الخطابات «الوطنية» ومهالك المثقف الوظيفي
ماذا يعني واجب إدراك اشتراطات اللحظة التي نعيشها وعليها يتوقف نجاح أو إخفاق تجربة ما من التجارب؟ بمعنى أبسط، أننا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار كل ما يتعلق بالمحددات المحيطة بهذه اللحظة سينتهي المشروع الذي ندافع عنه، ليس فقط إلى الموت، ولكن أيضاً إلى المسؤولية التاريخية الثقيلة تجاه شعب في حالة غليان، ليس بسبب الأوضاع الحياتية القاسية فحسب، لكن بسبب الخيبات المتراكمة التي تضاف لها في كل مرة خيبة جديدة. وهو ما انتهت إليه الكثير من الدول التي خرجت من حروب وطنية تحريرية طاحنة خلفت ضحايا ومشكلات معقدة، باستثناء إفريقيا الجنوبية التي عرفت كيف تحقق نقلتها النوعية بحل المشكلات الإثنية والثقافية والاقتصادية والديمقراطية بالاعتماد على وعي كل الفئات المجتمعية الذكية من بيض وسود، وخرجت البلاد سالمة من حرب أهلية طاحنة. طبعاً لا يحتاج الأمر إلى التذكير بأن وراء هذا المنجز التاريخي يقف رجل عظيم اسمه نيلسون مانديلا، لم يعلمه ربع قرن من السجن والضغائن إلا التسامح وبناء جمهورية حقيقية على أسس ديمقراطية بكل أبنائها حتى الذين أنجبتهم فترة الأبارتيد وسياسة التمييز العنصري، الآفريكانرز. نجح مانديلا بالضبط، حيث أخفقت الجزائر بكل إمكاناتها الثقافية والاقتصادية وغناها.
منذ اللحظة الأولى من الاستقلال حلّ الخطاب الوطني الوثوقي المزهو بانتصاره على واحدة من أعتى القوى الاستعمارية في الخمسينيات والستينيات. هذا قد يكون مقبولاً في البدايات، لكن أن يتحول إلى نظام فكري فتلك هي المأساة. كل شيء عولج بالخطابات «الوطنية» (الديماغوجية) بدل الفعل المنتج والمطور للبلاد. مع عزل، وأحياناً تصفية، كل صوت معارض أو مناهض للخطاب (خيذر، كريم بلقاسم…). وبدل تسيد العقلية النقدية الإيجابية للانتقال بالبلاد إلى جمهورية ثانية حقيقة، ظل الخطاب يراوح يقينياته، وظلت المشكلات الكبرى، ومنها المشكلات الثقافية واللغوية التي كان يمكن أن تحل بسهولة، تتراكم وتتعقد. تولّد عن هذا الوضع ليس العقل النقدي المتبصر، لكن العقل التبعي الشبيه (الانتهازي) الذي يسير «مع الواقف» وفق المقولة الجزائرية، أي الذي يقف مع من يملك السلطة والقوة. قوة العقل التبعي أنه يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف. وكلما هرم الحكم مستنداً إلى ميراثه الثوري، وجد في العقل التبعي راحته وضالته، لأنه امتداده الطبيعي. لا يمكن فهم الانهيارات المتتالية للبلاد في مجال التسيير إلا من هذا الموقع. بدل الاعتماد على الطاقات الخلاقة الذكية حتى في اختلافها، والاستماع لها ومحاورتها، استمر الخطاب التضليلي هو سيد الموقف، دافعاً بالآلاف من هذه الطاقات نحو المهاجر الأوروبية. المحصلة: اقتصاد ريعي ميت وغير منتج، وزراعة في الحضيض كانت هي أساس الاقتصاد في الفترة الاستعمارية. ظل شأن البلاد وتسييره رهين ما تجود به تحولات أسعار النفط التي تتحكم فيها الكارتيلات العالمية المرتبطة عضوياً بالحاجات الاستعمارية وضروراتها. وكان المثقف التبعي والمؤسساتي يعيد إنتاج العقليات والخطابات السابقة بزهو كبير. يدير اليوم، في جزء كبير منه، شؤون البلاد والملفات الحساسة بحجة التشبيب وكأن التشبيب يتحدد فقط بعامل السن وليس بعوامل أخرى، أهمها القدرة الخلاقة على التسيير والمستوى العلمي والسياسي. فكان الخلف الطبيعي للسلف الذي أخفق كلياً في كل المشاريع، بعد تصفية كل صوت كان يرتفع رافضاً العقلية التي تسيّدت زمناً طويلاً. وباسم الوطنية وحماية البلاد من «المندسين» قتل الخطاب الوطني العقل النقدي الإيجابي، لتجد الجزائر نفسها أمام كل التطرفات الخطيرة والمهالك؟ ما يحدث اليوم هو محصلة طبيعية لسلسلة من الإخفاقات حكمتها الأنانيات السياسية والمالية في كل قطاعات الدولة، ودمرت أملاً كبيراً في جزائر كانت مؤهلة للقيام بدور حيوي في المنطقة والتحول إلى نموذج حقيقي ليس فقط في التنمية، لكن في الحكامة أيضاً والتحول الاقتصادي الحر والديمقراطي.
لا يمكن فهم الإسلاموية المناهضة للعقل والتعددية الثقافية والمعرفية، وعسكرة كل المناحي الحياة السياسية، والعشرية السوداء، وحتى الحراك من حيث هو ردة فعل حية وشعبية ضد وضع فاسد، إلا بفهم مآلات هذا الخطاب الذي إذا كان الاستقلال في البداية قد برر بعض جوانيه، لا شيء لاحقاً يبرره إلا العجز الكلي في التسيير وتسيد الأمراض المتولدة عن العقلية الضيقة.
من وضع البلاد اليوم في عنق الزجاجة؟ من خلق هذه الاستحالات السياسية التي قد تعصف بالبلاد كلياً؟ قد يكون لليد الأجنبية دورها من خلال الرغبة في الحفاظ على مصالحها المستجدة أو التاريخية، لكن الخطاب «الوطني» الكاذب الذي حلّ كل المعضلات من موقع يقينياته، وضرب الجانب الذكي في البلاد وقهر عبقريتها الشبابية الخلاقة هو الذي هيأ الأرضية الطبيعية لهذا الوضع.
الحراك في النهاية، مهما كانت نوايا مكوناته البشرية والسياسية، ليس أكثر من ردة فعل ضد هذه «الوطنية» الزائفة التي لم يعد أحد يصدقها لأنها لا تعمل إلا وفق منطق التكرار وعقلية المثقف الوظيفي التبعي. حتى عندما تتغير الوجوه، فالآلة المهيمنة تعيد إنتاج نفسها؛ فقد تمت تصفية، بالمعنى الفعلي والرمزي، كل الإرادات التي كان بإمكانها أن تضيف دافعاً إيجابياً للبلاد التي تملك كل الخيرات وشعبها فقير. الإستابلشمنت Establishment أو النظام القائم، أعتقد أنه صورة «نفخ الروح» في رئيس يعرف القاصي والداني أن مكانه المستشفى، رحمة به، وصورة وزير الطاقة والمناجم (شكيب خليل) الخزينة النفطية كما كان يسمى، الذي حُوِّل لضرورات انتخابية إلى ولي صالح وصوفي استعداداً لترشيحه كرئيس. وقبلها بقليل، كان مطلوباً للقضاء بعد أن أصدر النائب العالم لمجلس قضاء الجزائر مذكرة توقيف دولية ضده في 12 أوت 2013، وتهريب 701 طن من الكوكايين في عز النهار، ورئيس حكومة (أحمد أويحيى) يبيع السبائك الذهبية في السوق السوداء، ووزير دفاع (خالد نزار) يهرب من القضاء، متناسياً قسمه الوطني، ثم يعود وتسقط مذكرة التوقيف الدولية في حقه، وكأن شيئاً لم يكن. هذا المشهد الخرافي الدرامي، الذي قاد البلاد نحو الهاوية، لم تخلقه القوى الغربية والعدوة، لكن صنعه سدنة النظام/العصابة الذي كشف الحراك عن فضائحه، بحيث لم تعد هناك أية إمكانية لإخفاء مأساة البلاد، لدرجة أن نتساءل اليوم: أين هي الجزائر التي بشر بها الشهداء العظام ورجال العلم والعلماء والساسة؟ أحقيقة لا تنجب النار إلا الرماد؟ المشكلة الكبرى والعويصة، هل يستطيع خطاب متكلس ونظام هرم بالمعنى السياسي، أن يتجدد وهو رهين تلك العقلية التي يصعب عليه تخطيها دون انتحاره أو نحر الـــبلاد؟