الكاتب / صادق الطائي
عندما جاء الأمير فيصل بن الحسين إلى العراق لتولي عرش العراق منتصف عام 1921، واجهته مشكلة كان يعرفها جيدا، وهي التنوع الكبير حد التشظي في مكونات الشعب العراقي، وكان الملك المؤسس دائم التأكيد على وجوب خلق (الأمة) العراقية، من أشتات القبائل والطوائف والأديان والقوميات، التي تعيش على هذه الأرض، وقد سعى جاهدا لخلق هوية (الدولة/الأمة) عبر ترسيخ العديد من السياقات التي سارت بخطى بطيئة أول الأمر، ثم تسارعت بعد ذلك لتصبح واقع أمة وليدة اسمها المملكة العراقية، التي دخلت عصبة الأمم عام 1932 كدولة مستقلة في آخر سنة من سنوات حكم الملك فيصل الأول.
قد يعتقد البعض أن الأمير فيصل بن الحسين، هو مجرد شيخ أو أمير بدوي قادم من الحجاز، وليست له خبرة عملية في الحياة السياسية، وهذا أمر غير صحيح بالمطلق، فقد قضى أولاد الشريف حسين، وبينهم فيصل جل فتوتهم وشبابهم في إسطنبول عاصمة الامبراطورية العثمانية، مقربين من قصر السلطان عبد الحميد، كما أصبح الشريف فيصل بن الحسين نائبا عن الحجاز في البرلمان العثماني المعروف باسم «مجلس مبعوثان» الجديد، الذي تشكل عقب الانتخابات في 17 كانون الأول/ديسمبر 1908، ومارس الحياة السياسية العملية لسنوات، ثم تولى إبان الثورة العربية الكبرى 1916 قيادة أحد جيوش والده الشريف حسين، الذي تمرد على العثمانيين، وقاتل مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، والنتيجة دخول فيصل بن الحسين إلى دمشق ليؤسس فيها مملكة وينصب ملكا على سوريا بين عامي 1918- 1920.
من المشتركات التي تخلق الهوية الوطنية، القوانين والطقوس والتقاليد والأعراف، ومنها طبعا تقاليد الأزياء، ونتيجة التنوع الإثني والطائفي والديني والقبلي في العراق، انقسمت الأزياء الرجالية إلى قسمين رئيسيين، الأول تمثل بارتداء البدلة الأوروبية مع الطربوش كغطاء رأس، وقد ارتدت هذا الزي طبقة الافندية من موظفي الحكومة، وشريحة المتعلمين والطبقة العليا من المجتمع، وكانوا بسلوكهم هذا يسايرون الحاكم العثماني في مظهره الخارجي. أما القسم الثاني، فكانوا يرتدون الأزياء التقليدية المتنوعة من الثوب العربي والعقال والشماغ في الجنوب إلى الملابس الكردية في الشمال، مع وجود التنوع الكبير في التفاصيل داخل هذه الشريحة. لقد انتبه الملك فيصل إلى أهمية خلق هوية عراقية، عندما أصبح ملك العراق عام 1921، ومن بين الخطوات التي اتخذها محاولته إيجاد لباس رأس موحد للعراقيين ليتركوا لبس الطربوش العثماني، وفي هذا المضمار تحكى عدة حكايات عن تعرف فيصل بالصدفة على القبعة، التي تعرف بـ»السدارة» فقد ذكر البعض أنها أهديت له بالصدفة في إيطاليا، وأعجبته لذلك اختارها لتكون غطاء رأس يوحد الهوية العراقية، وطلب من سكرتيره رستم حيدر، أن يجد خياطا ماهرا ليخيط منها عددا يقوم الملك باهدائه لموظفيه وضيوفه ليلبسونها ويكونوا قدوة تحتذى مجتمعيا. وهنا تجدر الاشارة إلى محاولات الملك فيصل السابقة في هذا المجال، إذ أدخل غطاء رأس جديد على اللباس العسكري الرسمي، عندما كان ملكا في سوريا، وكانت القبعة العسكرية الجديدة خلطة من الشماغ والعقال الحجازي مع القبعة الكولينالية، وبات ضباط الجيش في العهد الفيصلي في سوريا يرتدوها، كما ارتداها الملك نفسه، وظهر بها مع الزي العسكري في صورته الرسمية كملك لسوريا.
من المشتركات التي تخلق الهوية الوطنية، القوانين والطقوس والتقاليد والأعراف، ومنها طبعا تقاليد الأزياء
كما استخدمت القبعة نفسها في الجيش العراقي الوليد، لكنها لم تكن عملية في الحياة المدنية، لذا بحث فيصل ومساعدوه عن بديل، وأنا أعتقد أن اختيار السدارة لم يكن مجرد صدفة، فإذا بحثنا في تاريخ هذه القبعة «السدارة» سنفهم سبب اختيار الملك لها. تاريخيا وجدت «السدارة» في أوروبا وعرفت بـ(القبعة الصربية التقليدية) واسمها بالانكليزية (Serbian Traditional Hat) أما اسمها في صربيا حيث شاع ارتدائها فهو (Sajkaca) وقد مثلت بشكلها الذي يشبه القارب المقلوب قبعة وطنية، كان يرتديها الرجال ضمن الملابس التقليدية في الريف الصربي، وإن اسم القبعة مرتبط باسم القوات النهرية الصربية المعروفة باسم (Sajkasi) وهي قوات عسكرية لعبت دورا مميزا في حروب الإمبراطورية النمساوية ضد الأتراك العثمانيين في القرن الثامن عشر. وقد تحولت هذه القبعة إلى رمز قومي مشهور في صربيا، منذ بداية القرن التاسع عشر، وعادة ما كان لونها أسود أو رمادي اللون، وكانت تصنع من قماش ناعم محلي الصنع، وبات الرجال الصرب يرتدونها على نطاق واسع أثناء الانتفاضة الصربية الأولى ضد الاحتلال العثماني، لذلك أصبحت «السدارة» جزءا رئيسياً من الزي العسكري في الجيش الصربي منذ بداية القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين، وما زال كبار السن في صربيا يرتدون «السدارة» حتى اليوم. من ذلك نكتشف أن خيار الملك فيصل الأول عندما وقع على القبعة الصربية «السدارة» كان فيه الكثير من التخطيط كرمز مناهض للعثمانيين الذين خرج العراق للتو من ربقة سيطرتهم، وبالتالي مثّل ارتداء القبعة الجديدة خطوة «ثورية» للتخلص من الطربوش العثماني. وقد سعى بعض الصحافيين والكتّاب لتوكيد أصل القبعة الجديدة واعتبارها عربية، أو حتى سامية الأصل، مثال ذلك الرأي الذي كتبه عزيز الحجية في كتابه «بغداديات» الذي قال فيه، إن كلمة «سيدارة» كلمة جزرية (سامية ) تعني لباس الرأس، كما أشار البعض إلى ما كتبه الفيروزابادي في قاموسه، عن «السدارة» التي قال عنها، إنها عصبة الرأس، كما أشار عبد الجبار محمد الجرجيس في كتابه «أضواء على الألبسة الشعبية الموصلية» إلى أن «السدارة» تعني؛ «الوقاية تحت المقنعة والعصابة وهي شبه الخِدر» كما أشار البعض إلى أن الكلمة وردت في بعض المعاجم على انها القلنسوة بلا أصداغ.
ويبدو أن الملك المؤسس كان يعير نشر فكرة لبس القبعة الجديدة اهتماما كبيرا، ومن نوادر ما يذكر إلحاح الملك فيصل الأول على بعض الشخصيات البغدادية التي بقيت مصرة على ارتداء الطربوش بالتحول إلى «السدارة» ومن بين هذه الشخصيات النائب عبد الرزاق منير، وهو والد المعماري العراقي المعروف هشام منير، الذي حكى حادثة تحول والده من الطربوش إلى «السدارة» فقال؛ «إن ممن امتنع عن لبس السدارة النائب (عبد الرزاق منير) الذي أصر على لبس الطربوش، وذات يوم كان (أبو شوكت) عبد الرزاق منير جالسا في بيته، واذا بالملك فيصل الأول يفاجئه بالزيارة وهو يحمل كيسا صغيرا من الورق تحت ابطه، وقال له: جئتك زائرا يا (أبو شوكت) لأقدم لك هدية أرجو أن تقبلها مني! فأجابه على الفور: سيدنا شلون ما أقبلها، أقبلها وأحطها على راسي. عندئذ أخرج الملك السدارة من الكيس ووضعها على رأس الرجل، الذي بات أمام الأمر الواقع، ولم يعد بإمكانه التراجع عن وعده للملك، فاستمر يلبسها، بل ومعتزا بها لأنها هدية من ملك العراق».
ولأن بداية أمر «السدارة» كقبعة وطنية كان سياسيا، فقد تداخل أمرها مع تغيرات السياسية، إذ كان ارتداء القبعة «الفيصلية» أول الأمر اختياريا، ويخضع لقوانين الموضة وانتشارها، حتى الثاني من شباط/فبراير 1936 حين أصدرت وزارة ياسين الهاشمي، وهو من أبرز سياسيي العراق في العهد الملكي الساعين لخلق الهوية العراقية، لذلك أصدر قرارا قضى بتوحيد اعتمار العاملين في دواوين ودوائر الدولة لبس (السيدارة الفيصلية) وباتت غطاء رأس رسمي وبقرار حكومي. لكن ما أن أطاح انقلاب الفريق بكر صدقي بعد عدة أشهر حكومة ياسين الهاشمي ، حتى تغير الأمر، ونتيجة تأثر الجنرال بكر صدقي بالجنرال مصطفى أتاتورك، والجنرال رضا بهلوي، اللذين قادا حملات تحديث بلديهما تركيا وايران، لذلك سعى بكر صدقي وحكومة الانقلاب، التي ترأسها حكمت سليمان إلى إصدار قرار بمنع ارتداء «السدارة الفيصلية» واستبدالها بالقبعة الأوروبية مثلما فعل اتاتورك مع الطربوش. لكن نتيجة قصر عمر حكومة الانقلاب، التي لم تستمر سوى عشرة أشهر لم يكتب النجاح للتحول من «السدارة» إلى القبعة الأوروبية في العراق.
كاتب عراقي