“قصة” الملاحقة الإسرائيلية للمفاعل النووي العراقي

الحلقة الأولى

دراسةٌ اسرائيليةٌ تسلط الضوء على قيام اسرائيل بملاحقة ومتابعة البرنامج النووي العراقي منذ بداية انشائه في مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتى تدميره بضربة جوية عام 1981. في الفترة الاخيرة برز من جديد الاهتمام بالمفاعل النووي العراقي من قبل المؤرخين والمهتمين بهذا الشان على الرغم من مرور فترة طويلة على انشاء هذا البرنامج والذي تم تدميره بضربة جوية اسرائيلية عام 1981. هذا البرنامج الذي احدث ضجة كبيرة في حينه روجت ومهدت لها اسرائيل التي حاولت تحشيد وتجنيد الرأي العام الدولي للحيلولة دون قيامه وانشائه.

ان هذا الاهتمام في اثارة الموضوع ياتي متزامنا مع ظهور وثائق وادلة جديدة تم الحصول عليها بعد احتلال العراق على اثر الاجتياح الامريكي للعراق في اذار 2003 وكذلك محاولة اسرائيل بتوجيه الراي العام الدولي الى محاولة ايران دخول السباق النووي في المنطقة والذي افضى مؤخرا الى الاتفاق مع الدول الكبرى بعد مفاوضات مارثونية مع ايران من اجل تحييد برنامجها النووي وفق ما تم التوصل اليه في بنود ذلك الاتفاق.

وفي هذا السياق نشرت مؤخرا دراسة اسرائيلية قام بها الباحث الاسرائيلي (اوري سادوث) من جامعة برينستون سلط فيها الضوء على المراحل التي مر بها انشاء البرنامج النووي العراقي وكيفية قيام اسرائيل بملاحقة ومتابعة ذلك المشروع على عدة صعد منها الجانب السياسي وكذلك الجانب الاستخباري.

في الجانب السياسي حاولت اسرائيل ومن خلال علاقاتها الواسعة مع الراي العام الدولي باثارة ضجة كبيرة صورت من خلالها خطورة ذلك المشروع على الامن والسلم الدوليين وكذلك الضغط على مصادر القرار في المنظمات الدولية لغرض تسخير كل الامكانيات لخلق لوبي معارض لانشاء ذلك المشروع والحيلولة دون قيامه وكذلك اظهرت الدراسة الجهود المتواصلة والتي دامت اكثر من ثلاثين سنة من قبل كافة الاجهزة الامنية الاسرائيلية المختصة بهذا الجانب وفي مقدمتها جهاز الموساد وكذلك جهاز المخابرات العسكرية الاسرائيلية لغرض ايقاف ومنع العراق من ولوج المجال النووي وبشتى السبل والاساليب الاستخبارية.

وتضيف الدراسة بأن اسرائيل حددت الخطوط العامة المثالية في تعقب البرنامج النووي العراقي منذ بداية انشائه, واستخدمت في هذا الاساس الاستراتيجية الاسرائيلية المسماة (استثمار او شراء الوقت) من اجل الوصول الى الهدف الذي يتيح لها تنفيذ خطتها في ايقاف وتحييد هذا البرنامج.

وفي سياق متصل اكدت الدراسة بأن العراق بدا الاهتمام بموضوع التسلح النووي منذ بداية سنوات السبعينيات من القرن الماضي حيث جاء هذا متزامنا مع انشاء العراق وكالة الطاقة الذرية وكذلك سعى العراق على بناء علاقات مع الدول الاوربية المهتمة بهذا الشان من اجل تزويدة بالمعدات والمعلومات التي تخص الجانب النووي حيث وقع على عدة اتفاقيات تعاون مع عدد من الدول الاوربية مستثمرا سنوات الحصار النفطي لمنظمة اوبك وعلى اثرها عقد اتفاقية مع فرنسا عام 1976 بموجبها تزود فرنسا العراق بوقود نووي وكذلك التزامها بتدريب العاملين في هذا المجال.

وفي هذا السياق ايضا يضيف الباحث بأن اسرائيل وجراء هذه التطورات السريعة بدات تشعر بالخوف من تقدم العراق في مجال التسلح النووي وكذلك التطور الذي قد يحصل في تطوير الكفاءات العراقية في هذا المجال وهذا قد يعطي المساحة الواسعة للعراق في استثمار علاقاته مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وكذلك علاقاته مع الدول الغربية من الوصول السريع الى هدف العراق للحصول على مبتغاه في المجال النووي والذي تعتبره اسرائيل خطرا جما على وجودها في المنطقة.

من هنا بدات اسرائيل حملتها ضد المفاعل النووي العراقي بصورة فعلية حيث جندت ووفرت كل الوسائل السياسية والاستخبارية من اجل تعقب خطوات انشاء االمشروع العراقي خطوة بخطوة وعلى كافة الصعد , وتوضح الدراسة التفاصيل بهذا الشان حيث اكد الباحث بان المخابرات الاسرائيلية بعد معرفتها بتوقيع العراق وفرنسا اتفاقية التعاون في المجال النووي احتل هذا الموضوع سلم الاوليات في المجال الدبلوماسي الاسرائيلي.

من خلال الزيارات واللقاءات الدبلوماسية بين وزير الخارجية الاسرائيلي في ذلك الوقت يغئال الون ورئيس الحكومة الاسرائيلية اسحاق رابين وكذلك اللقاءات التي عقدت مع وزير الخارجية الامريكي هنري كيسنجر والتي انصبت حول التحرك العراقي بانشاء المفاعل النووي من خلال التعاون مع فرنسا وفق الاتفاقية انفة الذكر.

وفي موازاة التحرك السياسي صدرت التوصية للاجهزة الاستخبارية الاسرائيلية بجمع كافة المعلومات المتعلقة بانشاء البرنامج النووي العراقي من اجل تحديد الاطر المتعلقة بالقضاء عليه. وفي هذا السياق يوضح الباحث بانه تم تشكيل لجنة تحت اسم (الزمن الجديد) هدفها تنسيق المعلومات والمهمات المتعلقة بمتابعة البرنامج النووي العراقي.

واكدت هذه اللجنة بان هذا البرنامج يشكل خطرا جسيما وكبيرا على اسرائيل وان تدميره يشكل اهمية قصوى وهدفا مركزيا , ويستمر الباحث بسرد المعلومات المتعلقة بقيام اسرائيل بمتابعة البرنامج العراقي حيث اكد انه في السنوات من 1979-1981 جرت عمليات سرية كثيرة هدفها عرقلة المشروع النووي العراقي وفي مقدمة ذلك عملية حدوث انفجار في ميناء فرنسي اسمه سين مورماد حيث اصاب هذا الانفجار حاوية تحمل احد اجزاء المفاعل والذي كان معدا لشحنه وارساله الى العراق وتسبب هذا الانفجار بتصدع قاعدة المفاعل مما عرقل اتمام العملية وتاخرت عدة اشهر من عمر الزمن حيث حدث هذا الانفجار بتاريخ 6 ابريل 1979 الذي اعلنت مجموعة غير معروفة مسؤوليتها عن الحادث غير ان مساعد رئيس امن الجهاز الفرنسي اتهم اسرائيل وحملها مسؤولية الانفجار.

في موازاة ذلك يؤكد الباحث حدوث عمليات كثيرة في ايطاليا التي تعتبر المصدر الثاني للعراق في مجال التكنلوجيا التي يعتمد عليها في ذلك المجال حيث اهتز الشارع الايطالي بشهر اغسطس من عام 1980 بسلسلة تفجيرات طالت مكاتب الشركة الايطالية Techint sniai التي جهزت العراق بالجزء المركزي للمشروع النووي وكذلك تم تفجير منزل مدير الشركة في ضواحي روما.

ويضيف الباحث بأن مدير المخابرات الايطالية السابق قد اشار في مذكراته بأن العلماء والتقنيين في الشركة قد عانوا كثيرا في تلك المرحلة من موجة التهديدات التي قام بها جهاز المخابرات الاسرئيلي وجراء ذلك ترك العديد من العاملين المشروع ومن بقي منهم احتاج للحماية الشديدة من قبل عناصر الشرطة , وفي ذات السياق يستمر الباحث بسرد الاحداث التاريخية التي حدثت في تلك الفترة حيث ارتبطت العديد من عمليات الاغتيال التي طالت العلماء العرب في المدن الاوربية بالموساد الاسرائيلي والتي لها علاقة مباشرة بالقضاء على المشروع النووي العراقي.

ومن هذه العمليات اغتيال العالم النووي المصري يحيى المشد حيث وجد مقتولا في غرفته في احد الفنادق الباريسية بتاريخ 14 حزيران 1980 واتهم فيها جهاز الامن الفرنسي السفارة الاسرائيلية بالوقوف وراء عملية الاغتيال هذه وبعد هذه الحادثة بعدة اشهر اغتيل عالمان اخران في فرنسا وسويسرا عن طريق السم ويشير الباحث بأن احد علماء العراق في المجال النووي الذي هرب الى الغرب اكد بأن جميع العلماء الذين اغتيلوا استطعنا توفير البديل عنهم الا ان ما حدث كان تاثيره كبيرا جدا وفي حادثة اخرى ارسلت تهديدات لمجموعة علماء وتقنيين فرنسيين كانوا على وشك السفر الى العراق للمرة الاولى وكذلك طالت التهديدات ابناءهم عوائلهم بتلقيهم  مكالمات تلفونية وجراء تلك التهديدات ترك عشرين عالما وتقنيا تقريبا عملهم في البرنامج وفي موازاة ذلك اشار جهاز المخابرات الفرنسي ان من يقف وراء هذه التهديدات هي السفارة الاسرائيلية مستندا على مصادر تؤيد ما توصل الية بتورط اسرائيل بهذا العمل.

وفي سياق متصل بالموضوع اشار الباحث بان هناك حكاية اوردها احد رؤساء البرنامج النووي العراقي اثناء تلك الحقبة في مذكراته التي نشرت في نهاية 2012 انه اثناء اقامته في فرنسا حاولت احدى النساء التقرب واقامة علاقة صداقة مع زوجته احدى العاملات في مجال الاستطلاعات المحلية وبعد سنوات من ذلك التاريخ اتضح له بأن هذه  المرأة هي تسيفني لفني التي شغلت عدة مواقع وزارية منها وزيرة العدل وبعد ذلك الخارجية الاسرائيلية .

وفي ذات الشان ومن خلال التعقب الاسرائيلي لمشروع البرنامج النووي العراقي اشار رئيس قسم الابحاث في الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية السابق بانهم شخصوا  توقف القنوات المالية التي يستند عليها البرنامج النووي مما يجعل قيام العراق بالقيام بدفع الرشاوى لغرض شراء ما يلزم بالطرق غير القانونية ويسرد الباحث بأن المحاولات الاسرائيلية وصلت في خريف عام 1980 الى طريق اللاعودة حيث كشفت اللجنة المشكلة والمسماة (الزمن الجديد) التي مهمتها عرقلة وايقاف برنامج المفاعل النووي العراقي الى مجلس الوزراء الاسرائيلي بانهم لم يستطيعوا الاستمرار في تعقب البرنامج وانهم وصلوا الى نقطة اللاعودة والتي اشتهرت بها حكومة مناحيم  بيغن في تلك الفترة.

في الجانب الاخر اقترحت رئاسة الاركان القيام بخطط وعمليات مختلفة اخرى منها برية وهي مشابهة لعملية (عينتبة) التي جرت احداثها في اوغندا التي حصل عليها سلاح الجو الاسرائيلي قبل سنة من ذلك التاريخ F16 او عمليات جوية تنفذها طائرات.

وتشير الدراسة بأن الخيار العسكري بتوجيه ضربة جوية مباشرة الى المفاعل النووي العراقي اصبحت الخيار الاخير ومن هنا بدات مراحل الاعداد لتنفيذ الضربة من خلال جمع المعلومات الدقيقة بما يخص البرنامج حيث عرض قائد سلاح الجو الاسرائيلي بتلك الفترة (ديفيد عبري) تصورات حول نسب النجاح لتلك الضربة حيث اكد بان معطيات النجاح كبيرة جدا اما قسم الابحاث في قيادة الجيس الاسرائيلي فقد اكد على الاخذ بالاعتبار سقوط ما لا يقل عن طائرتين من مجموع 14 طائرة المشاركة في الهجوم.

وتابع الباحث بأن وكالات الاستخبارات ووزارة الخارجية اكدوا من خلال تقديرهم للموقف وماذا سيحدث بعد ذلك اكدوا بان الاصداء بعد الهجوم لم تسبب اي ضرر استراتيجي فيما يخص معاهدة السلام مع مصر وكذلك علاقات اسرائيل مع امريكا وسائر الدول الاخرى بعد كل هذه الاجراءات صودق على تنفيذ العملية حيث رافق ذلك البدء بجمع المعلومات الاستخبارية الدقيقة حيث تم التركيز على ثلاثة مجالات مركزية: الاول نقاط الضعف في المفاعل والثاني تصميم الدفاع الجوي العراقي وانتشارة حول مجمع المفاعل  وكذلك مسار الطيران الجيد او المناسب لمنع كشف العملية. وتشير الدراسة وعلى ضوء تلك المعطيات قام سلاح الجو الاسرائيلي بطلعات جوية في العمق من اجل تجربة انماط وفعالية رادارات العدو بالاضافة الى ذلك قام سلاح الجو الاسرائيلي بخرق الاجواء لبعض الدول المجاورة اثناء التمارين الجوية المعدة لهذا الغرض.

بقلم الكاتب

د. رحيم راضي الخزاعي