كاظم حبيب
الاستبداد والقسوة والاستغلال وجور القوانين في العراق القديم
حين يواجه الشعب العراقي استبداد الحكام وجورهم المكثف والممعن في مصادرة حريتهم وحقوقهم الأساسية ودوسهم على كرامته، وحين يشعر هذا الشعب المسحوق بالاختناق الشديد نتيجة الضغط المتعاظم على صدره وأنفاسه، وحين يدرك بأن لا مناص من الانتفاض ضد هؤلاء الطغاة للخلاص الأبدي منهم، عندها يستعيد الشعب بذاكرته الحية مسألتين مهمتين هما: كيف كانت حياة هذا الشعب على امتداد تاريخه الطويل مع حكامه ومدى معاناته منهم ومن النظم السياسية والاجتماعية التي حكمته، ومدى العدالة الاجتماعية أو اللاعدالة التي تميزت بها تلك النظم وهؤلاء الحكام، لاسيما وهو يعيش في واحد من أبرز مهود الحضارة البشرية العالمية التي قدمت منجزات إنسانية كبيرة وكثيرة للبشرية بأسرها أولاً، وكيف تعامل هذا الشعب مع تلك النظم وهؤلاء الحكام، لاسيما الجبابرة منهم الذين قسوا عليه وأهانوا كرامته وأخضعوه لإرادتهم، وكيف انتفضوا في اللحظة المناسبة حين بلغ الظلم والظلام مداهما وإلى الحد الذي لم يعد ممكناً السكوت عليهما أو تحمل المزيد من المعاناة، فانتفض المجتمع بأسره ووجد طريقه للعيش بأمن وسلام ومحبة دون هؤلاء الحكام الطغاة ثانياً. الشعب في العراق يقف اليوم أمام هذه الحالة، أما نظام طائفي محاصصي فاسد وظالم وقاتل، إنه يتمعن في تاريخه وحضارته ومعاناته الراهنة ليتفجر غضباً، ثورة تسحق بإقدام المنتفضين والمنتفضات هؤلاء القساة الفاسدين والممعنين بالظلم والقهر والفساد، هؤلاء الذين قتلوا وجرحوا وتسببوا في موت مئات الآلاف من الناس الأبرياء المطالبين بحقوقهم العادلة والمشروعة وباستعادة وطنهم المستباح والسليب وحرياتهم المنتزعة وحقوقهم المصادرة. عندها يكون قد مشى الشعب بنسائه ورجاله على الطريق الصحيح لانعتاقه من جور الحكام الطائفيين والفاسدين والمفسدين الذي ولغوا بدماء الشعب وأفقروه وسرقوا لقمة عيشه وداسوا على كرامته!!!قال كارل ماركس “إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة. وما نراه الآن هو المهزلة“، أما ما يجري في العراق فهو المأساة والمهزلة في آن واحد…
الحلقة الأول: المدخل، تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق القديم
1-6
عند دراسة تطور إشكاليات الاستبداد والقسوة وجور القوانين وممارسة العقوبات القاسية باعتبارها أشكالاً للتعذيب في العراق القديم، عراق حضارة العُبيد والوركاء وجمدة نصر والسومريين والأكديين والبابليين والآشوريين والكلديين، يتطلب الأمر دراسة طبيعة المجتمع والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي سادت فيه والقوانين أو الشرائع التي وضعت حينذاك وتطورها التاريخي ومدى تعبيرها عن التغيرات التي كانت تطرأ على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية لدولة المدينة ثم للإمبراطوريات القديمة في بلاد ما بين النهرين بعناية كبيرة، إذ إنها تشير إلى الأساليب التي انتهجت من أجل الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في تلك المجتمعات، أي تلك العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية التي أنتجت تلك الأساليب والأدوات وطرق التعامل اليومي. علماً بأن من الصعب حقا الحصول على معلومات مدققة عن أساليب تنفيذ العقوبات التي استخدمت لقمع الرجال والنساء، بسبب مخالفات قانونية أو بسبب معارضتهم السياسية للحكم القائم في تلك المجتمعات. إلا أن نصوص القوانين ذاتها تساهم في الكشف عن التغيرات البطيئة التي حصلت في مضامين تلك النصوص القانونية المنظمة لحياة المجتمع من جهة، أي تلك التغيرات التي حصلت على الواقع الاقتصادي والاجتماعي القائم وانعكست على ذهنية المشرع وتجلت في التشريع الذي وضعه ليعبر عن تلك العلاقات ويسعى لحمايتها من جهة أخرى، التي ظهرت في التحولات الفعلية في مجال ممارسة الاستبداد من قبل الحاكم أو الملك واستخدام القسوة وروح الانتقام عند المشرع العراقي. فطبيعة علاقات الإنتاج التي سادت في تلك المجتمعات شكلت القاعدة المادية في تحديد طبيعة التشريعات والمواد القانونية العقابية التي تضمنتها، والتي باحت عملياً ممارسة القسوة والتعذيب والتطرف في الأحكام باعتبارها عقوبات عن مخالفات مارسها أولئك الذين تعرضوا للعقوبات.
لم تستطع التنقيبات والدراسات المتخصصة في تاريخ العراق القديم أن تعثر على قوانين منظمة للحياة العامة، بما فيها الحياة الاقتصادية والاجتماعية، خلال الألف الرابع قبل الميلاد حيث اكتشف حضارات العراق القديم، في حين أمكن العثور على قوانين منظمة لتلك الحياة في نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، أي في عهد أسرة أور الثالثة أي بحدود 2050 قبل الميلاد.
عرف العراق القديم قبل البدء بحضارة السومريين والأكديين، حضارات تل العبيد والوركاء وجمدة نصر التي امتدت بالتتابع من النصف الأول للألفية الرابعة قبل الميلاد التي تعود إلى ما يطلق عليه بالحضارة الشالكوليتية، عصر النحاس والحجر، الذي تلي العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث أو النيوليتي. في حين بدأ تاريخ السومريين والأكديين في العراق منذ بداية الألف الثالثة قبل الميلاد. تميزت هذه الفترة، كما يشير إلى ذلك السيد برهان الدين دلو، “بنمو قوى الإنتاج وتنظيم الري وتطور الزراعة وتربية الماشية إلى جانب الصيد. وظهر المنتوج الزائد (الإضافي)، ونشأت علاقات تجارية بين بلاد ما بين النهرين والدول المجاورة. وعلى الصعيد الاجتماعي تفسخت المشاعية البدائية وظهرت الفروق الاجتماعية وعدم المساواة في الثروة بين أعضاء العشيرة. وحَلت الأسرة الأبوية تدريجاً محل الأسرة الأموية. وتشكلت الطبقات، وقامت الحروب بين القبائل أو بين المدن، وحول الأسرى إلى عبيد للعمل في اقتصاد النبلاء وفي مشاريع الري. وظهرت لأول مرة في تاريخ العالم المركبات ذات العجلات التي تجرها الحمير. واخترع دولاب الفخار” (أنظر: دلو، برهان الدين. حضارة مصر والعراق، ط 1، دار الفارابي، بيروت، 1989، ص 205).
وعندما تكون الحياة بهذا المستوى من التطور فلا بد أن تكون لها قواعد وأسس منظمة للحياة ولعلاقات الملكية الجديدة، إلا أنها لم تكن مكتوبة، إذ أن هذه الفترة لم تعرف الكتابة بعد، ولكنها استقرت على شكل تقاليد وعادات أو أعراف تسري على أفراد العائلة أو القبيلة.
ورث السومريون والأكديون حضارات الألف الرابعة قبل الميلاد ومزجوها بحضاراتهم وطوروها في الألف الثالثة قبل الميلاد. ولم يمنحنا العلماء المنقبون والدارسون للتاريخ العراقي القديم حتى الآن أية معلومات عن تشريعات صادرة في الألف الثالث قبل الميلاد فيما عدا تلك التي اكتشف في منتصف القرن الأخير من الألفية الثالثة. والذي أطلق عليه “قانون أور نمو“. عاشت في العراق القديم ومنذ الألف الثالثة قبل الميلاد قبائل كثيرة كونت لها قرى ودويلات مدن عديدة في مناطق مختلفة من بلاد الرافدين، فإلى جانب السومريين وجُد الأكديون والآشوريون والغوتيون في آن واحد، ثم جاء العيلاميون وفيما بعد الآموريون والكدانيون والميديون، وفي فترة لاحقة حيث جرى احتلال العراق القديم من قبل الساسانيين الذين قضوا على الدولة الكلدانية. ونشأت في فترات معينة دولة مركزية واحدة حكمت بلاد ما بين النهرين ثم انهارت لصالح دولة مركزية أخرى أو لصالح بعض الحكام المستقلين الذين أسسوا سلالات جديدة لتزدهر لفترة من الزمن ثم تنهار ثانية، كما حصل في سلالة أور الثالثة السومرية.
تشير الدراسات المتخصصة بمجتمعات العراق القديم، ابتداءً من العهد السومري المبكر والأكدي، إلى أنها كانت تعيش عملية تحول متقدمة وقاطعة شوطاً بعيداً في تفسخ العلاقات المشاعية البدائية، أي التحول من علاقات إنتاجية قائمة على أساس ملكية وسائل الإنتاج المشتركة للأرض والحيوانات والأسرى وتقسيم عمل اجتماعي بدائي وتوزيع الإنتاج في إطار العائلة أو القبيلة أو دولة المدينة التي كانت تقوم على أساس القبيلة الواحدة أو اتحاد عدة قبائل، إلى مجتمع العلاقات القائمة على العبودية، وهو مجتمع زراعي يقوم على الملكية الفردية للأرض والحيوانات والإنتاج وتقسيم أكثر تطوراً للعمل الاجتماعي. كما عرف هذا المجتمع تقدماً كبيراً في هيمنة الرجل على العائلة وتراجع كبير في دور المرأة، إذ عجزت المرأة في الحفاظ على دورها الأساسي والمهم السابق، وأجبرت على ترك دورها المركزي ومكانتها البارزة في العائلة أو القبيلة لصالح الرجل. وبدأ منذ ذلك الحين الاضطهاد والتمييز البارزين إزاء المرأة في مجتمع بلاد ما بين النهرين. ولكن المرأة في العراق القديم، وخاصة في العهدين السومري والأكدي، وكذلك في عهد العيلاميين والآموريين، استطاعت الاحتفاظ بمكانة اجتماعية مهمة ولائقة نسبياً وعلى موقع ملموس بين كهنة المعبد، وأن تحافظ على حقوق معينة في شريعة حمورابي. وأبرز مثال على هذا التحول في المكانة الاجتماعية لصالح الرجل تجسده ملحمة گلگامش، رغم ما تعكسه ذات الملحمة من تعسف وقسر ينزله گلگامش بالمرأة. (الحيدري، إبراهيم د.، النظام الذكوري ومشكلة الجنس عند العرب، دار الساقي، لندن، 2003، ص 117-150).
إن المنازعات والحروب قد مزقت الدولة السومرية – الأكدية وجعلتها عرضة للسقوط تحت ضربات الغوتيين القادمين من جبال زاغروس في الشمال، وهم من أسلاف الشعب الكردي، حيث استطاعوا السيطرة على المنطقة وإقامة دولتهم وسيطرتهم على بلاد ما بين النهرين وإقامة مركز حكمهم في مدينة أرانجا (كركوك حالياً). احتفظ الغوتيون بمملكتهم طوال تسعين عاماً تقريباً (2150-2061 ق.م). (أنظر: دلو، برهان الدين، حضارة مصر والعراق، ط 1، دار الفارابي، بيروت، 1989، ص220-221).
كانت الحروب أو الغزوات المتبادلة بين دويلات المدن السومرية أو الأكدية تشكل جزءاً من السياسات التي مارستها كل القبائل التي عاشت في هذه المنطقة. وكان الهدف من وراء ذلك تحقيق الأهداف الأساسية التالية:
- توسيع رقعة الأرض التي تحت تصرفها خاصة إذا كانت المنطقة التي تقوم بغزوها تحتل موقعا أفضل وفيها موارد مادية أكثر، بما فيها خصوبة الأرض أو قربها من مياه الأنهار أو إنها تقع على طريق القوافل التجارية.
- الحصول على ثروات عينية كالحيوانات والأسلحة وغيرها باعتبارها أسلاب حرب يستولي عليها المنتصر.
- الحصول على عدد كبير من الأسرى من النساء والرجال والأطفال الذين كانوا يتحولون إلى عبيد ويسخرون للعمل لصالح المنتصرين، أو يعملون كعبيد في خدمة الملك والقادة العسكريين والمعابد والكهنة والمحاربين، إذ أن العلاقات الإنتاجية التي سادت العراق القديم كانت تقوم على العبودية.
- التصدي المسبق لاحتمالات التجاوز عليها من قبل القبائل ودويلات المدن الأخرى، أو مواجهة نشاط قطاع الطرق التي كانت تنطلق من مواقع أخرى ضد هذه القبيلة أو تلك.
- عقد اتفاقيات للتعاون وعدم الاعتداء المتبادل أو التحالف لمواجهة أخطار أخرى تأتي من جار لها أو عدو يطمع فيها وفي الأرض التي تحت تصرفها والموارد التي فيها. إضافة إلى الغزو الخارجي الذي كانت تتعرض له عبر الهجرات الواسعة حينذاك من مناطق مختلفة مجاورة لبلاد ما بين النهرين.
وإذا كانت هذه الوجهة تحدد طبيعة علاقات هذه الدويلة أو تلك إزاء الخارج، فأن القوانين الوضعية المنظمة للحياة الداخلية كانت تشير بوضوح إلى طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة في داخل هذه الدويلة أو القبيلة أو تلك.
منذ العهد السومري – الأكدي المتقدم تبلورت في بلاد ما بين النهرين جملة من الملامح الجديدة التي تجلت بشكل متميز في فترة الدولة العیلامية والعمورية، أي في نهاية الألف الثالثة والربع الأول من الألف الثانية قبل الميلاد وما بعدها، والتي نحاول تلخيصها في النقاط التالية:
- أصبح الملك أو الحاكم يجسد إرادة الإله في المملكة، كما أعتبر نصفه من الآلهة ونصفه الآخر من البشر. وسمح له ادعاء القرابة بالآلهة أن يفرض مبدأ الوراثة في حكم البلاد. وأصبح الملك يتسلم تشريعاته من الآلهة، كما تعكسها المسلة الشهيرة، حيث يتسلم حمورابي تشريعاته من إله الشمس. وبالتالي أصبحت هذه التشريعات ملزمة للتنفيذ دون قيد أو شرط وليست مطروحة للمناقشة أو الطعن بها من أفراد المجتمع، فهي تشريعات إلهية مقدسة.
- أصبح الملك يركز في يديه “السلطة المطلقة في الأمور التشريعية والتنفيذية والإدارية والقضائية”، وبالتالي أصبح الملك حاكماً مستبداً بشكل مطلق. (أنظر: جماعة من العلماء السوفييت، العراق القديم: دراسة تحليلية لأحواله الاقتصادية والاجتماعية، ترجمة سليم طه التكريتي، ط 2، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1986، ص 306).
- وكان كهنة المعبد هم حلفاء الملك في ممارسة سلطته. إلا أنهم كانوا يطمحون ويسعون في الوقت نفسه إلى اقتسام السلطة معه، لما ينجم عن ذلك من اقتسام للأرض والعبيد والثروة، إضافة إلى الجاه والنفوذ الاجتماعي. وكان الصراع بين الملك والكهنة يصل أحياناً إلى حالة التأزم. وكان الأمر الحاسم يكمن في مدى قوة الملك أو الكهنة في هذا الصراع، وأحياناً غير قليلة كانت المساومة بينهما تساهم في تهدئة ذلك الصراع. ومنذ العهد السومري المتقدم، بدأت القوى الدينية (كهنة المعبد) القبول بالسلطة المطلقة للحاكم “وإضفاء شرعية فكرية على السلطة الملكية الاستبدادية على كل بلاد سومر. وفي هذا العصر ولدت ايضاً نظرية القرابة الإلهية الأساسية التي تنتقل ذاتياً من حاكم إلى حاكم مولود…”. (أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 299). وكانت نتيجة هذا التحالف المزيد من الظلم والاستغلال والقهر للسكان، لاسيما الأسرى الذين تحولوا إلى عبيد لدى الحكام والكهنة أو لدى الميسورين.
- وإزاء تنامي دور الملك المستبد المطلق، تقلص “دور أجهزة الحكومة الذاتية المحلية (بما في ذلك محاكم العدالة في المجتمع) …إلى أدنى حد”… “وأحاط الملوك أنفسهم بطبقة من النبلاء العسكريين والإداريين وخلقوا جيشاً ثابتاً وكبيراً”. (المصدر السابق نفسه، ص 298). وأدت هذه الحالة إلى تنامي الفجوة بين المجتمع والملك والكهنة، مما ساهم بدفع عامة الشعب إلى الوقوف إلى جانب المتمردين من الأمراء ضد ملوكهم. وكانت حصيلة ذلك في فترة سرجون الأكدي ذبح الآلاف من السومريين. (المصدر السابق نفسه، ص 294). وهنا يتبين أيضاً بأن انتقال السلطة من السومريين إلى الأكديين لم تتم بالطرق السلمية والهادئة بل عبر الصراعات والنزاعات والكثير من التحركات المضادة.
- وخلال هذه الفترة تمت سيطرة الملك وكهنة المعبد والقادة العسكريين والفئات القريبة من الحكم على النسبة العظمى من الأراضي الزراعية، إضافة إلى امتلاك عدد متزايد من العبيد والثروة. ففي عهد الآموريين وخلال حكم حمورابي للدولة البابلية، 1793-1750 ق.م، كانت الأراضي التي يطلق عليها اسم “أراضي التاج” تشكل القسم الأعظم من الأراضي الزراعية والمخصصة للرعي وموزعة على النحو التالي:
“أ. الأراضي الملكية الأصلية التي تتكون من المراعي وأراضي صناديق الاحتياط.
ب. الأراضي المخصصة للمواطنين الملكيين وأصحاب الحرف والمحاربين والكهنة.
ج. الأراضي المخصصة إلى جماعات أصحاب الحصص في الحاصلات.”. (أنظر: المصدر السابق نفسه، ص 302-303).
إضافة إلى ذلك وجدت مساحات من الأراضي الأخرى غير خاضعة لهذا التقسيم، ولكنها تعتبر ضمن مزارع ومراعي التاج، ولكنها تعود إلى أفراد المجتمع وتعرف باسم الأراضي الداخلية التي تعود للفلاحين الفرديين الأحرار وللفلاحين المتوسطين ممن يمتلك بعض العبيد. وتميزت المجتمعات العراقية في هذه الفترة بوجود الطبقة الحاكمة التي كانت تتمثل بالملك والكهنة والقادة العسكريين وكبار الموظفين الملكيين من جهة، وبالعبيد من جهة أخرى، إضافة إلى وجود فئات الأحرار من الكسبة والحرفيين والمزارعين الفرديين. وفي إطار الطبقة الأولى كان هناك تقسيماً ملموساً بين فئاته المختلفة، إذ كانت فئة الكهنة تشكل مجموعة مهمة من كبار مالكي الأراضي باسم المعبد أو حتى بأسمائهم الشخصية، ويقومون في الوقت نفسه بتقديم القروض بفوائد عالية جداً ساهمت في تقليص ثروة المجتمع وقدرته على النمو والتطور، إذ أن كانت هذه الفئة من ملاكي الأراضي الكهنة يتوجهون صوب تكنيز تلك الثروة بدلاً من توظيفها، كما كانت فئة الملاكين من غير الكهنة والمحاربين تمارس النهج التكنيزي للمال ذاته.
وكان على السلطة في مثل هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي، سواء في العهود الأكدية أو العيلامية أو الآمورية، أو فيما بعد، أن تحدد العلاقات في ما بين فئات المجتمع إزاء ملكية الأرض والعبيد والدولة وإزاء تنظم التعامل في ما بين هذه الفئات. ولهذا صدرت تلك القوانين التي اكتشافها حتى الآن. ويمكن هنا تأكيد حقيقة أن الفترات التي لا نمتلك عنها تشريعات لا تعني أنها لم تكن قد وضعت ما يماثل تلك القوانين، ولكنها لم تكن مسجلة بسبب عدم معرفة الكتابة حينذاك. وما وصلنا منها يشير إلى أنها كانت موجودة وأنها كانت ترتبط بعملية تطور متواصلة، سواء عبر المجتمع ذاته أم عبر وقوعه تحت الاحتلال ومجيء حكام يترأسون أقواماً أخرى ولها قوانينها وشرائعها وأساليب حياتها وأنماط تفكيرها وتحديد أسس العلاقات القائمة فيما بينها ومع المجتمعات الأخرى.