلحة دمار شامل. بل كان مستعدا حسب قوله لتوني بلير أن يرسل « طائرات استطلاع يو 2، للتحليق فوق العراق وهي مطلية بألوان الأمم المتحدة لإغراء القوات العراقية بإطلاق النار عليها، الأمر الذي من شأنه أن يشكل خرقا لقرارات الأمم المتحدة» وبالتالي يدفع الأمم المتحدة الى اصدار قرار يشرعن الحرب العدوانية ضد العراق.
لم يعد العراقي إنسانا يستحق الحياة بل إرهابيا يستحق الموت وبأي طريقة ممكنة حتى إذا خرقت القانون الدولي والإنساني
اعلاميا، استفادت الادارة الأمريكية والحكومة البريطانية، من «المعارضة العراقية»، خاصة في مرحلة الترويج للحرب. وهل هناك ما هو أكثر نجاحا في التسويق من استخدام عراقيين يدعون الى « تحرير» العراق؟ وكان الكونغرس الأمريكي قد ضاعف تمويل جماعات المعارضة إلى أكثر من 25 مليون دولار في عام 2000. تم تخصيص 18 مليون دولار منها للمؤتمر الوطني العراقي الذي يتزعمه أحمد الجلبي، فقام الجلبي بتأسيس صحيفة «المؤتمر» وتوظيف مجموعة من الكتاب والشعراء الذين وجدوا أنفسهم في توجه «ليبرالي» يدعو الى بناء « الديمقراطية» ولو عن طريق شن الحرب والاحتلال. وكان الشخص الاقرب الى الجلبي والاكثر نشاطا في دعم الغزو الأمريكي هو كنعان مكية، الاستاذ الجامعي المقيم بامريكا، الذي رأى في الجلبي قائدا « مختلفا عن السياسيين العرب. لم يكن لديه أية مشكلة حول التعامل مع إسرائيل، والمسألة العربية الإسرائيلية، كما لم يكن لديه أي عظم قومي عربي في جسده». ومكية، كما هو معروف، الشخص الذي أخبر الرئيس بوش، قبل شهرين من بدء الحرب، في اجتماع في البيت الأبيض، أن العراقيين سيرحبون بقوات الغزو الأمريكي بـ «الحلوى والزهور». في مكية وجد الغزاة ضآلتهم. «أعتقد حقًا أنه سيتم الترحيب بنا كمحررين» كرر تشيني. «ما من شك أننا سنكون موضع ترحيب» قال وزير الدفاع رامسفيلد.
لم تكتف الادارة الأمريكية باستخدام المعارضة واستضافة « نسويات» عراقيات لالتقاط الصور مع بوش وكوندليزا رايس وباقي طاقم المحافظين الجدد، وهن يتحدثن عن أملهن بالتحرير، بل سبقت ذلك حملة قصف مكثفة وطلعات جوية بلغ عددها حوالي 22 ألف طلعة وقصف 349 موقعا. عاش الشعب العراقي خلالها يوميات خوف ورعب وحصار. مخاوف ناس عاديين وثقتها الفنانة الراحلة نهى الراضي، في كتابها الرائع « يوميات بغدادية».
في خطابه المشهور أمام الأمم المتحدة، الذي قدم فيه « أدلة» تثبت امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل، قال وزير الخارجية كولن باول: «كل تصريح أدلي به اليوم مدعوم بمصادر، مصادر قوية. هذه ليست تأكيدات. ما نقدمه لك هو حقائق واستنتاجات تستند إلى معلومات استخبارية قوية «. تبين، بعد الغزو، ان مصدر الحقائق التي استندت اليها أمريكا في غزوها العراق، هو مهندس عراقي لاجئ في المانيا، يدعى رافد أحمد علوان الجنابي. اعترف في 15 فبراير 2011، لصحيفة الغارديان، إنه لفّق حكايات عن شاحنات أسلحة بيولوجية متحركة ومصانع سرية بعد استنطاقه من قبل المخابرات الالمانية والبريطانية. واضاف «لقد منحوني هذه الفرصة. سنحت لي الفرصة لابتكار شيء لاسقاط النظام. كانوا يعلمون انني كاذب منذ منتصف 2000 ».
إن مراجعة سيرورة صناعة الاكاذيب التي أدت الى تخريب البلد، وقتل ما يزيد على المليون مواطن، اما بشكل مباشر أو غير مباشر، وانعكاسات الخراب على البنية الاجتماعية، وفتح الأبواب امام ارهاب الدول والمنظمات، يؤكد مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والمتعاونين معهما من العراقيين أولا، ومن الضروري التذكير بذلك لئلا ننسى، ولكي تقودنا الاحتجاجات والاعتصامات، بتكلفتها البشرية العالية، الى الاستقلال الحقيقي وليس التدمير الذاتي الناتج عن تفتيت الأدوار.
كاتبة من العراق